الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الحافظ المزي: ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أتبع لهما منه.
وقال ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد.
وقال ابن عبد الهادي: الشيخ الإمام الرباني، إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم، سيد الحفاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر، وحيد الدهر، شيخ الإسلام، بركة الأنام، علامة الزمان، وترجمان القرآن، علم الزهاد، وأوحد العباد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين.
وقال ابن كثير: وبالجملة؛ كان رحمه الله من كبار العلماء، وممن يخطئ ويصيب، ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي، وخطؤه أيضا مغفور له. توفي رحمه الله تعالى محبوسا في قلعة دمشق سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
•
موقفه من المبتدعة:
فمن أقواله رحمه الله:
- اعلم أن هذه القاعدة وهي: الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته، قاعدة عامة عظيمة، وتمامها بالجواب عما يعارضها. وذلك أن من الناس من يقول: البدع تنقسم إلى قسمين: حسنة وقبيحة. بدليل قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح (نعمت البدعة هذه) وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست بمكروهة، أو هي حسنة، للأدلة الدالة على ذلك من الإجماع أو القياس؛ وربما يضم إلى ذلك
من لم يحكم أصول العلم، ما عليه كثير من الناس من كثير من العادات ونحوها، فيجعل هذا أيضا من الدلائل على حسن بعض البدع: إما بأن يجعل ما اعتاد هو ومن يعرفه إجماعا، وإن لم يعلم قول سائر المسلمين في ذلك، أو يستنكر تركه لما اعتاده بمثابة من {إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} (1). وما أكثر ما قد يحتج بعض من يتميز من المنتسبين إلى علم أو عبادة بحجج ليست من أصول العلم التي يعتمد في الدين عليها؛ والغرض: أن هذه النصوص الدالة على ذم البدع معارضة بما دل على حسن بعض البدع إما من الأدلة الشرعية الصحيحة، أو من حجج بعض الناس التي يعتمد عليها بعض الجاهلين، أو المتأولين في الجملة. ثم هؤلاء المعارضون لهم هنا مقامان:
أحدهما: أن يقولوا: إذا ثبت أن بعض البدع حسن وبعضها قبيح، فالقبيح ما نهى عنه الشارع، وما سكت عنه من البدع فليس بقبيح؛ بل قد يكون حسنا، فهذا مما يقوله بعضهم.
المقام الثاني: أن يقال عن بدعة معينة: هذه البدعة حسنة، لأن فيها من المصلحة كيت وكيت. وهؤلاء المعارضون يقولون: ليست كل بدعة ضلالة.
والجواب: أما القول: «إن شر الأمور محدثاتها، وأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» ، والتحذير من الأمور المحدثات. فهذا نص رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)، فلا
(1) المائدة الآية (104).
(2)
سيأتي تخريجه قريبا.
يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع، ومن نازع في دلالته فهو مراغم.
وأما المعارضات فالجواب عنها بأحد جوابين: إما أن يقال: إن ما ثبت حسنه فليس من البدع، فيبقى العموم محفوظا لا خصوص فيه. وإما أن يقال: ما ثبت حسنه فهو مخصوص من العموم، والعام المخصوص دليل فيما عدا صورة التخصيص.
فمن اعتقد أن بعض البدع مخصوص من هذا العموم، احتاج إلى دليل يصلح للتخصيص، وإلا كان ذلك العموم اللفظي المعنوي موجبا للنهي. ثم المخصص هو الأدلة الشرعية، من الكتاب والسنة والإجماع، نصا واستنباطا، وأما عادة بعض البلاد، أو أكثرها، أو قول كثير من العلماء، أو العباد، أو أكثرهم ونحو ذلك، فليس مما يصلح أن يكون معارضا لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يعارض به. ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمع عليها، بناء على أن الأمة أقرتها ولم تنكرها، فهو مخطئ في هذا الاعتقاد، فإنه لم يزل، ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة، وما يجوز دعوى الإجماع بعمل بلد، أو بلاد من بلاد المسلمين، فكيف بعمل طوائف منهم؟! وإذا كان أكثر أهل العلم لم يعتمدوا على عمل علماء أهل المدينة وإجماعهم في عصر مالك، بل رأوا السنة حجة عليهم كما هي حجة على غيرهم، مع ما أوتوه من العلم والإيمان، فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادات أكثر من اعتادها عامة، أو من قيدته العامة، أو قوم مترأسون بالجهالة، لم يرسخوا في العلم، لا يعدون من أولي الأمر، ولا يصلحون للشورى، ولعلهم لم يتم إيمانهم بالله وبرسوله، أو قد دخل معهم
فيها بحكم العادة قوم من أهل الفضل، عن غير روية، أو لشبهة أحسن أحوالهم فيها أن يكون فيها بمنزلة المجتهدين من الأئمة والصديقين؟!
والاحتجاج بمثل هذه الحجج، والجواب عنها معلوم أنه ليس طريقة أهل العلم، لكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس، حتى من المنتسبين إلى العلم والدين، وقد يبدي ذو العلم والدين فيها مستندا آخر من الأدلة الشرعية، والله يعلم أن قوله بها وعمله لها ليس مستندا إلى ما أبداه من الحجة الشرعية، وإن كانت شبهة، وإنما هو مستند إلى أمور ليست مأخوذة عن الله ورسوله، من أنواع المستندات التي يستند إليها غير أولي العلم والإيمان، وإنما يذكر الحجة الشرعية حجة على غيره، ودفعا لمن يناظره.
والمجادلة المحمودة، إنما هي إبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال، وأما إظهار الاعتماد على ما ليس هو المعتمد في القول والعمل، فنوع من النفاق في العلم والجدل، والكلام والعمل.
وأيضا فلا يجوز حمل قوله صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة» على البدعة التي نهى عنه بخصوصها، لأن هذا تعطيل لفائدة هذا الحديث، فإن ما نهى عنه من الكفر والفسوق وأنواع المعاصي، قد علم بذلك النهي أنه قبيح محرم، سواء كان بدعة أو لم يكن بدعة، فإذا كان لا منكر في الدين إلا ما نهى عنه بخصوصه، سواء كان مفعولا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يكن، وما نهى عنه، فهو منكر، سواء كان بدعة أو لم يكن، صار وصف البدعة عديم التأثير، لا يدل وجوده على القبح، ولا عدمه على الحسن، بل يكون قوله:«كل بدعة ضلالة» بمنزلة قوله: كل عادة ضلالة. أو: كل ما عليه العرب أو
العجم فهو ضلالة. ويراد بذلك: أن ما نهى عنه من ذلك فهو الضلالة .. وهذا تعطيل للنصوص من نوع التحريف والإلحاد، وليس من نوع التأويل السائغ، وفيه من المفاسد أشياء. (1)
ثم ذكر هذه المفاسد من خمسة أوجه في المقام الأول في الرد عليهم ثم بسط القول في المقام الثاني إلى أن قال:
ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلية، وهي قوله:«كل بدعة ضلالة» بسلب عمومها، وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة. فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل، بل الذي يقال فيما ثبت أنه حسن من الأعمال التي قد يقال هي بدعة-: إن هذا العمل المعين -مثلا- ليس ببدعة، فلا يندرج في الحديث، أو إن اندرج لكنه مستثنى من هذا العموم لدليل كذا وكذا، الذي هو أقوى من العموم، مع أن الجواب الأول أجود. وهذا الجواب فيه نظر: فإن قصد التعميم المحيط ظاهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة الجامعة، فلا يعدل عن مقصده -بأبي هو وأمي- عليه الصلاة والسلام. (2)
- وقال: وكذلك ما يحدثه بعض الناس: إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما. والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع -من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا (3). مع
(1) الاقتضاء (2/ 582 - 586).
(2)
الاقتضاء (2/ 587 - 588).
(3)
هذا القول لا يسلم لشيخ الإسلام رحمه الله وقد رد عليه الشيخ حامد الفقي ضمن تعليقه على الاقتضاء ونقلنا رده هذا في مواقفه رضي الله عنه فلينظر هناك.
اختلاف الناس في مولده- فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه. ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا، لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص. وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته، وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطنا وظاهرا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان. فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان. وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حراصا على أمثال هذه البدع، مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم بهما المثوبة، تجدهم فاترين في أمر الرسول، عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه، أو يقرأ فيه ولا يتبعه، وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلا، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجادات المزخرفة، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع، ويصحبها من الرياء والكبر، والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها. (1)
- وقال: ودين الإسلام مبني على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين، وهو ما أمرت به الرسل أمر إيجاب أو أمر استحباب، فيعبد في كل زمان بما أمر به في ذلك الزمان. فلما كانت شريعة التوراة محكمة كان العاملون بها مسلمين، وكذلك شريعة الإنجيل.
وكذلك في أول الإسلام لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس،
(1) الاقتضاء (2/ 615 - 616).
كانت صلاته إليه من الإسلام، ولما أمر بالتوجه إلى الكعبة كانت الصلاة إليها من الإسلام، والعدول عنها إلى الصخرة خروجا عن دين الإسلام. فكل من لم يعبد الله بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بما شرعه الله من واجب ومستحب فليس بمسلم. (1)
- وقال: والبدع دهليز الكفر والنفاق، كما أن التشيع دهليز الرفض، والرفض دهليز القرمطة والتعطيل، فالكلام الذي فيه تجهم هو دهليز التجهم، والتجهم دهليز الزندقة والتعطيل. (2)
- وقال: وتارة يجعلون -يعني أهل الكلام- إخوانهم المتأخرين أحذق وأعلم من السلف، ويقولون:(طريقة السلف أسلم، وطريقة هؤلاء أعلم وأحكم)، فيصفون إخوانهم بالفضيلة في العلم والبيان، والتحقيق والعرفان، والسلف بالنقص في ذلك والتقصير فيه، أو الخطأ والجهل؛ وغايتهم عندهم: أن يقيموا أعذارهم في التقصير والتفريط.
ولا ريب أن هذا شعبة من الرفض، فإنه وإن لم يكن تكفيرا للسلف -كما يقوله من يقوله من الرافضة والخوارج- ولا تفسيقا لهم -كما يقوله من يقوله من المعتزلة والزيدية وغيرهم- كان تجهيلا لهم وتخطئة وتضليلا، ونسبة لهم إلى الذنوب والمعاصي، وإن لم يكن فسقا، فزعما: أن أهل القرون المفضولة في الشريعة أعلم وأفضل من أهل القرون الفاضلة؛ ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة
(1) مجموع الفتاوى (1/ 189 - 190).
(2)
مجموع الفتاوى (2/ 230).
والجماعة من جميع الطوائف: أن خير قرون هذه الأمة -في الأعمال والأقوال والاعتقاد، وغيرها من كل فضيلة، أن خيرها-: القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه (1)، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة: من علم، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان، وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل. هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على علم؛ كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:(من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات. فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد: أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم)، وقال غيره:(عليكم بآثار من سلف فإنهم جاءوا بما يكفي وما يشفي، ولم يحدث بعدهم خير كامنٌ لم يعلموه). (2)
- وقال: ولهذا تجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم، وما تأولوه من اللغة؛ ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين؛ فلا يعتمدون لا على السنة، ولا على إجماع السلف وآثارهم؛ وإنما يعتمدون على العقل واللغة، وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف، وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعتها
(1) انظر تخريجه في مواقف إسماعيل الأصبهاني سنة (535هـ).
(2)
مجموع الفتاوى (4/ 157 - 158).
رؤوسهم، وهذه طريقة الملاحدة أيضا؛ إنما يأخذون ما في كتب الفلسفة، وكتب الأدب واللغة، وأما كتب القرآن والحديث والآثار، فلا يلتفتون إليها. هؤلاء يعرضون عن نصوص الأنبياء إذ هي عندهم لا تفيد العلم، وأولئك يتأولون القرآن برأيهم وفهمهم بلا آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. (1)
- وقال: وأهل السنة في الإسلام؛ كأهل الإسلام في الملل؛ وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون، وإنما يضلهم علماؤهم؛ فعلماؤهم شرارهم، والمسلمون على هدى، وإنما يتبين الهدى بعلمائهم، فعلماؤهم خيارهم؛ وكذلك أهل السنة، أئمتهم خيار الأمة؛ وأئمة أهل البدع، أضر على الأمة من أهل الذنوب. ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الخوارج، ونهى عن قتال الولاة الظلمة، وأولئك لهم نهمة في العلم والعبادة؛ فصار يعرض لهم من الوساوس التي تضلهم -وهم يظنونها هدى، فيطيعونها- ما لا يعرض لغيرهم، ومن سلم من ذلك منهم كان من أئمة المتقين مصابيح الهدى، وينابيع العلم. (2)
- وقال: فالمسلمون سنيهم وبدعيهم متفقون على وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومتفقون على وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، ومتفقون على أن من أطاع الله ورسوله فإنه يدخل الجنة ولا يعذب، وعلى أن من لم يؤمن بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فهو كافر، وأمثال هذه الأمور التي هي أصول الدين، وقواعد الإيمان التي اتفق
(1) مجموع الفتاوى (7/ 119).
(2)
مجموع الفتاوى (7/ 284 - 285).
عليها المنتسبون إلى الإسلام والإيمان، فتنازعهم بعد هذا في بعض أحكام الوعيد أو بعض معاني بعض الأسماء أمر خفيف بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه، مع أن المخالفين للحق البين من الكتاب والسنة هم عند جمهور الأمة معروفون بالبدعة، مشهود عليهم بالضلالة، ليس لهم في الأمة لسان صدق ولا قبول عام، كالخوارج والروافض والقدرية ونحوهم. وإنما تنازع أهل العلم والسنة في أمور دقيقة تخفى على أكثر الناس؛ ولكن يجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله. (1)
- وقال: ومن البدع المنكرة: تكفير الطائفة غيرها من طوائف المسلمين، واستحلال دمائهم وأموالهم، كما يقولون: هذا زرع البدعي ونحو ذلك، فإن هذا عظيم لوجهين:
أحدهما: أن تلك الطائفة الأخرى قد لا يكون فيها من البدعة أعظم مما في الطائفة المكفرة لها، بل تكون بدعة المكفرة أغلظ أو نحوها أو دونها. وهذا حال عامة أهل البدع الذين يكفر بعضهم بعضا، فإنه إن قدر أن المبتدع يكفر، كفر هؤلاء وهؤلاء. وإن قدر أنه لم يكفر لم يكفر هؤلاء ولا هؤلاء، فكون إحدى الطائفتين تكفر الأخرى ولا تكفر طائفتها، هو من الجهل والظلم، وهؤلاء من الذين قال الله تعالى فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (2).
(1) مجموع الفتاوى (7/ 357).
(2)
الأنعام الآية (159).
والثاني: أنه لو فرض أن إحدى الطائفتين مختصة بالبدعة لم يكن لأهل السنة أن يكفروا كل من قال قولا أخطأ فيه، فإن الله سبحانه قال:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1) وثبت في الصحيح أن الله قال: «قد فعلت» (2) وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} (3) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان» وهو حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره. (4)
وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أنه ليس كل من قال قولا
(1) البقرة الآية (286).
(2)
أخرجه أحمد (1/ 233) ومسلم (1/ 116/126) والترمذي (5/ 206/2992) والنسائي في الكبرى (6/ 307/11059) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
الأحزاب الآية (5).
(4)
أخرجه ابن ماجه (1/ 659/2045) من طريق الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا: وقال البوصيري: "إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع، والظاهر أنه منقطع بدليل زيادة عبيد بن عمير في الطريق الثاني -يشير إلى طريق الطحاوي والبيهقي والحاكم- وليس ببعيد أن يكون السقط من جهة الوليد بن مسلم فإنه كان يدلس". وقال الحافظ في الفتح (5/ 201 - 202): "وأخرجه الفضل بن جعفر التيمي في فوائده بالإسناد الذي أخرجه به ابن ماجه ورجاله ثقات إلا أنه أعل بعلة غير قادحة فإنه من رواية الوليد عن الأوزاعي عن عطاء عنه، وقد رواه بشر بن بكر عن الأوزاعي فزاد (عبيد بن عمير) بين عطاء وابن عباس". وأخرجه أيضا الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 95) والدارقطني (4/ 170 - 171) وابن حبان (16/ 202/7219) والطبراني في الصغير (1/ 282/752) والبيهقي (7/ 356) والحاكم (2/ 198) وابن حزم في الأحكام (5/ 149) من طريق بشر بن بكر وأيوب بن سويد قالا: ثنا الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير عن ابن عباس به. وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي". والحديث حسنه النووي في الأربعين وأقره الحافظ في التلخيص الحبير (1/ 281) .. وقال البيهقي: "جود إسناده بشر بن بكر وهو من الثقات". وللحديث شواهد ذكرها الزيلعي في نصب الراية (2/ 64 - 65) وابن رجب في شرح الأربعين (361) والسخاوي في المقاصد الحسنة (228 - 230) وقال: "ومجموع هذه الطرق يظهر أن للحديث أصلا".
أخطأ فيه أنه يكفر بذلك، وإن كان قوله مخالفا للسنة، فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع. (1)
- وقال: فيحتاج العبد أن ينفي عنه شيئين: الآراء الفاسدة، والأهواء الفاسدة، فيعلم أن الحكمة والعدل فيما اقتضاه علمه وحكمته، لا فيما اقتضاه علم العبد وحكمته، ويكون هواه تبعا لما أمر الله به، فلا يكون له مع أمر الله وحكمه هوى يخالف ذلك. قال الله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (2)، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» (3) رواه أبو حاتم في صحيحه. وفي الصحيح أن عمر قال له: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من نفسي. قال:«الآن يا عمر» (4). وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (5) وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا
(1) مجموع الفتاوى (7/ 684 - 685).
(2)
النساء الآية (65).
(3)
سيأتي تخريجه في مواقف ابن كثير سنة (774هـ).
(4)
أخرجه أحمد (4/ 233و336) والبخاري (11/ 641/6632).
(5)
أخرجه أحمد (3/ 177و275) والبخاري (1/ 80/15) ومسلم (1/ 67/44) والنسائي (8/ 488/5028) وابن ماجه (1/ 26/67 من حديث أنس رضي الله عنه.
وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (1)
فإذا كان الإيمان لا يحصل حتى يحكم العبد رسوله ويسلم له، ويكون هواه تبعا لما جاء به، ويكون الرسول والجهاد في سبيله مقدما على حب الإنسان نفسه وماله وأهله، فكيف في تحكيمه الله تعالى والتسليم له؟! (2)
- وقال: وقد كتبت في غير هذا الموضع أن المحافظة على عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة» متعين، وأنه يجب العمل بعمومه، وأن من أخذ يصنف البدع إلى حسن وقبيح، ويجعل ذلك ذريعة إلى أن لا يحتج بالبدعة على النهي فقد أخطأ، كما يفعل طائفة من المتفقهة، والمتكلمة، والمتصوفة، والمتعبدة؛ إذا نهوا عن العبادات المبتدعة والكلام في التدين المبتدع ادعوا أن لا بدعة مكروهة إلا ما نهى عنه، فيعود الحديث إلى أن يقال: كل ما نهى عنه أو كل ما حرم أو كل ما خالف نص النبوة فهو ضلالة وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان، بل كل ما لم يشرع من الدين فهو ضلالة. (3)
- وقال: فما أمر به آخر أهل السنة من أن داعية أهل البدع يهجر فلا يستشهد ولا يروى عنه، ولا يستفتى ولا يصلى خلفه، قد يكون من هذا الباب؛ فإن هجره تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة أو غيرها، وإن كان في نفس الأمر تائبا أو معذورا؛ إذ الهجرة
(1) براءة الآية (24) ..
(2)
مجموع الفتاوى (10/ 288).
(3)
مجموع الفتاوى (10/ 370 - 371).
مقصودها أحد شيئين: إما ترك الذنوب المهجورة وأصحابها، وإما عقوبة فاعلها ونكاله. (1)
- وقال: وكل من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله، فقد دعا إلى بدعة وضلالة. والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى صراطه المستقيم، فإن الشريعة مثل سفينة نوح عليه السلام: من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وقد قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2)، وقال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (3). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: «إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (4). وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في سياق حجة الوداع: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله تعالى» (5). وفي الصحيح: «أنه قيل لعبد الله بن أبي أوفى: هل وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال: لا، قيل: فلم، وقد كتب الوصية على الناس؟
(1) مجموع الفتاوى (10/ 376 - 377).
(2)
الأنعام الآية (153).
(3)
الأعراف الآية (3).
(4)
سيأتي تخريجه قريبا.
(5)
أخرجه مسلم: (2/ 890/1218) وأبو داود (2/ 462/1905) وابن ماجه (2/ 1025/3074) كلهم من حديث جابر الطويل في حجة الوداع بلفظ "
…
وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟
…
".
قال: «وصى بكتاب الله» (1).
وقد قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (2)، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (3)، ومثل هذا كثير. وأما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له، وفي مقام النظر أيضا، فعليه أن يعتصم أيضا بالكتاب والسنة، ويدعو إلى ذلك، وله أن يتكلم مع ذلك، ويبين الحق الذي جاء به الرسول بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة، فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة. (4)
- وقال: وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: «إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (5). فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازعت فيه
(1) أخرجه: أحمد (4/ 381) والبخاري (5/ 448/2740) ومسلم (3/ 1256/1634) والترمذي (4/ 376/2119) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب". والنسائي (6/ 550/3622) وابن ماجه (2/ 900/2696).
(2)
البقرة الآية (213).
(3)
النساء الآية (59).
(4)
درء التعارض (1/ 234 - 235).
(5)
أحمد (3/ 310 - 311و319و371) ومسلم (2/ 592/867) والنسائي (3/ 209 - 210/ 1577) وابن ماجه (1/ 17/45) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
الأمة ردوه إلى الله والرسول، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته، ويوالي عليها ويعادي، غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينصب لهم كلاما يوالى عليه ويعادى، غير كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة، يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون. (1)
- وقال في مناظرته للبطائحية: وذكرت ذم المبتدعة، فقلت: روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: «إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (2). وفي السنن عن العرباض بن سارية قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» وفي رواية: «وكل ضلالة في النار» (3).
فقال لي: البدعة مثل الزنا، وروى حديثا في ذم الزنا، فقلت: هذا
(1) درء التعارض (1/ 272) ومجموع الفتاوى (20/ 164) بنحوه.
(2)
تقدم تخريجه قريبا.
(3)
انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزنا معصية، والبدعة شر من المعصية، كما قال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. وكان قد قال بعضهم: نحن نتوب الناس، فقلت: مماذا تتوبونهم؟ قال: من قطع الطريق، والسرقة، ونحو ذلك. فقلت: حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم؛ فإنهم كانوا فساقا يعتقدون تحريم ماهم عليه، ويرجون رحمة الله، ويتوبون إليه، أو ينوون التوبة، فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما يبغضه الله، ويبغضون ما يحبه الله. وبينت أن هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي.
قلت مخاطبا للأمير والحاضرين: أما المعاصي فمثل ما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب: أن رجلا كان يدعى حمارا، وكان يشرب الخمر، وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كلما أتي به النبي صلى الله عليه وسلم جلده الحد، فلعنه رجل مرة، وقال: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» . (1) قلت: فهذا رجل كثير الشرب للخمر، ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله شهد له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك ونهى عن لعنه.
وأما المبتدع فمثل ما أخرجا في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وعن أبي سعيد الخدري وغيرهما -دخل حديث بعضهم في بعض- أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقسم، فجاءه رجل ناتئ الجبين، كث
(1) أخرجه البخاري (12/ 89/6780).
اللحية، محلوق الرأس، بين عينيه أثر السجود، وقال ما قال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» وفي رواية: «لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل» وفي رواية: «شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه» . (1)
قلت: فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم، وما هم عليه من العبادة والزهادة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرت قول الشافعي: لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله، خير من أن يبتلى بشيء من هذه الأهواء. فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنها أظلم من الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنهم مبتدعون بدعا منكرة، فيكون حالهم أسوأ من حال الزاني والسارق وشارب الخمر، أخذ شيخهم عبد الله يقول: يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز -يعني أتباع أحمد ابن الرفاعي-، فقلت منكرا بكلام غليظ: ويحك، أي شيء هو الجناب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعز يا ذا (2) الزرجنة تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله؟! فقال: يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، فقلت: مثل ما أحرقني
(1) أخرجه: أحمد (3/ 68و73) والبخاري (8/ 84/4351) ومسلم (2/ 741 - 742/ 1064) وأبو داود (5/ 121 - 122/ 4764) والنسائي (5/ 92 - 93/ 2577).
(2)
بالأصل "يا ذو" والصواب ما أثبتناه.
الرافضة لما قصدت الصعود إليهم وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم، ويقول أصحابهم: إن لهم سرا مع الله، فنصر الله وأعان عليهم، وكان الأمراء الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسره الله في أمر غزو الرافضة بالجبل.
وقلت لهم: يا شبه الرافضة، يا بيت الكذب -فإن فيهم من الغلو، والشرك، والمروق عن الشريعة، ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم، وفيهم من الكذب ما قد يقاربون به الرافضة في ذلك، أو يساوونهم، أو يزيدون عليهم، فإنهم من أكذب الطوائف، حتى قيل فيهم: لا تقولوا أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا أكذب من الأحمدية على شيخهم- وقلت لهم: أنا كافر بكم وبأحوالكم، {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)} (1).
ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة، أخذوا يطلبون مني كتبا صحيحة ليهتدوا بها، فبذلت لهم ذلك. وأعيد الكلام: أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام، واستقر الكلام على ذلك. والحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. (2)
- وقال: فالبدع تكون في أولها شبرا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذرعا وأميالا وفراسخ. (3)
- وقال: فعلى المسلم الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يجتهد في أن يعرف ما أخبر به الرسول وأمر به علما يقينيا؛ وحينئذ فلا يدع المحكم المعلوم
(1) هود الآية (55).
(2)
مجموع الفتاوى (11/ 471 - 475).
(3)
مجموع الفتاوى (8/ 425).
للمشتبه المجهول، فإن مثال ذلك: مثل من كان سائرا إلى مكة في طريق معروفة لا شك أنها توصله إلى مكة إذا سلكها، فعدل عنها إلى طريق مجهولة لا يعرفها، ولا يعرف منتهاها؛ وهذا مثال من عدل عن الكتاب والسنة إلى كلام من لا يدري هل يوافق الكتاب والسنة أو يخالف ذلك.
وأما من عارض الكتاب والسنة بما يخالف ذلك فهو بمنزلة من كان يسير على الطريق المعروفة إلى مكة؛ فذهب إلى طريق قبرص يطلب الوصول منها إلى مكة، فإن هذا حال من ترك المعلوم من الكتاب والسنة، إلى ما يخالف ذلك من كلام زيد وعمرو كائنا من كان، فإن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأيت في هذا الباب من عجائب الأمور مالا يحصيه إلا العليم بذات الصدور!! (1)
- وقال: وإنما المقصود هنا التنبيه على الجمل، فإن كثيرا من الناس يقرأ كتبا مصنفة في أصول الدين وأصول الفقه بل في تفسير القرآن والحديث ولا يجد فيها القول الموافق للكتاب والسنة الذي عليه سلف الأمة وأئمتها، وهو الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول، بل يجد أقوالا كل منها فيه نوع من الفساد والتناقض، فيحار ما الذي يؤمن به في هذا الباب؟! وما الذي جاء به الرسول، وما هو الحق والصدق، إذ لم يجد في تلك الأقوال ما يحصل به ذلك؟! وإنما الهدى فيما جاء به الرسول الذي قال الله فيه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
(1) مجموع الفتاوى (13/ 258 - 259).
الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} (1).اهـ (2)
- وقال: ومن علم أن الرسول أعلم الخلق بالحق، وأفصح الخلق في البيان، وأنصح الخلق للخلق، علم أنه قد اجتمع في حقه: كمال العلم بالحق، وكمال القدرة على بيانه، وكمال الإرادة له، ومع كمال العلم والقدرة والإرادة يجب وجود المطلوب على أكمل وجه، فيعلم أن كلامه أبلغ ما يكون، وأتم ما يكون، وأعظم ما يكون بيانا لما بينه في الدين من أمور الإلهية وغير ذلك. فمن وقر هذا في قلبه لم يقدر على تحريف النصوص بمثل هذه التأويلات التي إذا تدبرت وجد من أرادها بذلك القول من أبعد الناس عما يجب اتصاف الرسول به، وعلم أن من سلك هذا المسلك فإنما هو لنقص ما أوتيه من العلم والإيمان، وقد قال تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (3). فنسأل الله أن يجعلنا وإخواننا ممن رفع درجاته من أهل العلم والإيمان. (4)
- وقال: فلا تجد قط مبتدعا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك، كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه. (5)
(1) الشورى الآيتان (52و53).
(2)
مجموع الفتاوى (17/ 102).
(3)
المجادلة الآية (11).
(4)
مجموع الفتاوى (17/ 129).
(5)
مجموع الفتاوى (20/ 161 - 162).
- وقال: ومن هنا يعرف ضلال من ابتدع طريقا، أو اعتقادا زعم أن الإيمان لا يتم إلا به، مع العلم بأن الرسول لم يذكره، وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين، وما لم يعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة. (1)
- وقال: ويجب أن يعلم: أن الأمور المعلومة من دين المسلمين لا بد أن يكون الجواب عما يعارضها جوابا قاطعا لا شبهة فيه؛ بخلاف ما يسلكه من يسلكه من أهل الكلام، فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين.
وقد أوجب الله على المؤمنين: الإيمان بالرسول والجهاد معه، ومن الإيمان به تصديقه في كل ما أخبر به، ومن الجهاد معه دفع كل من عارض ما جاء به وألحد في أسماء الله وآياته. (2)
- وقال: ولهذا تجدهم عند التحقيق مقلدين لأئمتهم فيما يقولون إنه من العقليات المعلومة بصريح العقل، فتجد أتباع أرسطو طاليس يتبعونه فيما ذكره من المنطقيات والطبيعيات والإلهيات، مع أن كثيرا منهم قد يرى بعقله نقيض ما قاله أرسطو، وتجده لحسن ظنه به يتوقف في مخالفته، أو ينسب النقص في الفهم إلى نفسه، مع أنه يعلم أهل العقل المتصفون بصريح العقل أن في المنطق من الخطأ البين ما لا ريب فيه؛ كما ذكر في غير هذا الموضع. وأما
(1) مجموع الفتاوى (20/ 163).
(2)
مجموع الفتاوى (20/ 164 - 165).
كلامه وكلام أتباعه: كالإسكندر الأفروديسي، وبرقلس، وثامسطيوس، والفارابي، وابن سينا، والسهروردي المقتول، وابن رشد الحفيد، وأمثالهم في الإلهيات، فما فيه من الخطأ الكثير، والتقصير العظيم، ظاهر لجمهور عقلاء بني آدم، بل في كلامهم من التناقض ما لا يكاد يستقصى.
وكذلك أتباع رؤوس المقالات التي ذهب إليها من ذهب من أهل القبلة، وإن كان فيها ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ففيها أيضا من مخالفة العقل الصريح ما لا يعلمه إلا الله، كأتباع أبي الهذيل العلاف، وأبي إسحاق النظام، وأبي القاسم الكعبي، وأبي علي، وأبي هاشم، وأبي الحسين البصري، وأمثالهم.
وكذلك أتباع من هو أقرب إلى السنة من هؤلاء، كأتباع حسين النجار، وضرار بن عمرو، مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث الذي ناظر أحمد بن حنبل، ومثل حفص الفرد الذي كان يناظر الشافعي.
وكذلك أتباع متكلمي أهل الإثبات كأتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد ابن كلاب وأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن كرام، وأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري وغيرهم.
بل هذا موجود في أتباع أئمة الفقهاء، وأئمة شيوخ العبادة، كأصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، تجد أحدهم دائما يجد في كلامهم ما يراه هو باطلا، وهو يتوقف في رد ذلك، لاعتقاده أن إمامه أكمل منه عقلا وعلما ودينا، هذا مع علم كل من هؤلاء أن متبوعه ليس بمعصوم، وأن الخطأ جائز عليه، ولا تجد أحدا من هؤلاء يقول: إذا تعارض