المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ موقفه من المشركين: - موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية - جـ ٨

[المغراوي]

فهرس الكتاب

- ‌ موقفه من المبتدعة:

- ‌ موقفه من المشركين:

- ‌ موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الخوارج:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقف السلف من الدكاكي الزنديق (741 ه

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الخوارج:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الخوارج:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقف سلطان الوقت من محمد بن عبد المعطي المخرف (760 ه

- ‌موقف السلف من محمد زبالة الزنديق (761 ه

- ‌موقف السلف من عثمان بن محمد الدقاق الزنديق (761 ه

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقف السلف من محمود بن إبراهيم الشيرازي الرافضي (766 ه

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الخوارج:

- ‌ موقفه من عبد الرحمن بن الأشعث ومن بايع له:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من الزنادقة والمشركين:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من الخوارج:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الخوارج:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الخوارج:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الخوارج:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌الجزولي وضلاله (870 ه

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌ابن حجر الهيتمي (973 ه

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌عبد الوهاب الشعراني: ترهاته ومخازيه (973 ه

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌إبراهيم بن سليمان الحنفي الأزهري (كان حيا سنة 1100 ه

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌الشيخ مربد بن أحمد بن عمر التميمي وعداؤه للدعوة السلفية (1181 ه

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الخوارج:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الجهمية:

الفصل: ‌ موقفه من المشركين:

قولي وقول متبوعي قدمت قولي مطلقا، لكنه إذا تبين له أحيانا الحق في نقيض قول متبوعه، أو أن نقيضه أرجح منه قدمه، لاعتقاده أن الخطأ جائز عليه. فكيف يجوز أن يقال: إن في كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة الثابتة عنه ما يعلم زيد وعمرو بعقله أنه باطل؟! وأن يكون كل من اشتبه عليه شيء مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قدم رأيه على نص الرسول صلى الله عليه وسلم في أنباء الغيب التي ضل فيها عامة من دخل فيها بمجرد رأيه، بدون الاستهداء بهدى الله، والاستضاءة بنور الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، مع علم كل أحد بقصوره وتقصيره في هذا الباب، وبما وقع فيه من أصحابه وغير أصحابه من الاضطراب. (1)

•‌

‌ موقفه من المشركين:

كان الشيخ رضي الله عنه معارضا للشرك ومظاهره، وكم له من الأيادي البيضاء في ذلك بالفعل وباللسان وبالقلم، وسأذكر نماذج من فعله بيده الشريفة ثم نعرج على ذكر المحنة.

- جاء في البداية والنهاية: وفي هذا الشهر بعينه -أي رجب-، راح الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى مسجد التاريخ وأمر أصحابه ومعهم حجارون بقطع صخرة كانت بنهر قلوط تزار وينذر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيما. وبهذا وأمثاله حسدوه وأبرزوا له العداوة وكذلك بكلامه في ابن عربي وأتباعه، فحسد على ذلك وعودي، ومع هذا لم تأخذه في الله لومة لائم ولا

(1) درء التعارض (1/ 151 - 155).

ص: 26

بالى، ولم يصلوا إليه بمكروه، وأكثر ما نالوا منه الحبس، مع أنه لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام ولم يتوجه لهم عليه ما يشين وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه. (1)

- قال ابن كثير: وفي مستهل ذي الحجة ركب الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين ومعه نقيب الأشراف زين الدين بن عدنان، فاستتابوا خلقا منهم، وألزموهم بشرائع الإسلام ورجع مؤيدا منصورا. (2)

- وجاء في الكواكب الدرية: (ذكر حبس الشيخ بقلعة دمشق إلى أن مات فيها) قالوا: لما كان سنة ست وعشرين وسبعمائة، وقع الكلام في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى قبور الأنبياء والصالحين، وكثر القيل والقال بسبب العثور على جواب الشيخ الآتي، وعظم التشنيع على الشيخ، وحرف عليه، ونقل عنه ما لم يقله، وحصلت فتنة طار شررها في الآفاق، واشتد الأمر، وخيف على الشيخ من كيد القائمين في هذه القضية بالديار الشامية والمصرية، وضعف من أصحاب الشيخ من كان عنده قوة، وجبن منهم من كانت له همة.

وأما الشيخ رحمه الله فكان ثابت الجأش، قوي القلب، وظهر صدق توكله واعتماده على ربه.

ولقد اجتمع جماعة معروفون بدمشق وضربوا مشورة في حق الشيخ،

(1) البداية والنهاية (14/ 36).

(2)

البداية (14/ 37).

ص: 27

فقال أحدهم: ينفى. فنفي القائل.

وقال آخر: يقطع لسانه، فقطع لسان القائل. وقال آخر: يعزر، فعزر القائل.

وقال آخر يحبس فحبس القائل، أخبر بذلك من حضر هذه المشورة وهو كاره لها.

واجتمع جماعة آخرون بمصر، وقاموا في هذه القضية قياما عظيما، واجتمعوا بالسلطان، وأجمعوا أمرهم على قتل الشيخ، فلم يوافقهم السلطان على ذلك، وأرضى خاطرهم بالأمر بحبسه.

فلما كان يوم الاثنين سادس شعبان من السنة المذكورة، ورد مرسوم السلطان بأن يكون في القلعة، وأحضر للشيخ مركوب، فأظهر السرور بذلك، وقال: أنا كنت منتظرا ذلك، وهذا فيه خير عظيم، فركب إلى القلعة، وأخليت له قاعة حسنة، وأجري إليها الماء، ورسم له بالإقامة فيها، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ورسم له بما يقوم بكفايته.

وفي يوم الجمعة عاشر الشهر المذكور، قرئ بجامع دمشق الكتاب السلطاني الوارد بذلك، وبمنعه من الفتيا

(1)

ثم ذكر السؤال الذي وجه إلى الشيخ، وأجوبة الشيخ على السؤال، وهي معروفة بحمد الله فلا نطيل بنقلها.

وله من المواقف المنثورة في كتبه ما يشرف هذه المسيرة التاريخية:

- وقال رحمه الله في بيان ضلال ابن سينا: وابن سينا تكلم في أشياء

(1) الكواكب الدرية (148 - 149).

ص: 28

من الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع، لم يتكلم فيها سلفه، ولا وصلت إليها عقولهم ولا بلغتها علومهم، فإنه استفادها من المسلمين، وإن كان إنما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية. وكان هو وأهل بيته وأتباعهم معروفين عند المسلمين بالإلحاد، وأحسن ما يظهرون دين الرفض وهم في الباطن يبطنون الكفر المحض

والمقصود هنا: أن ابن سينا أخبر عن نفسه أن أهل بيته وأباه وأخاه كانوا من هؤلاء الملاحدة، وأنه إنما اشتغل بالفلسفة بسبب ذلك، فإنه كان يسمعهم يذكرون العقل والنفس، وهؤلاء المسلمون الذين ينتسب إليهم، هم مع الإلحاد الظاهر والكفر الباطن، أعلم بالله من سلفه الفلاسفة: كأرسطو وأتباعه، فإن أولئك ليس عندهم من العلم بالله ما عند عباد مشركي العرب ما هو خير منه

وابن سينا لما عرف شيئا من دين المسلمين، وكان قد تلقى ما تلقاه عن الملاحدة وعمن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة، أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء وبين ما أخذه من سلفه. ومما أحدثه: مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات، بل وكلامه في بعض الطبيعيات، وكلامه في واجب الوجود ونحو ذلك. (1)

- وقال: والمعنى الثالث، الذي أحدثه الملاحدة كابن سينا وأمثاله، قالوا: نقول العالم محدث، أي معلول لعلة قديمة أزلية أوجبته، فلم يزل معها، وسموا هذا الحدوث الذاتي وغيره: الحدوث الزماني. والتعبير بلفظ "الحدوث"

(1) مجموع الفتاوى (9/ 133 - 135) باختصار.

ص: 29

عن هذا المعنى لا يعرف عن أحد من أهل اللغات، لا العرب ولا غيرهم، إلا من هؤلاء الذين ابتدعوا لهذا اللفظ هذا المعنى. والقول بأن العالم محدث بهذا المعنى فقط ليس قول أحد من الأنبياء ولا أتباعهم، ولا أمة من الأمم العظيمة، ولا طائفة من الطوائف المشهورة التي اشتهرت مقالاتها في عموم الناس، بحيث كان أهل مدينة على هذا القول، وإنما يقول هذا طوائف قليلة مغمورة في الناس.

وهذا القول، إنما هو معروف عن طائفة من المتفلسفة المليين، كابن سينا وأمثاله. وقد يحكون هذا القول عن أرسطو، وقوله الذي في كتبه: أن العالم قديم، وجمهور الفلاسفة قبله يخالفونه، ويقولون: إنه محدث، ولم يثبت في كتبه للعالم فاعلا موجبا له بذاته، وإنما أثبت له علة يتحرك للتشبه بها، ثم جاء الذين أرادوا إصلاح قوله فجعلوا العلة أولى لغيرها، كما جعلها الفارابي وغيره، ثم جعلها بعض الناس آمرة للفلك بالحركة، لكن يتحرك للتشبه بها كما يتحرك العاشق للمعشوق، وإن كان لا شعور له ولا قصد، وجعلوه مدبرا بهذا الاعتبار -كما فعل ابن رشد وابن سينا- جعلوه موجبا بالذات لما سواه، وجعلوا ما سواه ممكنا. (1)

- وقال: وهذه الطرق التي أخذها ابن سينا عن المتكلمين، من المعتزلة ونحوهم، وخلطها بكلام سلفه الفلاسفة، صار بسبب ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة، يستطيل بها على المسلمين، ويجعل القول الذي قاله هؤلاء هو قول المسلمين. وليس الأمر كذلك، وإنما هو قول مبتدعتهم،

(1) درء التعارض (1/ 126 - 127).

ص: 30

وهكذا عمل إخوانه القرامطة الباطنية: صاروا يلزمون كل طائفة من طوائف المسلمين بالقدر الذي وافقوهم عليه مما هو مخالف للنصوص، ويلزمونهم بطرد ذلك القول حتى يخرجوهم عن الإسلام بالكلية.

ولهذا كان لهؤلاء وأمثالهم نصيب من حال المرتدين، الذين قال الله تعالي فيهم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} (1). ولهذا آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى عبادة الأوثان، والشرك بالرحمن، مثل دعوة الكواكب والسجود لها، أو التصنيف في ذلك، كما صنفه الرازي وغيره في ذلك. (2)

- وقال: وهذا الذي ذكرته يجده من اعتبره في كتب ابن سينا كالإشارات وغيرها، ويتبين للفاضل أنه إنما بنى إلحاده في قدم العالم على نفي الصفات، فإنهم لما نفوا الصفات والأفعال القائمة بذاته، وسموا ذلك توحيدا، ووافقهم ابن سينا على تقرير هذا النفي الذي سموه توحيدا، بين امتناع القول بحدوث العالم مع هذا الأصل، وأظهر تناقضهم. ولكن قوله في قدم العالم أفسد من قولهم، ويمكن إظهار تناقض قوله، أكثر من إظهار تناقض أقوالهم. فلهذا تجده في مسألة قدم العالم يردد القول فيها، ويحكي كلام الطائفتين وحجتهم كأنه أجنبي، ويحيل الترجيح بينهما إلى نظر الناظر، مع ظهور

(1) المائدة الآية (54).

(2)

درء التعارض (8/ 239).

ص: 31

ترجيحه لقول القائلين بالقدم. وأما مسألة نفي الصفات فيجزم بها، ويجعلها من المقطوع به الذي لا تردد فيه، فإنهم يوافقون عليها، وهو بها تمكن من الاحتجاج عليهم في قدم العالم، وبها تمكن من إنكار المعاد، وتحريف الكلم عن مواضعه، وقال: نقول في النصوص الواردة في المعاد كما قلتم في النصوص الواردة في الصفات، وقال: كما أن الكتب الإلهية ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في التوحيد، يعني التوحيد الذي وافقته عليه المعتزلة، وهو نفي الصفات بناء على نفي التجسيم والتركيب؛ فكذلك ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في أمر المعاد. وبنى ذلك على أن الإفصاح بحقيقة الأمر لا يمكن خطاب الجمهور به، وإنما يخاطبون بنوع من التخييل والتمثيل الذي ينتفعون به فيه، كما تقدم كلامه.

وهذا كلام الملاحدة الباطنية الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته، وكان منتهى أمرهم تعطيل الخالق، وتكذيب رسله، وإبطال دينه. ودخل في ذلك باطنية الصوفية، أهل الحلول والاتحاد، وسموه تحقيقا ومعرفة وتوحيدا. ومنتهى أمرهم هو إلحاد باطنية الشيعة، وهو أنه ليس إلا الفلك وما حواه وما وراء ذلك شيء. (1)

- وقال: ليس مراد ابن سينا بالتوحيد: التوحيد الذي جاءت به الرسل، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، مع ما يتضمنه من أنه لا رب لشيء من الممكنات سواه، فإن إخوانه من الفلاسفة من أبعد الناس عن هذا التوحيد، إذ فيهم من الإشراك بالله تعالى، وعبادة ما سواه، وإضافة التأثيرات

(1) درء التعارض (8/ 241 - 243).

ص: 32

إلى غيره، بل ما هو معلوم لكل من عرف حالهم، ولازم قولهم إخراج الحوادث كلها عن فعله.

وإنما مقصوده التوحيد الذي يذكره في كتبه: وهو نفي الصفات، وهو الذي شارك فيه المعتزلة وسموه أيضا توحيدا. وهذا النفي الذي سموه توحيدا، لم ينزل به كتاب، ولا بعث به رسول، ولا كان عليه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هو مخالف لصريح المعقول، مع مخالفته لصحيح المنقول. (1)

- وقال: وحدثني غير مرة رجل، وكان من أهل الفضل والذكاء والمعرفة والدين، أنه كان قد قرأ على شخص سماه لي، وهو من أكابر أهل الكلام والنظر، دروسا من 'المحصل' لابن الخطيب، وأشياء من 'إشارات' ابن سينا. قال: فرأيت حالي قد تغير. وكان له نور وهدى، ورؤيت له منامات سيئة، فرآه صاحب النسخة بحال سيئة، فقص عليه الرؤيا، فقال: هي من كتابك.

و'إشارات' ابن سينا يعرف جمهور المسلمين الذين يعرفون دين الإسلام أن فيها إلحادا كثيرا، بخلاف 'المحصل' يظن كثير من الناس أن فيه بحوثا تحصل المقصود. قال فكتبت عليه:

محصل في أصول الدين حاصله أصل الضلالات والشك المبين فما

من بعد تحصيله أصل بلا دين

فيه فأكثره وحي الشياطين

قلت: وقد سئلت أن أكتب على 'المحصل' ما يعرف به الحق فيما

(1) درء التعارض (8/ 246 - 247).

ص: 33

ذكره، فكتبت من ذلك ما ليس هذا موضعه. وكذلك تكلمت على ما في 'الإشارات' في مواضع أخر. (1)

- وقال: والمقصود هنا: أن 'الزنديق' في عرف هؤلاء الفقهاء، هو المنافق الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أبطن دينا من الأديان: كدين اليهود والنصارى أو غيرهم. أو كان معطلا جاحدا للصانع والمعاد والأعمال الصالحة.

ومن الناس من يقول: 'الزنديق' هو الجاحد المعطل، وهذا يسمى الزنديق في اصطلاح كثير من أهل الكلام والعامة، ونقلة مقالات الناس؛ ولكن الزنديق الذي تكلم الفقهاء في حكمه: هو الأول؛ لأن مقصودهم هو التمييز بين الكافر وغير الكافر، والمرتد وغير المرتد، ومن أظهر ذلك أو أسره. وهذا الحكم يشترك فيه جميع أنواع الكفار والمرتدين، وإن تفاوتت درجاتهم في الكفر والردة، فإن الله أخبر بزيادة الكفر كما أخبر بزيادة الإيمان، بقوله:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} (2)، وتارك الصلاة وغيرها من الأركان، أو مرتكبي الكبائر، كما أخبر بزيادة عذاب بعض الكفار على بعض في الآخرة بقوله:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} (3).

(1) المنهاج (5/ 433 - 434).

(2)

التوبة الآية (37).

(3)

النحل الآية (88).

ص: 34

فهذا "أصل" ينبغي معرفته فإنه مهم في هذا الباب. فإن كثيرا ممن تكلم في "مسائل الإيمان والكفر" -لتكفير أهل الأهواء- لم يلحظوا هذا الباب، ولم يميزوا بين الحكم الظاهر والباطن، مع أن الفرق بين هذا وهذا ثابت بالنصوص المتواترة، والإجماع المعلوم؛ بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام. ومن تدبر هذا، علم أن كثيرا من أهل الأهواء والبدع قد يكون مؤمنا مخطئا جاهلا ضالا عن بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون منافقا زنديقا، يظهر خلاف ما يبطن. (1)

- قال: فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه، وإن خالف أمر الله ورسوله فقد جعله ندا، وربما صنع به كما تصنع النصارى بالمسيح، ويدعوه ويستغيث به، ويوالي أولياءه، ويعادي أعداءه، مع إيجابه طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه، ويحلله ويحرمه، ويقيمه مقام الله ورسوله، فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (2).اهـ (3)

- وقال: وكان يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف الإسلام في وقته، أعني الفيلسوف الذي في الإسلام، وإلا فليس الفلاسفة من المسلمين. كما

(1) مجموع الفتاوى (7/ 471 - 472).

(2)

البقرة الآية (165).

(3)

مجموع الفتاوى (10/ 267).

ص: 35

قالوا لبعض أعيان القضاة الذين كانوا في زماننا: ابن سينا من فلاسفة الإسلام؟ فقال: ليس للإسلام فلاسفة

(1)

- وقال: إياك والنظر في كتب أهل الفلسفة الذين يزعمون فيها أنه كلما قوي نور الحق وبرهانه في القلوب خفي عن المعرفة، كما يبهر ضوء الشمس عيون الخفافيش بالنهار. فاحذر مثل هؤلاء، وعليك بصحبة أتباع الرسل المؤيدين بنور الهدى وبراهين الإيمان، أصحاب البصائر في الشبهات والشهوات، الفارقين بين الواردات الرحمانية والشيطانية، العالمين العاملين {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} (2).اهـ (3)

- وسئل عن 'كتب المنطق'. فأجاب: أما 'كتب المنطق' فتلك لا تشتمل على علم يؤمر به شرعا، وإن كان قد أدى اجتهاد بعض الناس إلى أنه فرض على الكفاية. وقال بعض الناس: إن العلوم لا تقوم إلا به، كما ذكر ذلك أبو حامد. فهذا غلط عظيم عقلا وشرعا:

أما عقلا: فإن جميع عقلاء بني آدم من جميع أصناف المتكلمين في العلم حرروا علومهم بدون المنطق اليوناني.

وأما شرعا: فإنه من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله لم يوجب تعلم هذا المنطق اليوناني على أهل العلم والإيمان.

وأما هو في نفسه فبعضه حق، وبعضه باطل، والحق الذي فيه كثير منه

(1) مجموع الفتاوى (9/ 186).

(2)

المجادلة الآية (22).

(3)

مجموع الفتاوى (11/ 697).

ص: 36

أو أكثره لا يحتاج إليه، والقدر الذي يحتاج إليه منه فأكثر الفطر السليمة تستقل به، والبليد لا ينتفع به، والذكي لا يحتاج إليه، ومضرته على من لم يكن خبيرا بعلوم الأنبياء أكثر من نفعه، فإن فيه من القواعد السلبية الفاسدة ما راجت على كثير من الفضلاء، وكانت سبب نفاقهم، وفساد علومهم.

وقول من قال إنه كله حق كلام باطل، بل في كلامهم في الحد والصفات الذاتية والعرضية، وأقسام القياس والبرهان ومواده من الفساد ما قد بيناه في غير هذا الموضع، وقد بين ذلك علماء المسلمين والله أعلم. (1)

- وقال: وأصل هذا الباب أن يقال: الإقسام على الله بشيء من المخلوقات، أو السؤال له به، إما أن يكون مأمورا به إيجابا أو استحبابا، أو منهيا عنه نهي تحريم أو كراهة، أو مباحا لا مأمورا به ولا منهيا عنه.

وإذا قيل: إن ذلك مأمور به أو مباح، فإما أن يفرق بين مخلوق ومخلوق، أو يقال: بل يشرع بالمخلوقات المعظمة أو ببعضها. فمن قال: إن هذا مأمور به أو مباح في المخلوقات جميعها، لزم أن يسأل الله تعالى بشياطين الإنس والجن فهذا لا يقوله مسلم.

فإن قال: بل يسأل بالمخلوقات المعظمة كالمخلوقات التي أقسم بها في كتابه، لزم من هذا أن يسأل بالليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها، ويسأل الله تعالى ويقسم عليه بالخنس الجوار الكنس، والليل إذا عسعس،

(1) مجموع الفتاوى (9/ 269 - 270).

ص: 37

والصبح إذا تنفس، ويسأل بالذاريات ذروا، فالحاملات وقرا، فالجاريات يسرا، فالمقسمات أمرا، ويسأل بالطور، وكتاب مسطور، في رق منشور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، ويسأل ويقسم عليه بالصافات صفا، وسائر ما أقسم الله به في كتابه.

فإن الله يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لأنها آياته ومخلوقاته. فهي دليل على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته، وعلمه وقدرته، ومشيئته ورحمته، وحكمته وعظمته وعزته. فهو سبحانه يقسم بها لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه. ونحن المخلوقون ليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع. بل ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يقسم بشيء من المخلوقات وذكروا إجماع الصحابة على ذلك؛ بل ذلك شرك منهي عنه.

ومن سأل الله بها، لزمه أن يسأله بكل ذكر وأنثى، وبكل نفس ألهمها فجورها وتقواها، ويسأله بالرياح، والسحاب، والكواكب، والشمس، والقمر، والليل، والنهار، والتين، والزيتون، وطور سينين، ويسأله بالبلد الأمين مكة، ويسأله حينئذ بالبيت، والصفا والمروة، وعرفة، ومزدلفة، ومنى، وغير ذلك من المخلوقات، ويلزم أن يسأله بالمخلوقات التي عبدت من دون الله؛ كالشمس، والقمر، والكواكب، والملائكة، والمسيح، والعزير، وغير ذلك مما عبد من دون الله، ومما لم يعبد من دونه.

ومعلوم أن السؤال لله بهذه المخلوقات، أو الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة في دين الإسلام، ومما يظهر قبحه للخاص والعام. ويلزم من ذلك أن يقسم على الله تعالى بالإقسام والعزائم التي تكتب في الحروز

ص: 38

والهياكل التي تكتبها الطرقية والمعزمون؛ بل ويقال: إذا جاز السؤال والإقسام على الله بها فعلى المخلوقات أولى، فحينئذ تكون العزائم، والإقسام التي يقسم بها، على الجن مشروعة في دين الإسلام. وهذا الكلام يستلزم الكفر والخروج من دين الإسلام، بل ومن دين الأنبياء أجمعين.

وإن قال قائل: بل أنا أسأله أو أقسم عليه بمعظم دون معظم من المخلوقات، إما الأنبياء دون غيرهم، أو نبي دون غيره، كما جوز بعضهم الحلف بذلك، أو بالأنبياء والصالحين دون غيرهم.

قيل له: بعض المخلوقات وإن كان أفضل من بعض، فكلها مشتركة في أنه لا يجعل شيء منها ندا لله تعالى، فلا يعبد ولا يتوكل عليه، ولا يخشى، ولا يتقى، ولا يصام له، ولا يسجد له، ولا يرغب إليه، ولا يقسم بمخلوق، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت» (1) وقال: «لاتحلفوا إلا بالله» (2)، وفي السنن عنه أنه قال:«من حلف بغير الله فقد أشرك» (3).

فقد ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات، لا فرق في ذلك بين

(1) أحمد (2/ 11 و17) والبخاري (11/ 649/6646) ومسلم (3/ 1266/1646 (3)) وأبو داود (3/ 569/3249) والترمذي (4/ 93/1534) والنسائي (7/ 7و8/ 3775) وابن ماجه (1/ 677/2094) من حديث عمر رضي الله عنه.

(2)

أخرجه بهذا اللفظ: أبو داود (3/ 569/3248) والنسائي (7/ 8/3778) من حديث أبي هريرة. وصححه ابن حبان (10/ 199/4357).

(3)

أحمد (2/ 125) وأبو داود (3/ 570/3251) والترمذي (4/ 93 - 94/ 1535) وقال: "حديث حسن".

وصححه ابن حبان (10/ 199 - 200/ 4358) والحاكم (1/ 18) و (4/ 297) وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي.

ص: 39

الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم، ولا فرق بين نبي ونبي. (1)

- وقال: واعلم أن القائلين بقدم الروح صنفان:

صنف من الصابئة الفلاسفة، يقولون: هي قديمة أزلية لكن ليست من ذات الرب، كما يقولون ذلك في العقول والنفوس الفلكية، ويزعم من دخل من أهل الملل فيهم أنها هي الملائكة.

وصنف من زنادقة هذه الأمة وضلالها -من المتصوفة والمتكلمة والمحدثة- يزعمون أنها من ذات الله، وهؤلاء أشر قولا من أولئك، وهؤلاء جعلوا الآدمي نصفين: نصف لاهوت، وهو روحه. ونصف ناسوت، وهو جسده، نصفه رب ونصفه عبد. وقد كفر الله النصارى بنحو من هذا القول في المسيح، فكيف بمن يعم ذلك في كل أحد حتى في فرعون وهامان وقارون؟ وكلما دل على أن الإنسان عبد مخلوق مربوب، وأن الله ربه وخالقه ومالكه وإلهه، فهو يدل على أن روحه مخلوقة. (2)

- وقال: وتحرير القول فيه: إن الساب -أي للنبي صلى الله عليه وسلم إن كان مسلما: فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك إسحاق بن راهويه وغيره، وإن كان ذميا فإنه يقتل أيضا في مذهب مالك وأهل المدينة، وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث. (3)

(1) مجموع الفتاوى (1/ 289 - 291).

(2)

مجموع الفتاوى (4/ 221 - 222).

(3)

الصارم المسلول (10).

ص: 40

- وقال: أما من اقترن بسبه -أي الصحابة- دعوى أن عليا إله، أو أنه كان هو النبي، وإنما غلط جبرئيل في الرسالة؛ فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. وكذلك من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت، أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة، ونحو ذلك، وهؤلاء يسمون القرامطة والباطنية، ومنهم التناسخية، وهؤلاء لا خلاف في كفرهم. وأما من سبهم سبا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم -مثل وصف بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد، ونحو ذلك- فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم. وأما من لعن وقبح مطلقا فهذا محل الخلاف فيهم؛ لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد. وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر نفسا، أو أنهم فسقوا عامتهم؛ فهذا لا ريب أيضا في كفره، لأنه كذب لما نصه القرآن في غير موضع: من الرضى عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا، فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وأن هذه الآية التي هي {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (1)، وخيرها هو القرن الأول، كان عامتهم كفارا أو فساقا، ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم

(1) آل عمران الآية (110).

ص: 41

بالاضطرار من دين الإسلام. ولهذا تجد عامة من ظهر عليه شيء من هذه الأقوال، فإنه يتبين أنه زنديق، وعامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم، وقد ظهرت لله فيهم مثلات، وتواتر النقل بأن وجوههم تمسخ خنازير في المحيا والممات، وجمع العلماء ما بلغهم في ذلك، وممن صنف فيه الحافظ الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابه في النهي عن سب الأصحاب، وما جاء فيه من الإثم والعقاب.

وبالجملة فمن أصناف السابة من لا ريب في كفره، ومنهم من لا يحكم بكفره، ومنهم من تردد فيه. (1)

- وقال شيخ الإسلام رحمه الله: والقائلون بوحدة الوجود حقيقة قولهم هو قول ملاحدة الدهرية الطبيعية الذين يقولون: ما ثم موجود إلا هذا العالم المشهود، وهو واجب بنفسه. وهو القول الذي أظهره فرعون، لكن هؤلاء ينازعون أولئك في الاسم، فأولئك يسمون هذا الموجود بأسماء الله، وهؤلاء لا يسمونه بأسماء الله، وأولئك يحسبون أن الإله الذي أخبرت عنه الرسل هو هذا الموجود، وأولئك لا يقولون هذا، وأولئك لهم توجه إلى الوجود المطلق، وأولئك ليس لهم توجه إليه. وفساد قول هؤلاء يعرف بوجوه منها: العلم بما يشاهد حدوثه كالمطر والسحاب والحيوان والنبات والمعدن، وغير ذلك من الصور والأعراض، فإن هذه يمتنع أن يكون وجودها واجبا لكونها كانت معدومة، ويمتنع أن تكون ممتنعة لكونها وجدت. فهذه مما يعلم بالضرورة أنها ممكنة، ليست واجبة ولا ممتنعة. (2)

(1) الصارم المسلول (590 - 591).

(2)

درء التعارض (3/ 163 - 164).

ص: 42

- وقال: وكلام ابن عربي صاحب 'فصوص الحكم'، وأمثاله من الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، يدور على ذلك لمن فهمه، ولكن يسمون هذا العالم الله. فمذهبهم في الحقيقة مذهب المعطلة، كفرعون وأمثاله، ولكن هؤلاء يطلقون عليه هذا الاسم، بخلاف أولئك. وأيضا فقد يكون جهال هؤلاء وعوامهم يعتقدون أنهم يثبتون خالقا مباينا للمخلوق، مع قولهم بالوحدة والاتحاد، كما رأينا منهم طوائف، مع ما دخلوا فيه من العلم والدين، لا يعرفون حقيقة مذهب هؤلاء، لما في ظاهره من الإقرار بالصانع ورسله ودينه. وإنما يعرف ذلك من كان ذكيا خبيرا بحقيقة مذهبهم، ومن كان كذلك فهو أحد رجلين: إما مؤمن عليم، علم أن هذا يناقض الحق، وينافي دين الإسلام؛ فذمهم وعاداهم. وإما زنديق منافق، علم حقيقة أمرهم، وأظهر ما يظهرون، وكان من أئمتهم. فهذا وأمثاله من جنس آل فرعون، الذين جعلوا أئمة يدعون إلى النار. والأول من أتباع الرسل والأنبياء، كآل إبراهيم، الذين جعلهم الله أئمة يهدون بأمره. (1)

- وقال: ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء -أي الأشاعرة- يضع كل فريق لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعا له؛ فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه. وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم، وردوا نصوص التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من

(1) درء التعارض (8/ 243 - 244).

ص: 43

نصوص الأنبياء، أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل، كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات، فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن؛ وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم، وقد غلطوا في الرأي والعقل. فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء، لكن النصارى يشبههم من ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص، أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول، كالخوارج والوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم، بخلاف بدعة الجهمية والفلاسفة، فإنها مبنية على ما يقرون هم بأنه مخالف للمعروف من كلام الأنبياء، وأولئك يظنون أن ما ابتدعوه هو المعروف من كلام الأنبياء؛ وأنه صحيح عندهم. (1)

- وقال: بل نقول قولا عاما كليا: إن النصوص الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعارضها قط صريح معقول، فضلا عن أن يكون مقدما عليها، وإنما الذي يعارضها شبه وخيالات، مبناها على معان متشابهة، وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شبه سوفسطائية، لا براهين عقلية. (2)

- وقال: وأما الفلاسفة فلا يجمعهم جامع، بل هم أعظم اختلافا من جميع طوائف المسلمين واليهود والنصارى. والفلسفة التي ذهب إليها الفارابي وابن سينا إنما هي فلسفة المشائين أتباع أرسطو صاحب التعاليم، وبينه وبين سلفه من النزاع والاختلاف ما يطول وصفه، ثم بين أتباعه من الخلاف ما يطول وصفه. وأما سائر طوائف الفلاسفة، فلو حكي اختلافهم في علم الهيئة

(1) درء التعارض (1/ 6 - 8).

(2)

درء التعارض (1/ 155 - 156).

ص: 44

وحده لكان أعظم من اختلاف كل طائفة من طوائف أهل القبلة، والهيئة علم رياضي حسابي هو من أصح علومهم، فإذا كان هذا اختلافهم فيه فكيف باختلافهم في الطبيعيات أو المنطق؟ فكيف بالإلهيات؟ (1)

- وقال: وقد ابتدعت القرامطة الباطنية تفسيرا آخر، كما ذكره أبو حامد في بعض مصنفاته، كمشكاة الأنوار وغيرها: أن الكواكب والشمس والقمر: هي النفس والعقل الفعال والعقل الأول ونحو ذلك. (2)

- قال: إن كثيرا من المبتدعة منافقون النفاق الأكبر، وأولئك كفار في الدرك الأسفل من النار، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون، بل أصل هذه البدع هو من المنافقين الزنادقة، ممن يكون أصل زندقته عن الصابئين والمشركين، هؤلاء كفار في الباطن، ومن علم حاله فهو كافر في الظاهر أيضا.

وأصل ضلال هؤلاء الإعراض عما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة، وابتغاء الهدى في خلاف ذلك، فمن كان هذا أصله فهو بعد بلاغ الرسالة كافر لا ريب فيه، مثل من يرى أن الرسالة للعامة دون الخاصة، كما يقوله قوم من المتفلسفة، وغالية المتكلمة والمتصوفة، أو يرى أنه رسول إلى بعض الناس دون بعض، كما يقوله كثير من اليهود والنصارى. (3)

- وقال: إذ صاحب كتاب 'مشكاة الأنوار' إنما بنى كلامه على

(1) درء التعارض (1/ 157 - 158).

(2)

درء التعارض (1/ 315).

(3)

مجموع الفتاوى (12/ 496 - 497).

ص: 45

أصول هؤلاء الملاحدة، وجعل ما يفيض على النفوس من المعارف من جنس خطاب الله عز وجل لموسى بن عمران النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقوله القرامطة الباطنية ونحوهم من المتفلسفة، وجعل "خلع النعلين" الذي خوطب به موسى صلوات الله عليه وسلامه إشارة إلى ترك الدنيا والآخرة، وإن كان قد يقرر خلع النعلين حقيقة، لكن جعل هذا إشارة إلى أن من خلع الدنيا والآخرة فقد حصل له ذلك الخطاب الإلهي. وهو من جنس قول من يقول: إن النبوة مكتسبة، ولهذا كان أكابر هؤلاء يطمعون في النبوة، فكان السهروردي المقتول يقول: لا أموت حتى يقال لي: {قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} (1) وكان ابن سبعين يقول: لقد زَرَب ابن آمنة حيث قال: «لا نبي بعدي» ، ولما جعل خلع النعلين إشارة إلى ذلك، أخذ ذلك ابن قسي ونحوه ووضع كتابه في: 'خلع النعلين، واقتباس النور من موضع القدمين' من مثل هذا الكلام. ومن هنا دخل أهل الإلحاد من أهل الحلول والوحدة والاتحاد، حتى آل الأمر بهم إلى أن جعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق سبحانه وتعالى، كما فعل صاحب 'الفصوص' ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما من الملاحدة المنتسبين إلى التصوف والتحقيق.

وهم من جنس الملاحدة المنتسبين إلى التشيع، لكن تظاهر هؤلاء من أقوال شيوخ الصوفية وأهل المعرفة بما التبس به حالهم على كثير من أهل العلم المنتسبين إلى العلم والدين، بخلاف أولئك الذين تظاهروا بمذهب التشيع، فإن نفور الجمهور عن مذهب الرافضة مما نفر الجمهور عن

(1) المدثر الآية (2).

ص: 46

مثل هؤلاء، بخلاف جنس أهل الفقر والزهد، ومن يدخل في ذلك من متكلم ومتصوف وفقير وناسك وغير هؤلاء، فإنهم لمشاركتهم الجمهور في الانتساب إلى السنة والجماعة، يخفى من إلحاد الملحد الداخل فيهم ما لا يخفى من إلحاد ملاحدة الشيعة، وإن كان إلحاد الملحد منهم أحيانا قد يكون أعظم، كما حدثني نقيب الأشراف أنه قال للعفيف التلمساني: أنت نصيري، فقال: نصير جزء مني. والكلام على بسط هذا له موضع آخر غير هذا. (1)

- وقال: فقد أوجب الله تعالى على المؤمنين الإيمان بالرسول والجهاد معه، ومن الإيمان به: تصديقه في كل ما أخبر به، ومن الجهاد معه دفع كل من عارض ما جاء به، وألحد في أسماء الله وآياته.

وهؤلاء أهل الكلام المخالفون للكتاب والسنة، الذين ذمهم السلف والأئمة، لا قاموا بكمال الإيمان ولا بكمال الجهاد، بل أخذوا يناظرون أقواما من الكفار وأهل البدع -الذين هم أبعد عن السنة منهم- بطريق لا يتم إلا برد بعض ما جاء به الرسول، وهي لا تقطع أولئك الكفار بالمعقول، فلا آمنوا بما جاء به الرسول حق الإيمان، ولا جاهدوا الكفار حق الجهاد، وأخذوا يقولون إنه لا يمكن الإيمان بالرسول ولا جهاد الكفار، والرد على أهل الإلحاد والبدع إلا بما سلكناه من المعقولات، وإن ما عارض هذه المعقولات من السمعيات يجب رده -تكذيبا أو تأويلا أو تفويضا- لأنها أصل السمعيات.

وإذا حقق الأمر عليهم، وجد الأمر بالعكس، وأنه لا يتم الإيمان

(1) درء التعارض (1/ 317 - 319).

ص: 47

بالرسول والجهاد لأعدائه، إلا بالمعقول الصريح المناقض لما ادعوه من العقليات، وتبين أن المعقول الصريح مطابق لما جاء به الرسول، لا يناقضه ولا يعارضه، وأنه بذلك تبطل حجج الملاحدة، وينقطع الكفار، فتحصل مطابقة العقل للسمع، وانتصار أهل العلم والإيمان على أهل الضلال والإلحاد، ويحصل بذلك الإيمان بكل ما جاء به الرسول، واتباع صريح المعقول، والتمييز بين البينات والشبهات. (1)

- وقال رحمه الله: ومن تدبر كلام هؤلاء الطوائف -بعضهم مع بعض- تبين له أنهم لا يعتصمون فيما يخالفون به الكتاب والسنة إلا بحجة جدلية يسلمها بعضهم لبعض، وآخر منتهاهم: حجة يحتجون بها في إثبات حدوث العالم لقيام الأكوان به أو الأعراض، ونحو ذلك من الحجج التي هي أصل الكلام المحدث، الذي ذمه السلف والأئمة، وقالوا: إنه جهل، وإن حكم أهله:"أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام". ولكن من عرف حقائق ما انتهى إليه هؤلاء الفضلاء الأذكياء، ازداد بصيرة وعلما ويقينا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وبأن ما يعارضون به الكتاب والسنة من كلامهم الذي يسمونه عقليات: هي من هذا الجنس الذي لا ينفق إلا بما فيه من الألفاظ المجملة المشتبهة، مع من قلت معرفته بما جاء به الرسول وبطرق إثبات ذلك، ويتوهم أن بمثل هذا الكلام يثبت معرفة الله وصدق رسله، وأن الطعن في ذلك طعن فيما به يصير العبد مؤمنا، فيتعجل رد كثير مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لظنه أنه بهذا

(1) درء التعارض (1/ 373 - 374).

ص: 48

الرد يصير مصدقا للرسول في الباقي. وإذا أمعن النظر تبين له أنه كلما ازداد تصديقا لمثل هذا الكلام ازداد نفاقا وردا لما جاء به الرسول، وكلما ازداد معرفة بحقيقة هذا الكلام وفساده ازداد إيمانا وعلما بحقيقة ما جاء به الرسول، ولهذا قال من قال من الأئمة:(قل أحد نظر في الكلام إلا تزندق، وكان في قلبه غل على أهل الإسلام) بل قالوا: (علماء الكلام زنادقة). (1)

- وقال في كلام أهل الكلام المذموم: يطولون في الحدود والأدلة بما لا يحتاج التعريف والبيان إليه، ثم يكون ما طولوا به مانعا من التعريف والبيان، فيكونون مثل من يريد الحج من الشام فيذهب إلى الهند ليحج من هناك فينقطع عليه الطريق، فلم يصل إلى مكة. (2)

- وقال: والمقصود هنا أن هؤلاء الذين يدعون أن كمال النفس هو الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات، هذا اضطرابهم في أشرف المعلومات الموجودات، بل فيما لا تنجو النفوس إلا بمعرفته وعبادته، ولكن لما سلموا للفلاسفة أصولهم الفاسدة، تورطوا معهم في مجاراتهم، وصاروا يجرونهم كما يجر الملاحدة الباطنية الناس صنفا صنفا.

والفلسفة هي باطن الباطنية، ولهذا صار في هؤلاء نوع من الإلحاد، فقل أن يسلم من دخل مع هؤلاء من نوع من الإلحاد، في أسماء الله وآياته وتحريف الكلم عن مواضعه. (3)

(1) درء التعارض (2/ 205 - 206).

(2)

درء التعارض (3/ 191 - 192).

(3)

درء التعارض (3/ 269).

ص: 49

- وقال: ليتأمل اللبيب كلام هؤلاء الذين يدعون من الحذق والتحقيق ما يدفعون به ما جاءت به الرسل، كيف يتكلمون في غاية حكمتهم، ونهاية فلسفتهم بما يشبه كلام المجانين، ويجعلون الحق المعلوم بالضرورة مردودا، والباطل الذي يعلم بطلانه بالضرورة مقبولا، بكلام فيه تلبيس وتدليس. (1)

- وقال رحمه الله -يبين أن الرد على أهل الباطل من أعظم الجهاد-: والمناظرة تارة تكون بين الحق والباطل، وتارة بين القولين الباطلين لتبيين بطلانهما، أو بطلان أحدهما، أو كون أحدهما أشد بطلانا من الآخر، فإن هذا ينتفع به كثيرا في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم، ممن يقول أحدهم القول الفاسد وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب، فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحا، وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسدا، لتنقطع بذلك حجة الباطل، فإن هذا أمر مهم، إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم، فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين، فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت، ولكن صالوا عليها صول المحاربين لله ولرسوله، فإذا دفع صيالهم، وبين ضلالهم، كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله. (2)

(1) درء التعارض (3/ 427).

(2)

درء التعارض (4/ 206).

ص: 50

- وقال رحمه الله -يبين أن عامة أهل الكلام مقلدة-: فمن تبحر في المعقولات، وميز بين البينات والشبهات، تبين به أن العقل الصريح أعظم الأشياء موافقة لما جاء به الرسول، وكلما عظمت معرفة الرجل بذلك، عظمت موافقته للرسول.

ولكن دخلت الشبهة في ذلك بأن قوما كان لهم ذكاء تميزوا به في أنواع من العلوم: إما طبيعية كالحساب والطب، وإما شرعية كالفقه مثلا. وأما الأمور الإلهية فلم يكن لهم بها خبرة كخبرتهم بذلك، وهي أعظم المطالب، وأجل المقاصد، فخاضوا فيها بحسب أحوالهم، وقالوا فيها مقالات بعبارات طويلة مشتبهة، لعل كثيرا من أئمة المتكلمين بها لا يحصلون حقائق تلك الكلمات، ولو طالبتهم بتحقيقها لم يكن عندهم إلا الرجوع إلى تقليد أسلافهم فيها.

وهذا موجود في منطق اليونان وإلهياتهم، وكلام أهل الكلام من هذه الأمة وغيرهم، يتكلم رأس الطائفة كأرسطو مثلا بكلام، وأمثاله من اليونان بكلام، وأبى الهذيل والنظام وأمثالهما من متكلمة أهل الإسلام بكلام، ويبقى ذلك الكلام دائرا في الأتباع، يدرسونه كما يدرس المؤمنون كلام الله، وأكثر من يتكلم به لا يفهمه. وكلما كانت العبارة أبعد عن الفهم كانوا لها أشد تعظيما، وهذا حال الأمم الضالة، كلما كان الشيء مجهولا كانوا أشد له تعظيما، كما يعظم الرافضة المنتظر، الذي ليس لهم منه حس ولا خبر، ولا وقعوا له على عين ولا أثر. وكذلك تعظيم الجهال من المتصوفة ونحوهم للغوث وخاتم الأولياء، ونحو ذلك مما لا يعرفون له حقيقة. وكذلك النصارى

ص: 51

تعظم ما هو من هذا الباب. وهكذا الفلاسفة تجد أحدهم إذا سمع أئمته يقولون: الصفات الذاتية والعرضية، والمقوم والمقسم، والمادة والهيولي، والتركيب من الكم ومن الكيف، وأنواع ذلك من العبارات، عظمها قبل أن يتصور معانيها، ثم إذا طلب معرفتها لم يكن عنه في كثير منها إلا التقليد لهم. ولهذا كان فيها من الكلام الباطل المقرون بالحق ما شاء الله، ويسمونها عقليات، وإنما هي عندهم تقليديات، قلدوا فيها ناسا يعلمون أنهم ليسوا معصومين، وإذا بين لأحدهم فسادها لم يكن عنده ما يدفع ذلك، بل ينفي تعظيمه المطلق لرؤوس تلك المقالة، ثم يعارض ما تبين لعقله فيقول: كيف يظن بأرسطو وابن سينا وأبي الهذيل، أو أبي علي الجبائي ونحو هؤلاء أن يخفى عليه مثل هذا؟! أو أن يقول مثل هذا؟! وهو مع هذا يرى أن الذين قلدوا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (1) قد بخسوا أنفسهم حظها من العقل والمعرفة والتمييز، ورضوا بقبول قول لا يعلمون حقيقته، وهو مع هذا يقبل أقوالا لا يعلم حقيقتها، وقائلين يعلم أنهم يخطئون ويصيبون.

وهذا القدر قد تبينته من الطوائف المخالفين للكتاب والسنة -ولو في أدنى شيء ممن رأيت كتبهم، وممن خاطبتهم، وممن بلغني أخبارهم- إذا أقيمت على أحدهم الحجة العقلية التي يجب على طريقته قبولها، ولم يجد له ما يدفعها به، فر إلى التقليد، ولجأ إلى قول شيوخه، وقد كان في أول الأمر

(1) النجم الآية (4).

ص: 52

يدعو إلى النظر والمناظرة، والاعتصام بالعقليات، والإعراض عن الشرعيات. ثم إنه في آخر الأمر لا حصل له علم من الشرعيات ولا من العقليات، بل هو كما قال الله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)} (1). وكما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)} (2). وكما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} (3). وكما قال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} (4). وكما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} (5)

وكما قال: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ

(1) الحج الآية (3).

(2)

الحج الآية (8).

(3)

الأنعام الآية (110).

(4)

الفرقان الآية (44).

(5)

الفرقان الآيتان (27و29) ..

ص: 53

يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)} (1). وهذه النصوص فيها نصيب لكل من اتبع أحدا من الرؤوس فيما يخالف الكتاب والسنة، سواء كانوا من رؤوس أهل النظر والكلام والمعقول والفلسفة، أو رؤوس أهل الفقه والكلام في الأحكام الشرعية، أو من رؤوس أهل العبادة والزهادة والتأله والتصوف، أو من رؤوس أهل الملك والإمارة والحكم والولاية والقضاء. ولست تجد أحدا من هؤلاء إلا متناقضا، وهو نفسه يخالف قول ذلك المتبوع الذي عظمه في موضع آخر، إذ لا يصلح أمر دنياه ودينه بموافقة ذلك المتبوع، لتناقض أوامره. بخلاف ما جاء من عند الله، فإنه متفق مؤتلف، فيه صلاح أحوال العباد، في المعاش والمعاد، قال تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (2).اهـ (3)

- وقال: فعند هؤلاء كلام الأنبياء وخطابهم في أشرف المعارف وأعظم العلوم، يمرض ولا يشفي، ويضل ولا يهدي، ويضر ولا ينفع، ويفسد ولا يصلح، ولا يزكي النفوس ويعلمها الكتاب والحكمة، بل يدسي النفوس ويوقعها في الضلال والشبهة، بل يكون كلام من يسفسط تارة ويبين أخرى،

(1) الأحزاب الآيات (66 - 68).

(2)

النساء الآية (82).

(3)

درء التعارض (5/ 315 - 318).

ص: 54

-كما يوجد في كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة، كابن الخطيب وابن سينا وابن عربي وأمثالهم- خيرا من كلام الله وكلام رسله، فلا يكون خير الكلام كلام الله، ولا أصدق الحديث حديثه، بل يكون بعض قرآن مسيلمة الكذاب الذي ليس فيه كذب في نفسه، -وإن كانت نسبته إلى الله كذبا، ولكنه مما لا يفيد كقوله: الفيل وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل، إن ذلك من خلق ربنا الجليل- عند هؤلاء الملاحدة خيرا من كلام الله، الذي وصف به نفسه، ووصف به ملائكته، واليوم الآخر، وخيرا من كلام رسوله، لأن قرآن مسيلمة وإن لم تكن فيه فائدة ولا منفعة، فلا مضرة فيه ولا فساد، بل يضحك المستمع كما يضحك الناس من أمثاله. وكلام الله ورسوله عند هؤلاء أضل الخلق وأفسد عقولهم، وأديانهم، وأوجب أن يعتقدوا نقيض الحق في الإيمان بالله ورسوله، أو يشكوا ويرتابوا في الحق، أو يكونوا -إذا عرفوا بعقلهم- تعبوا تعبا عظيما في صرف الكلام عن مدلوله ومقتضاه، وصرف الخلق عن اعتقاد مضمونه وفحواه، ومعاداة من يقر بذلك، وهم السواد الأعظم من أتباع الرسل. (1)

- وقال: وهم فيما خاضوا فيه من العقليات المعارضة للنصوص، في حيرة وشبهة وشك، من كان منهم فاضلا ذكيا قد عرف نهايات إقدامهم، كان في حيرة وشك، ومن كان منهم لم يصل إلى الغاية كان مقلدا لهؤلاء، فهو يدع تقليد النبي المعصوم، وإجماع المؤمنين المعصوم، ويقلد رؤوس الكلام المخالف للكتاب والسنة، الذين هم في شك وحيرة، ولهذا لا يوجد أحد من

(1) درء التعارض (5/ 364 - 365).

ص: 55

هؤلاء إلا وهو: إما حائر شاك، وإما متناقض يقول قولا ويقول ما يناقضه، فيلزم بطلان أحد القولين أو كلاهما، لا يخرجون عن الجهل البسيط مع كثرة النظر والكلام، أو عن الجهل المركب الذي هو ظنون كاذبة، وعقائد غير مطابقة، وإن كانوا يسمون ذلك براهين عقلية، وأدلة يقينية، فهم أنفسهم ونظراؤهم يقدحون فيها، ويبينون أنها شبهات فاسدة، وحجج عن الحق حائدة.

وهذا الأمر يعرفه كل من كان خبيرا بحال هؤلاء، بخلاف أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم المتبعين له، فإنهم ينكشف لهم أن ما جاء به الرسول، هو الموافق لصريح المعقول، وهو الحق الذي لا اختلاف فيه ولا تناقض. (1)

- وقال: وهذا موجود في عامة كتب أهل الكلام والفلسفة: متقدميهم ومتأخريهم إلى كتب الرازي والآمدي ونحوها، وليس فيها من أمهات الأصول الكلية والإلهية القول الذي هو الحق، بل تجد كل ما يذكرونه من المسائل وأقوال الناس فيها، إما أن يكون الكل خطأ، وإما أن يذكروا القول الصواب من حيث الجملة، مثل إطلاق القول بإثبات الصانع، وأنه لا إله إلا هو، وأن محمدا رسول الله، لكن لا يعطون هذا القول حقه: لا تصورا ولا تصديقا، فلا يحققون المعنى الثابت في نفس الأمر من ذلك، ولا يذكرون الأدلة الدالة على الحق، وربما بسطوا الكلام في بعض المسائل الجزئية التي لا ينتفع بها وحدها، بل قد لا يحتاج إليها. وأما المطالب العالية، والمقاصد السامية، من معرفة الله تعالى والإيمان به وملائكته وكتبه ورسله واليوم

(1) درء التعارض (7/ 283 - 284).

ص: 56

الآخر، فلا يعرفونه كما يجب، وكما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يذكرون من ذلك ما يطابق صحيح المنقول ولا صريح المعقول. (1)

- وقال: ومعلوم عند كل من عرف دين الإسلام أن المصريين -بني عبيد الباطنية- كالحاكم وأمثاله، الذين هم سادة أهل بيته، من أعظم الناس نفاقا وإلحادا في الإسلام، وأبعد الناس عن الرسول صلى الله عليه وسلم نسبا ودينا، بل وأبعد الناس عن صريح المعقول وصحيح المنقول، فليس لهم سمع ولا عقل. وقولهم في الصفات صريح قول جهم، بل وشرا منه، وزادوا عليه من التكذيب بالحق والبعث والشرائع ما لم يقله الجهم، تلقيا عن سلفهم الدهرية، وأخذوا ما نطق به الرسول في الإيمان بالله واليوم الآخر والشرائع، فجعلوا لها بواطن يعلم علماء المسلمين بالاضطرار أنها مخالفة لدين الرسول صلى الله عليه وسلم. فأصحاب 'الإشارات'، هم من جنس هؤلاء، لكن يتفاوتون في التكذيب والإلحاد. (2)

- وقال في رده على مذهب الرازي ومن سار عليه: فيقال: من العجائب، بل من أعظم المصائب، أن يجعل مثل هذا الهذيان برهانا في هذا المذهب، الذي حقيقته أن الله لم يخلق شيئا، بل الحوادث تحدث بلا خالق، وفي إبطال أديان أهل الملل وسائر العقلاء من الأولين والآخرين. لكن هذه الحجج الباطلة وأمثالها لما صارت تصد كثيرا من أفاضل الناس وعقلائهم وعلمائهم عن الحق المحض الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول، بل تخرج أصحابها عن العقل والدين، كخروج الشعرة من العجين، إما بالجحد

(1) درء التعارض (9/ 67 - 68).

(2)

درء التعارض (10/ 60 - 61).

ص: 57

والتكذيب، وإما بالشك والريب؛ احتجنا إلى بيان بطلانها، للحاجة إلى مجاهدة أهلها، وبيان فسادها من أصلها، إذ كان فيها من الضرر بالعقول والأديان، ما لا يحيط به إلا الرحمن. (1)

- وقال: والولي على أصله الفاسد -يعني ابن عربي- يأخذ عن الله بلا واسطة، لأنه يأخذ عن عقله، وهذا عندهم هو الأخذ عن الله بلا واسطة، إذ ليس عندهم ملائكة منفصلة تنزل بالوحي، والرب عندهم ليس هو موجودا مباينا للمخلوقات، بل هو وجود مطلق، أو مشروط بنفي الأمور الثبوتية عن الله، أو نفي الأمور الثبوتية والسلبية، وقد يقولون: هو وجود المخلوقات أو حال فيها، أو لا هذا ولا هذا. فهذا عندهم غاية كل رسول ونبي: النبوة عندهم الأخذ عن القوة المتخيلة التي صورت المعاني العقلية في المثل الخيالية، ويسمونها القوة القدسية، فلهذا جعلوا الولاية فوق النبوة. وهؤلاء من جنس القرامطة الباطنية الملاحدة، لكن هؤلاء ظهروا في قالب التصوف والتنسك ودعوى التحقيق والتأله، وأولئك ظهروا في قالب التشيع والموالاة، فأولئك يعظمون شيوخهم حتى يجعلوهم أفضل من الأنبياء، وقد يعظمون الولاية حتى يجعلوها أفضل من النبوة، وهؤلاء -يعني الروافض- يعظمون أمر الإمامة، حتى قد يجعلون الأئمة أعظم من الأنبياء، والإمام أعظم من النبي، كما يقوله الإسماعيلية. وكلاهما أساطين الفلاسفة الذين يجعلون النبي فيلسوفا، ويقولون: إنه يختص بقوة قدسية، ثم منهم من يفضل النبي على الفيلسوف، ومنهم من يفضل الفيلسوف على النبي، ويزعمون أن النبوة مكتسبة، وهؤلاء يقولون:

(1) المنهاج (1/ 259).

ص: 58

إن النبوة عبارة عن ثلاث صفات، من حصلت له فهو نبي: أن يكون له قوة قدسية حدسية ينال بها العلم بلا تعلم، وأن تكون نفسه قوية لها تأثير في هيولي العالم، وأن يكون له قوة يتخيل بها ما يعقله، ومرئيا في نفسه، ومسموعا في نفسه. هذا كلام ابن سينا وأمثاله في النبوة، وعنه أخذ ذلك الغزالي في كتبه 'المضنون به على غير أهلها'. (1)

- وجاء في مجموع الفتاوى: وحدثني الثقة أنه قرأ عليه 'فصوص الحكم' لابن عربي، وكان يظنه من كلام أولياء الله العارفين. فلما قرأه رآه يخالف القرآن، قال: فقلت له: هذا الكلام يخالف القرآن فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، وكان يقول ثبت عندنا في الكشف ما يخالف صريح المعقول، وحدثني من كان معه ومع آخر نظير له، فمرا على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم، فقال له رفيقه: هذا أيضا هو ذات الله؟ فقال: وهل ثم شيء خارج عنها؟ نعم، الجميع في ذاته.

وهؤلاء حقيقة قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون ما كان يخاف أحدا فينافقه، فلم يثبت الخالق وإن كان في الباطن مقرا به، وكان يعرف أنه ليس هو إلا مخلوق، لكن حب العلو في الأرض، والظلم دعاه إلى الجحود والإنكار كما قال: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ

(1) المنهاج (8/ 22 - 24).

ص: 59

كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} (1).

وأما هؤلاء، فهم من وجه ينافقون المسلمين، فلا يمكنهم إظهار جحود الصانع، ومن وجه هم ضلال، يحسبون أنهم على حق وأن الخالق هو المخلوق، فكان قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون كان معاندا مظهرا للجحود والعناد، وهؤلاء إما جهال ضلال، وإما منافقون مبطنون الإلحاد والجحود، يوافقون المسلمين في الظاهر. وحدثني الشيخ "عبد السيد" الذي كان قاضي اليهود ثم أسلم، وكان من أصدق الناس، ومن خيار المسلمين وأحسنهم إسلاما، أنه كان يجتمع بشيخ منهم يقال له: الشرف البلاسي يطلب منه المعرفة والعلم. قال: فدعاني إلى هذا المذهب، فقلت له: قولكم يشبه قول فرعون. قال: ونحن على قول فرعون. فقلت لعبد السيد: واعترف لك بهذا؟ قال: نعم، وكان عبد السيد إذ ذاك قد ذاكرني بهذا المذهب فقلت له: هذا مذهب فاسد وهو يؤول إلى قول فرعون فحدثني بهذا، فقلت له: ما ظننت أنهم يعترفون بأنهم على قول فرعون، لكن مع إقرار الخصم ما يحتاج إلى بينة، قال عبد السيد: فقلت له: لا أدع موسى وأذهب إلى فرعون فقال: ولم؟ قلت: لأن موسى أغرق فرعون فانقطع، واحتج عليه بالظهور الكوني، فقلت لعبد السيد -وكان هذا قبل أن يسلم-: نفعتك اليهودية يهودي خير من فرعوني. (2)

(1) النمل الآيتان (13و14).

(2)

مجموع الفتاوى (13/ 186 - 188).

ص: 60

كلمة الشيخ في تائية ابن الفارض:

جاء في نقض المنطق: وابن الفارض -من متأخري الاتحادية- صاحب القصيدة التائية المعروفة بنظم السلوك، وقد نظم فيها الاتحاد نظما رائق اللفظ، فهو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب، وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك. الله أعلم بها وبما اشتملت عليه، وقد نفقت كثيرا، وبالغ أهل العصر في تحسينها والاعتداد بما فيها من الاتحاد. (1)

? التعليق:

هذه القصيدة اليوم، هي قرآن كثير من المتصوفة، ينشدونها في محافلهم وموالدهم وأمكنة بدعهم، ويعتبرون ذلك من أعظم الذكر، وأحيانا يرفقونها باسم الله على حسب تغنيهم.

- وله رسالة بعنوان 'الرد الأقوم على ما في فصوص الحكم' تكلم فيها عن ابن عربي وكتبه وأصحابه. وقد لخصه التقي الفاسي في كتابه 'العقد الثمين' ومن تلخيصه أنقل: قال الفاسي: ثم قال ابن تيمية: فإن صاحب هذا الكتاب المذكور الذي هو 'فصوص الحكم' وأمثاله، مثل صاحبه الصدر القونوي التلمساني، وابن سبعين، والششتري، وأتباعهم، مذهبهم الذي هم عليه أن الوجود واحد، ويسمون أهل وحدة الوجود، ويدعون التحقيق والعرفان، وهم يجعلون وجود الخالق عين وجود المخلوقات، فكل ما تتصف به المخلوقات من

(1) نقض المنطق (ص.62).

ص: 61

حسن وقبيح، ومدح وذم، إنما المتصف به عندهم عين الخالق.

ثم قال ابن تيمية: ويكفيك بكفرهم أن من أخف أقوالهم: إن فرعون مات مؤمنا بريئا من الذنوب، كما قال -يعني ابن عربي-: وكان موسى قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق، فقبضه طاهرا مطهرا، ليس فيه شيء من الخبث قبل أن كتب عليه شيء من الآثام، والإسلام يجب ما قبله. وقد علم بالاضطرار من دين أهل الملل: المسلمين واليهود والنصارى أن فرعون من أكفر الخلق.

واستدل ابن تيمية على ذلك بما تقوم به الحجة، ثم قال: فإذا جاءوا إلى أعظم عدو لله من الإنس والجن، أو من هو من أعظم أعدائه، فجعلوه مصيبا محقا فيما كفره به الله، علم أن ما قالوه أعظم من كفر اليهود والنصارى، فكيف بسائر مقالاتهم؟

وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الخالق تعالى بائن من مخلوقاته، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، والسلف والأئمة كفروا الجهمية لما قالوا إنه حال في كل مكان، فكان مما أنكروه عليهم، أنه كيف يكون في البطون والحشوش والأخلية، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فكيف من جعله نفس وجود البطون والحشوش والأخلية والنجاسات والأقذار؟

ثم قال ابن تيمية: وأين المشبهة المجسمة من هؤلاء؟ فإن أولئك غاية كفرهم أن جعلوه مثل المخلوقات، لكن يقولون: هو قديم وهي محدثة، وهؤلاء جعلوه عين المحدثات، وجعلوه نفس المصنوعات، ووصفوه بجميع النقائص والآفات التي يوصف بها كل فاجر وكافر وكل شيطان، وكل سبع

ص: 62

وكل حية من الحيات، فتعالى الله عن إفكهم وضلالهم، ثم قال: وهؤلاء يقولون إن النصارى إنما كفروا لتخصيصهم حيث قالوا: إن الله هو المسيح، فكل ما قالته النصارى في المسيح يقولونه في الله سبحانه وتعالى، ومعلوم شتم النصارى لله وكفرهم به، وكفر النصارى جزء من كفر هؤلاء، ولما قرأوا هذا الكتاب المذكور على أفضل متأخريهم، قال له قائل: إن هذا الكتاب يخالف القرآن، فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا هذا، يعني أن القرآن يفرق بين الرب والعبد، وحقيقة التوحيد عندهم أن الرب هو العبد، فقال له قائل: فأي فرق بين زوجتي وبنتي؟ قال: لا فرق، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم، وهؤلاء إذا قيل: مقالتهم إنها كفر، لم يفهم هذا اللفظ حالها، فإن الكفر جنس تحته أنواع متفاوتة، بل كفر كل كافر جزء من كفرهم، ولهذا قيل لرئيسهم: أنت نصيري، قال: نصير جزء مني.

ثم قال ابن تيمية: وقد علم المسلمون واليهود والنصارى بالاضطرار من دين المسلمين، أن من قال عن أحد من البشر: إنه جزء من الله، فإنه كافر في جميع الملل، إذ النصارى لم تقل هذا، وإن كان قولهم من أعظم الكفر، لم يقل أحد إن عين المخلوقات هي أجزاء الخالق، ولا إن الخالق هو المخلوق، ولا إن الحق المنزه هو الخلق المشبه، وكذلك قوله: إن المشركين لو تركوا عبادة الأصنام لجهلوا من الخلق المشبه، وكذلك قوله: إن المشركين لو تركوا عبادة الأصنام لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا منها، هو من الكفر المعلوم بالاضطرار بين جميع الملل، فإن أهل الملل متفقون على أن الرسل جميعهم نهوا

ص: 63

عن عبادة الأصنام، وكفروا من يفعل ذلك، وأن المؤمن لا يكون مؤمنا حتى يتبرأ من عبادة الأصنام، وكل معبود سوى الله كما قال تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1) واستدل على ذلك بآيات أخر.

ثم قال: فمن قال: إن عباد الأصنام لو تركوهم لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا منها أكفر من اليهود والنصارى، ومن لم يكفرهم فهو أكفر من اليهود والنصارى، فإن اليهود والنصارى يكفرون عباد الأصنام، فكيف من يجعل تارك عبادة الأصنام جاهلا من الحق بقدر ما ترك منها، مع قوله: فإن العالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حين عبد، فإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوة المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود، بل هو أعظم كفرا من كفر عباد الأصنام، فإن أولئك اتخذوهم شفعاء ووسائط كما قالوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (2) وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ

(1) الممتحنة الآية (4).

(2)

الزمر الآية (3).

ص: 64

كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)} (1).

وكانوا مقرين بأن الله خالق السموات والأرض وخالق الأصنام كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (2). واستدل على ذلك بغير هذه الآية.

ثم قال: وهؤلاء أعظم كفرا من جهة أن هؤلاء جعلوا عابد الأصنام عابدا لله لا عابدا لغيره، وأن الأصنام من الله تعالى بمنزلة أعضاء الإنسان من الإنسان، ومنزلة قوى النفس من النفس، وعباد الأصنام اعترفوا بأنها غيره وأنها مخلوقة. ومن جهة أن عباد الأصنام من العرب كانوا مقرين بأن للسماوات والأرض ربا غيرهما هو خالقهما، وهؤلاء ليس عندهم للسماوات والأرض وسائر المخلوقات مغاير للسماوات والأرض وسائر المخلوقات، بل المخلوق هو الخالق. ولهذا جعل أهل قوم عاد وغيرهم من الكفار على صراط مستقيم، وجعلهم في القرب، وجعل أهل النار يتنعمون في النار كما يتنعم أهل الجنة في الجنة، وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن قوم عاد وثمود وفرعون وقومه وسائر من قص الله تعالى قصته من أعداء الله تعالى، وأنهم معذبون في الآخرة، وأن الله لعنهم وغضب عليهم، فمن أثنى عليهم وجعلهم من المقربين ومن أهل النعيم فهو أكفر من اليهود والنصارى.

وهذه الفتوى لا تحتمل بسط كلام هؤلاء وبيان كفرهم وإلحادهم،

(1) الزمر الآية (43).

(2)

الزمر الآية (38).

ص: 65

فإنهم من جنس القرامطة الباطنية الإسماعيلية الذين كانوا أكفر من اليهود والنصارى، وأن قولهم يتضمن الكفر بجميع الكتب والرسل

وفي كتبه مثل الفتوحات المكية وأمثالها من الأكاذيب ما لا يخفى على لبيب، ثم قال: لم أصف عشر ما يذكرونه من الكفر، ولكن هؤلاء التبس أمرهم على من لا يعرف حالهم، كما التبس أمر القرامطة الباطنية لما ادعوا أنهم فاطميون، وانتسبوا إلى التشيع، فصار المتشيعون مائلين إليهم غير عالمين بباطن كفرهم، ولهذا كان من مال إليهم أحد رجلين: إما زنديقا منافقا أو جاهلا ضالا، وهكذا هؤلاء الاتحادية، فرؤوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم، ولا تقبل توبة أحد منهم إذا أخذ قبل التوبة، فإنه من أعظم الزنادقة الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وهم الذين يبهمون قولهم ومخالفتهم لدين الإسلام، ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم أو ذب عنهم، أو أثنى عليهم أو عظم كتبهم، أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم وأخذ يعتذر عنهم أو لهم بأن هذا الكلام لا يدرى ما هو، ومن قال إنه صنف هذا الكتاب وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشائخ والعلماء والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فسادا، ويصدون عن سبيل الله، فضررهم في الدين أعظم من ضرر من يفسد على المسلمين دنياهم ويترك دينهم، كقطاع الطرق، وكالتتار الذين يأخذون أموالهم ويبقون على دينهم ولا يستهين بهم من لم يعرفهم، فضلالهم وإضلالهم أطم

ص: 66

وأعظم من أن يوصف.

ثم قال: ومن كان محسنا للظن بهم، وادعى أنه لم يعرف حالهم عرف حالهم، فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار، وإلا ألحق بهم وجعل منهم، وأما من قال: لكلامهم تأويل يوافق الشريعة، فإنه من رؤوسهم وأئمتهم، فإنه إن كان ذكيا، فإنه يعرف كذب نفسه فيما قال، وإن كان معتقدا لهذا باطنا وظاهرا، فهو أكفر من النصارى. (1)

? التعليق:

لله درك يا شيخ الإسلام، ما أحسن هذه الأحكام النابعة عن علم واستقراء، لا عن جهل وعاطفة. فإن هؤلاء الذين وصفت حالهم وبينت لنا وللمسلمين وحكامهم كيف ينبغي أن نتعامل معهم. فإن كتبهم ملأت أسواق المسلمين، ومكتباتهم، وصار الرجل يوصي صاحبه باقتناء 'الفتوحات المكية' و'فصوص الحكم' بل كتب ذلك في الجرائد والمجلات. فلا أدري متى ينتبه المسلمون من هذه الغفلة، ومتى يخرجون من هذه الجهالة العمياء، يلقبون هذا الزنديق بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر. وكل ما ورد من ألفاظ كفرية أولوها وزعموا أنهم هم أصحاب الذوق.

- وقال في حديثه عن القبوريين: وقد زين الشيطان لكثير من الناس سوء عملهم، واستنزلهم عن إخلاص الدين لله إلى أنواع من الشرك، فيقصدون بالسفر والزيارة والرجاء لغير الله، والرغبة إليه ويشدون الرحال:

(1) العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين (2/ 279 - 283).

ص: 67

إما إلى قبر لنبي أو صاحب أو صالح. أو من يظن أنه نبي، أو صاحب أو صالح. داعين له راغبين إليه. إلى أن قال: ومن أكابرهم من يقول: (الكعبة في الصلاة قبلة العامة، والصلاة إلى قبر الشيخ فلان -مع استدبار الكعبة- قبلة الخاصة) وهذا وأمثاله من الكفر الصريح باتفاق علماء المسلمين. (1)

- وقال: من المعلوم ما قد ابتلي به كثير من هذه الأمة، من بناء المساجد على القبور، واتخاذ القبور مساجد بلا بناء. وكلا الأمرين محرم ملعون فاعله بالمستفيض من السنة. وليس هذا موضع استقصاء ما في ذلك من سائر الأحاديث والآثار (2)، إذ الغرض القاعدة الكلية، وإن كان تحريم ذلك ذكره غير واحد من علماء الطوائف: من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين يبالغون في المنع مما يجر إلى مثل هذا. (3)

- وقال: ولا يكتب أحد ورقة ويعلقها عند القبور، ولا يكتب أحد محضرا أنه استجار بفلان، ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك المحضر، ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، كما يفعله النصارى في كنائسهم، وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين، أو في مغيبهم، فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام، وبالنقل المتواتر، وبإجماع المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع هذا لأمته.

(1) الاقتضاء (2/ 841 - 843).

(2)

وقد ذكر رحمه الله بعضها قبل هذا، فلتنظر هنالك.

(3)

الاقتضاء (1/ 295).

ص: 68

وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئا من ذلك، بل أهل الكتاب ليس عندهم عن الأنبياء نقل بذلك، كما أن المسلمين ليس عندهم عن نبيهم نقل بذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحاب نبيهم والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها: أنه يستحب لأحد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أن يشفع له، أو يدعو لأمته، أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين.

وكان أصحابه يبتلون بأنواع من البلاء بعد موته، فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا قبر الخليل، ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول: نشكو إليك جدب الزمان أو قوة العدو أو كثرة الذنوب، ولا يقول: سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم؛ بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين. (1)

- وقال: وأما الزيارة البدعية: فهي التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحوائج، أو يطلب منه الدعاء والشفاعة، أو يقصد الدعاء عند قبره لظن القاصد أن ذلك أجوب للدعاء. فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة، لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها الصحابة، لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عند غيره، وهي من جنس الشرك وأسباب الشرك.

(1) مجموع الفتاوى (1/ 161 - 162).

ص: 69

ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين من غير أن يقصد دعاءهم والدعاء عندهم مثل أن يتخذ قبورهم مساجد لكان ذلك محرما منهيا عنه، ولكان صاحبه متعرضا لغضب الله ولعنته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (1) وقال: «قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا» (2). وقال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» (3).

فإذا كان هذا محرما، وهو سبب لسخط الرب ولعنته، فكيف بمن يقصد دعاء الميت، والدعاء عنده وبه، واعتقد أن ذلك من أسباب إجابة الدعوات، ونيل الطلبات، وقضاء الحاجات، وهذا كان أول أسباب الشرك في قوم نوح وعبادة الأوثان في الناس، قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم ظهر الشرك بسبب تعظيم قبور صالحيهم. (4)

(1) أخرجه أحمد (2/ 246) وابن سعد (2/ 241 - 242) وأبو يعلى (12/ 33 - 34/ 6681) والحميدي (2/ 445/1025) وأبو نعيم (7/ 317) كلهم من حديث أبي هريرة مرفوعا، وتمامه: لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وصحح إسناده الشيخ الألباني في تحذير الساجد (25) وأورد له شاهدين مرسلين: الأول عن زيد بن أسلم، والآخر عن عطاء. قال ابن عبد البر تعليقا على مرسل عطاء في التمهيد (فتح البر: 1/ 281): "فهذا الحديث صحيح عند من قال بمراسيل الثقات".

(2)

أحمد (2/ 284) والبخاري (1/ 700/437) ومسلم (1/ 376/530) وأبو داود (3/ 553/3227) والنسائي (4/ 401/2046) وفي الكبرى (4/ 257/7092) من طرق عن أبي هريرة.

(3)

أخرجه مسلم (1/ 377 - 378/ 532) من حديث جندب بن عبد الله.

(4)

مجموع الفتاوى (1/ 166 - 167).

ص: 70

- وقال: وأما من جزم بأنه لا يدخل النار أحد من أهل القبلة؛ فهذا لا نعرفه قولا لأحد. وبعده قول من يقول: ما ثم عذاب أصلا وإنما هو تخويف لا حقيقة له، وهذا من أقوال الملاحدة والكفار. وربما احتج بعضهم بقوله:{ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} (1) فيقال لهذا: التخويف إنما يكون تخويفا إذا كان هناك مخوف يمكن وقوعه بالمخوف، فإن لم يكن هناك ما يمكن وقوعه امتنع التخويف، لكن يكون حاصله إيهام الخائفين بما لا حقيقة له، كما توهم الصبي الصغير. ومعلوم أن مثل هذا لا يحصل به تخوف للعقلاء المميزين، لأنهم إذا علموا أنه ليس هناك شيء مخوف زال الخوف، وهذا شبيه بما تقول "الملاحدة" المتفلسفة والقرامطة ونحوهم: من أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم خاطبوا الناس بإظهار أمور من الوعد والوعيد لا حقيقة لها في الباطن، وإنما هي أمثال مضروبة لتفهم حال النفس بعد المفارقة، وما أظهروه لهم من الوعد والوعيد وإن كان لا حقيقة له، فإنما يعلق لمصلحتهم في الدنيا، إذ كان لا يمكن تقويمهم إلا بهذه الطريقة. و"هذا القول" مع أنه معلوم الفساد بالضرورة من دين الرسل؛ فلو كان الأمر كذلك لكان خواص الرسل الأذكياء يعلمون ذلك، وإذا علموه زالت محافظتهم على الأمر والنهي، كما يصيب خواص ملاحدة المتفلسفة والقرامطة من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم، فإن البارع منهم في العلم والمعرفة يزول عنه عندهم الأمر والنهي، وتباح له المحظورات، وتسقط عنه الواجبات، فتظهر أضغانهم، فتنكشف

(1) الزمر الآية (16).

ص: 71

أسرارهم، ويعرف عموم الناس حقيقة دينهم الباطن، حتى سموهم باطنية؛ لإبطانهم خلاف ما يظهرون.

فلو كان -والعياذ بالله- دين الرسل كذلك لكان خواصه قد عرفوه، وأظهروا باطنه، وكان عند أهل المعرفة والتحقيق من جنس دين الباطنية، ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة الذين كانوا أعلم الناس بباطن الرسول وظاهره، وأخبر الناس بمقاصده ومراداته، كانوا أعظم الأمة لزوما لطاعة أمره -سرا وعلانية- ومحافظة على ذلك إلى الموت، وكل من كان منهم إليه وبه أخص وبباطنه أعلم -كأبي بكر وعمر كانوا أعظمهم لزوما للطاعة سرا وعلانية، ومحافظة على أداء الواجب، واجتناب المحرم، باطنا وظاهرا، وقد أشبه هؤلاء في بعض الأمور ملاحدة المتصوفة الذين يجعلون فعل المأمور وترك المحظور واجبا على السالك حتى يصير عارفا محققا في زعمهم؛ وحينئذ يسقط عنه التكليف، ويتأولون على ذلك قوله تعالى:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} (1) زاعمين أن اليقين هو ما يدعونه من المعرفة، واليقين هنا الموت، وما بعده، كما قال تعالى عن أهل النار:{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} (2).اهـ (3)

- وقال: وقد يقول أحدهم: العارف شهد أولا الطاعة والمعصية، ثم

(1) الحجر الآية (99).

(2)

المدثر الآيات (45 - 48).

(3)

مجموع الفتاوى (7/ 501 - 503).

ص: 72

شهد طاعة بلا معصية -يريد بذلك طاعة القدر- كقول بعض شيوخهم: أنا كافر برب يعصى، وقيل له عن بعض الظالمين: هذا ماله حرام، فقال: إن كان عصى الأمر، فقد أطاع الإرادة. ثم ينتقلون "إلى المشهد الثالث" لا طاعة ولا معصية، وهو مشهد أهل الوحدة القائلين بوحدة الوجود، وهذا غاية إلحاد المبتدعة جهمية الصوفية، كما أن القرمطة آخر إلحاد الشيعة، وكلا الإلحادين يتقاربان. وفيها من الكفر ما ليس في دين اليهود والنصارى ومشركي العرب. (1)

- وقال: و'المتفلسفة' أسوأ حالا من اليهود والنصارى، فإنهم جمعوا بين جهل هؤلاء وضلالهم، وبين فجور هؤلاء وظلمهم، فصار فيهم من الجهل والظلم ما ليس في اليهود ولا النصارى، حيث جعلوا السعادة في مجرد أن يعلموا الحقائق حتى يصير الإنسان عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود، ثم لم ينالوا من معرفة الله وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وخلقه وأمره إلا شيئا نزرا قليلا، فكان جهلهم أعظم من علمهم، وضلالهم أكبر من هداهم، وكانوا مترددين بين الجهل البسيط والجهل المركب؛ فإن كلامهم في الطبيعيات والرياضيات لا يفيد كمال النفس وصلاحها، وإنما يحصل ذلك بالعلم الإلهي، وكلامهم فيه: لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل. فإن كلامهم في "واجب الوجود" ما بين حق قليل، وباطل فاسد كثير، وكذلك في "العقول" و"النفوس" التي تزعم أتباعهم من أهل الملل، أنها الملائكة التي أخبرت بها الرسل؛ وليس الأمر كذلك، بل

(1) مجموع الفتاوى (7/ 504).

ص: 73

زعمهم أن هؤلاء هم الملائكة من جنس زعمهم أن واجب الوجود هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، مع اعترافهم بأن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان، وكذلك كلامهم في العقول والنفوس يعود عند التحقيق إلى أمور مقدرة في الأذهان، لا حقيقة لها في الأعيان، ثم فيه من الشرك بالله وإثبات رب مبدع لجميع العالم سواه -لكنه معلول له- وإثبات رب مبدع لكل ما تحت فلك القمر هو معلول الرب، فوقه ذلك الرب معلول لرب فوقه، ما هو أقبح من كلام النصارى في قولهم: إن المسيح ابن الله، بكثير كثير. (1)

- وقال: وأما قول الشاعر:

إذا بلغ الصب الكمال من الهوى فشاهد حقا حين يشهده الهوى

وغاب عن المذكور في سطوة الذكر

بأن صلاة العارفين من الكفر

فهذا الكلام -مع أنه كفر- هو كلام جاهل لا يتصور ما يقول، فإن الفناء والغيب؛ هو أن يغيب بالمذكور عن الذكر، وبالمعروف عن المعرفة، وبالمعبود عن العبادة؛ حتى يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، وهذا مقام الفناء الذي يعرض لكثير من السالكين، لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة، بخلاف الفناء الشرعي، فمضمونه الفناء بعبادته عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، فإن هذا تحقيق التوحيد والإيمان. (2)

(1) مجموع الفتاوى (7/ 586 - 587).

(2)

مجموع الفتاوى (2/ 343).

ص: 74

- وقال: وأما 'الإيمان بالرسول' فهو المهم، إذ لا يتم الإيمان بالله بدون الإيمان به، ولا تحصل النجاة والسعادة بدونه، إذ هو الطريق إلى الله سبحانه؛ ولهذا كان ركنا الإسلام: 'أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله'. ومعلوم أن الإيمان هو الإقرار، لا مجرد التصديق. والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق، وعمل القلب الذي هو الانقياد- تصديق الرسول فيما أخبر، والانقياد له فيما أمر، كما أن الإقرار بالله هو الاعتراف به والعبادة له؛ فالنفاق يقع كثيرا في حق الرسول، وهو أكثر ما ذكره الله في القرآن من نفاق المنافقين في حياته. والكفر: هو عدم الإيمان، سواء كان معه تكذيب أو استكبار، أو إباء أو إعراض؛ فمن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر. ثم هنا "نفاقان": نفاق لأهل العلم والكلام، ونفاق لأهل العمل والعبادة-.

فأما النفاق المحض الذي لا ريب في كفر صاحبه: فأن لا يرى وجوب تصديق الرسول فيما أخبر به، ولا وجوب طاعته فيما أمر به، وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول عظيم القدر -علما وعملا- وأنه يجوز تصديقه وطاعته؛ لكنه يقول: إنه لا يضر اختلاف الملل إذا كان المعبود واحدا، ويرى أنه تحصل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول وبغير متابعته؛ إما بطريق الفلسفة والصبو، أو بطريق التهود والتنصر، كما هو قول الصابئة الفلاسفة في هذه المسألة وفي غيرها؛ فإنهم وإن صدقوه وأطاعوه فإنهم لا يعتقدون وجوب ذلك على جميع أهل الأرض؛ بحيث يكون التارك لتصديقه وطاعته معذبا؛ بل يرون ذلك مثل التمسك بمذهب إمام أو طريقة شيخ أو طاعة ملك؛ وهذا

ص: 75

دين التتار ومن دخل معهم.

أما النفاق الذي هو دون هذا، فأن يطلب العلم لله من غير خبره، أو العمل لله من غير أمره، كما يبتلى بالأول كثير من المتكلمة، وبالثاني كثير من المتصوفة، فهم يعتقدون أنه يجب تصديقه أو تجب طاعته، لكنهم في سلوكهم العلمي والعملي غير سالكين هذا المسلك، بل يسلكون مسلكا آخر: إما من جهة القياس والنظر، وإما من جهة الذوق والوجد؛ وإما من جهة التقليد؛ وما جاء عن الرسول إما أن يعرضوا عنه، وإما أن يردوه إلى ما سلكوه؛ فانظر نفاق هذين الصنفين مع اعترافهم باطنا وظاهرا بأن محمدا أكمل الخلق، وأفضل الخلق، وأنه رسول، وأنه أعلم الناس، لكن إذا لم يوجبوا متابعته وسوغوا ترك متابعته كفروا، وهذا كثير جدا لكن بسط الكلام في حكم هؤلاء له موضع غير هذا. (1)

- وقال: كان المشركون يعبدون أنفسهم وأولادهم لغير الله، فيسمون بعضهم عبد الكعبة، كما كان اسم عبد الرحمن بن عوف، وبعضهم عبد شمس كما كان اسم أبي هريرة، واسم عبد شمس بن عبد مناف، وبعضهم عبد اللات، وبعضهم عبد العزى وبعضهم عبد مناة وغير ذلك مما يضيفون فيه التعبيد إلى غير الله، من شمس أو وثن أو بشر أو غير ذلك مما قد يشرك بالله.

ونظير تسمية النصارى عبد المسيح. فغير النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وعبدهم لله وحده، فسمى جماعات من أصحابه: عبد الله وعبد الرحمن، كما سمى عبد الرحمن بن عوف ونحو هذا، وكما سمى أبا معاوية وكان اسمه عبد العزى

(1) مجموع الفتاوى (7/ 638 - 640).

ص: 76

فسماه عبد الرحمن، وكان اسم مولاه قيوم فسماه عبد القيوم.

ونحو هذا من بعض الوجوه ما يقع في الغالية من الرافضة ومشابهيهم الغالين في المشائخ، فيقال هذا غلام الشيخ يونس أو للشيخ يونس أو غلام ابن الرفاعي أو الحريري ونحو ذلك مما يقوم فيه للبشر نوع تأله، كما قد يقوم في نفوس النصارى من المسيح، وفي نفوس المشركين من آلهتهم رجاء وخشية، وقد يتوبون لهم، كما كان المشركون يتوبون لبعض الآلهة، والنصارى للمسيح أو لبعض القديسين.

وشريعة الإسلام الذي هو الدين الخالص لله وحده: تعبيد الخلق لربهم كما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتغيير الأسماء الشركية إلى الأسماء الإسلامية، والأسماء الكفرية إلى الأسماء الإيمانية، وعامة ما سمى به النبي صلى الله عليه وسلم، عبد الله وعبد الرحمن. كما قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (1) فإن هذين الاسمين هما أصل بقية أسماء الله تعالى. وكان شيخ الإسلام الهروي قد سمى أهل بلده بعامة أسماء الله الحسنى، وكذلك أهل بيتنا؛ غلب على أسمائهم التعبيد لله، كعبد الله؛ وعبد الرحمن، وعبد الغني؛ والسلام؛ والقاهر؛ واللطيف؛ والحكيم؛ والعزيز؛ والرحيم؛ والمحسن؛ والأحد؛ والواحد، والقادر؛ والكريم؛ والملك؛ والحق. وقد ثبت في صحيح مسلم عن نافع عن عبد الله بن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحب الأسماء

(1) الإسراء الآية (110).

ص: 77

إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة» (1) وكان من شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في الحروب: يا بني عبد الرحمن، يا بني عبد الله، يا بني عبيد الله، كما قالوا يوم بدر؛ وحنين؛ والفتح؛ والطائف؛ فكان شعار المهاجرين: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله. (2)

- وقال: فما أعلم أحدا من الخارجين عن الكتاب والسنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة، إلا ولا بد أن يتناقض، فيحيل ما أوجب نظيره ويوجب ما أحال نظيره، إذ كلامهم من عند غير الله، وقد قال الله تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (3). والصواب ما عليه أئمة الهدى، وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث، ويتبع في ذلك سبيل السلف الماضين أهل العلم والإيمان، والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات، فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولا يعرض عنها فيكون من باب: الذين إذا ذكروا بآيات ربهم يخرون عليها صما وعميانا، ولا يترك تدبر القرآن فيكون من باب: الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني. فهذا أحد الوجهين وهو منع أن تكون هذه من المتشابه. (4)

(1) أخرجه أحمد (2/ 24) ومسلم (3/ 1682/2132) وأبو داود (5/ 236/4949) والترمذي (5/ 121/2833) وحسنه. وابن ماجه (2/ 1229/3728) من حديث ابن عمر.

(2)

مجموع الفتاوى (1/ 378 - 380).

(3)

النساء الآية (82).

(4)

مجموع الفتاوى (13/ 305).

ص: 78

- وقال رحمه الله في أبي معشر البلخي: وأبو معشر البلخي له 'مصحف القمر' يذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه. (1)

- وقال في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)} (2): بين سبحانه ضلال الذين يدعون المخلوق من الملائكة والأنبياء وغيرهم، فبين أن المخلوقين لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ثم بين أنه لا شركة لهم، ثم بين أنه لا عون له ولا ظهير، لأن أهل الشرك يشبهون الخالق بالمخلوق، كما يقول بعضهم إذا كانت لك حاجة: استوح الشيخ فلانا فإنك تجده، أو توجه إلى ضريحه خطوات وناد: يا شيخ، تقضى حاجتك. وهذا غلط لا يحل فعله، وإن كان من هؤلاء الداعين لغير الله من يرى صورة المدعو أحيانا، فذلك شيطان يمثل له، كما وقع مثل هذا لعدد كثير. ونظير هذا، قول بعض الجهال من أتباع الشيخ عدي وغيره: كل رزق لا يجيء على يد الشيخ لا أريده.

والعجب من ذي عقل سليم يستوحي من هو ميت، ويستغيث به، -ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت-، فيقول أحدهم: إذا كانت لك حاجة إلى ملك توسلت إليه بأعوانه، فهكذا يتوسل إليه بالشيوخ. وهذا كلام أهل الشرك والضلال، فإن الملك لا يعلم حوائج رعيته، ولا يقدر على قضائها وحده، ولا

(1) مجموع الفتاوى (17/ 507).

(2)

سبأ الآية (22).

ص: 79

يريد ذلك إلا لغرض يحصل له بسبب ذلك، والله أعلم بكل شيء، يعلم السر وأخفى، وهو على كل شيء قدير، فالأسباب منه وإليه. (1)

- وقال في استعانة الإنس بالشياطين: والإنسان إذا فسدت نفسه أو مزاجه يشتهي ما يضره ويلتذ به، بل يعشق ذلك عشقا يفسد عقله ودينه، وخلقه وبدنه وماله. والشيطان هو نفسه خبيث، فإذا تقرب صاحب العزائم والأقسام، وكتب الروحانيات السحرية، وأمثال ذلك إليهم بما يحبونه من الكفر والشرك صار ذلك كالرشوة والبرطيل لهم، فيقضون بعض أغراضه، كمن يعطي غيره مالا ليقتل من يريد قتله، أو يعينه على فاحشة، أو ينال معه فاحشة. ولهذا كثير من هذه الأمور يكتبون فيها كلام الله -بالنجاسة- وقد يقلبون حروف كلام الله عز وجل، إما حروف الفاتحة، وإما حروف قل هو الله أحد، وإما -غيرهما- إما دم وإما غيره، وإما بغير نجاسة. ويكتبون غير ذلك مما يرضاه الشيطان، أو يتكلمون بذلك. فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين أعانتهم على بعض أغراضهم: إما تغوير ماء من المياه، وإما أن يحمل في الهواء إلى بعض الأمكنة، وإما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس، كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين، ومن لم يذكر اسم الله عليه وتأتي به، وإما غير ذلك. وأعرف في كل نوع من هذه الأنواع من الأمور المعينة، ومن وقعت له ممن أعرفه، ما يطول حكايته، فإنهم كثيرون جدا. (2)

- وقال: والمقصود أن أهل الضلال والبدع الذين فيهم زهد وعبادة

(1) مجموع الفتاوى (18/ 322 - 323).

(2)

مجموع الفتاوى (19/ 34 - 35).

ص: 80

على غير الوجه الشرعي، ولهم أحيانا مكاشفات، ولهم تأثيرات يأوون كثيرا إلى مواضع الشياطين التي نهي عن الصلاة فيها، لأن الشياطين تتنزل عليهم بها، وتخاطبهم الشياطين ببعض الأمور كما تخاطب الكهان، وكما كانت تدخل في الأصنام وتكلم عابدي الأصنام، وتعينهم في بعض المطالب كما تعين السحرة، وكما تعين عباد الأصنام، وعباد الشمس والقمر والكواكب، إذا عبدوها بالعبادات التي يظنون أنها تناسبها، من تسبيح لها ولباس وبخور وغير ذلك، فإنه قد تنزل عليهم شياطين يسمونها روحانية الكواكب، وقد تقضي بعض حوائجهم، إما قتل بعض أعدائهم أو إمراضه، وإما جلب بعض من يهوونه، وإما إحضار بعض المال، ولكن الضرر الذي يحصل لهم بذلك أعظم من النفع، بل قد يكون أضعاف أضعاف النفع. (1)

- وقال: وأبو حامد الغزالي لما ذكر في كتابه طرق الناس في التأويل، وأن الفلاسفة زادوا فيه حتى انحلوا، وأن الحق بين جمود الحنابلة وبين انحلال الفلاسفة، وأن ذلك لا يعرف من جهة السمع بل تعرف الحق بنور يقذف في قلبك، ثم ينظر في السمع: فما وافق ذلك قبلته وإلا فلا. وكان مقصوده بالفلاسفة المتأولين خيار الفلاسفة، وهم الذين يعظمون الرسول عن أن يكذب للمصلحة، ولكن هؤلاء وقعوا في نظير ما فروا منه، نسبوه إلى التلبيس والتعمية وإضلال الخلق، بل إلى أن يظهر الباطل ويكتم الحق.

وابن سينا وأمثاله لما عرفوا أن كلام الرسول لا يحتمل هذه التأويلات الفلسفية، بل قد عرفوا أنه أراد مفهوم الخطاب: سلك مسلك التخييل،

(1) مجموع الفتاوى (19/ 41 - 42).

ص: 81

وقال: إنه خاطب الجمهور بما يخيل إليهم، مع علمه أن الحق في نفس الأمر ليس كذلك. فهؤلاء يقولون: إن الرسل كذبوا للمصلحة.

وهذا طريق ابن رشد الحفيد وأمثاله من الباطنية فالذين عظموا الرسل من هؤلاء عن الكذب نسبوهم إلى التلبيس والإضلال، والذين أقروا بأنهم بينوا الحق قالوا: إنهم كذبوا للمصلحة.

وأما أهل العلم والإيمان فمتفقون على أن الرسل لم يقولوا إلا الحق، وأنهم بينوه، مع علمهم بأنهم أعلم الخلق بالحق، فهم الصادقون المصدوقون علموا الحق وبينوه، فمن قال: إنهم كذبوا للمصلحة، فهو من إخوان المكذبين للرسل، لكن هذا لما رأى ما عملوا من الخير والعدل في العالم لم يمكنه أن يقول: كذبوا لطلب العلو والفساد، بل قال: كذبوا لمصلحة الخلق، كما يحكى عن ابن التومرت وأمثاله.

ولهذا كان هؤلاء لا يفرقون بين النبي والساحر إلا من جهة حسن القصد، فإن النبي يقصد الخير، والساحر يقصد الشر، وإلا فلكل منهما خوارق هي عندهم قوى نفسانية، وكلاهما عندهم يكذب، لكن الساحر يكذب للعلو والفساد، والنبي عندهم يكذب للمصلحة، إذ لم يمكنه إقامة العدل فيهم إلا بنوع من الكذب. (1)

- وقال: قد تدبرت عامة ما يذكره المتفلسفة والمتكلمة والدلائل العقلية فوجدت دلائل الكتاب والسنة تأتي بخلاصته الصافية عن الكدر، وتأتي بأشياء لم يهتدوا لها، وتحذف ما وقع منهم من الشبهات والأباطيل مع

(1) مجموع الفتاوى (19/ 157 - 158).

ص: 82

كثرتها واضطرابها. (1)

- وقال: فالبدع الكثيرة التي حصلت في المتأخرين من العباد والزهاد والفقراء والصوفية، لم يكن عامتها في زمن التابعين وتابعيهم، بخلاف أقوال أهل البدع القولية فإنها ظهرت في عصر الصحابة والتابعين، فعلم أن الشبهة فيها أقوى وأهلها أعقل، وأما بدع هؤلاء فأهلها أجهل وهم أبعد عن متابعة الرسول. ولهذا يوجد في هؤلاء من يدعي الإلهية والحلول والاتحاد، ومن يدعي أنه أفضل من الرسول وأنه مستغن عن الرسول، وأن لهم إلى الله طرقا غير طريق الرسول، وهذا ليس من جنس بدع المسلمين، بل من جنس بدع الملاحدة من المتفلسفة ونحوهم، وأولئك قد عرف الناس أنهم ليسوا مسلمين، وهؤلاء يدعون أنهم أولياء الله مع هذه الأقوال التي لا يقولها إلا من هو أكفر من اليهود والنصارى، وكثير منهم أو أكثرهم لا يعرف أن ذلك مخالفة للرسول، بل عند طائفة منهم أن أهل الصفة قاتلوا الرسول وأقرهم على ذلك، وعند آخرين أن الرسول أمر أن يذهب ليسلم عليهم ويطلب الدعاء منهم، وأنهم لم يأذنوا له وقالوا: اذهب إلى من أرسلت إليهم، وأنه رجع إلى ربه فأمره أن يتواضع ويقول: خويدمكم جاء ليسلم عليكم، فجبروا قلبه وأذنوا له بالدخول. فمع اعتقادهم هذا الكفر العظيم الذي لا يعتقده يهودي ولا نصراني يقر بأنه رسول الله إلى الأميين، يقولون: إن الرسول أقرهم على ذلك واعترف به، واعترف أنهم خواص الله، وأن الله يخاطبهم بدون الرسول، لم يحوجهم إليه كبعض خواص الملك مع وزرائه، ويحتجون بقصة الخضر مع

(1) مجموع الفتاوى (19/ 232 - 233).

ص: 83

موسى، وهي حجة عليهم لا لهم، من وجوه كثيرة قد بسطت في موضع آخر. (1)

- وقال: والمقصود هنا إنما كان التنبيه على طرق الطوائف في إثبات الصانع، وأن ما يذكره أهل البدع من المتكلمة والمتفلسفة؛ فإما أن يكون طويلا لا يحتاج إليه، أو ناقصا لا يحصل المقصود، وأن الطرق التي جاءت بها الرسل هي أكمل الطرق وأقربها وأنفعها، وأن ما في الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة يغني عن هذه الأمور المحدثة، وأن سالكيها يفوتهم من كمال المعرفة بصفات الله تعالى وأفعاله ما ينقصون به عن أهل الإيمان نقصا عظيما إذا عذروا بالجهل، وإلا كانوا من المستحقين للعذاب، إذا خالفوا النص الذي قامت عليهم به الحجة، فهم بين محروم ومأثوم. (2)

- وقال: ونوح عليه السلام أقام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى التوحيد، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، كما ثبت ذلك في الصحيح (3)، ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وكلا المرسلين بعث إلى مشركين يعبدون هذه الأصنام التي صورت على صور الصالحين من البشر، والمقصود بعبادتها عبادة أولئك الصالحين.

وكذلك المشركون من أهل الكتاب ومن مبتدعة هذه الأمة وضلالها هذا غاية شركهم، فإن النصارى يصورون في الكنائس صور من يعظمونه

(1) مجموع الفتاوى (19/ 275 - 276).

(2)

درء التعارض (8/ 238).

(3)

أحمد (3/ 116) والبخاري (13/ 519 - 520/ 7440) ومسلم (1/ 180 - 181/ 193) وابن ماجة (2/ 1442 - 1443/ 4312) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 84

من الإنس غير عيسى وأمه: مثل مارجرجس وغيره من القداديس، ويعبدون تلك الصور، ويسألونها ويدعونها ويقربون لها القرابين، وينذرون لها النذور، ويقولون: هذه تذكرنا بأولئك الصالحين. والشياطين تضلهم كما كانت تضل المشركين: تارة بأن يتمثل الشيطان في صورة ذلك الشخص الذي يدعى ويعبد، فيظن داعيه أنه قد أتى، أو يظن أن الله صور ملكا على صورته، فإن النصراني مثلا يدعو في الأسر وغيره مارجرجس أو غيره فيراه قد أتاه في الهواء، وكذلك آخر غيره، وقد سألوا بعض بطارقتهم عن هذا كيف يوجد في هذه الأماكن، فقال: هذه ملائكة يخلقهم الله على صورته تغيث من يدعوه، وإنما تلك شياطين أضلت المشركين.

وهكذا كثير من أهل البدع والضلال والشرك المنتسبين إلى هذه الأمة، فإن أحدهم يدعو ويستغيث بشيخه الذي يعظمه وهو ميت، أو يستغيث به عند قبره ويسأله، وقد ينذر له نذرا ونحو ذلك، ويرى ذلك الشخص قد أتاه في الهواء ودفع عنه بعض ما يكره، أو كلمه ببعض ما سأله عنه، ونحو ذلك فيظنه الشيخ نفسه أتى إن كان حيا، حتى إني أعرف من هؤلاء جماعات يأتون إلى الشيخ نفسه الذي استغاثوا به وقد رأوه أتاهم في الهواء فيذكرون ذلك له. هؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ، وهؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ، فتارة يكون الشيخ نفسه لم يكن يعلم بتلك القضية، فإن كان يحب الرياسة سكت وأوهم أنه نفسه أتاهم وأغاثهم، وإن كان فيه صدق مع جهل وضلال قال: هذا ملك صوره الله على صورتي. وجعل هذا من كرامات الصالحين، وجعله عمدة لمن يستغيث بالصالحين، ويتخذهم أربابا، وأنهم إذا استغاثوا بهم بعث

ص: 85

الله ملائكة على صورهم تغيث المستغيث بهم.

ولهذا أعرف غير واحد من الشيوخ الأكابر الذين فيهم صدق وزهد وعبادة لما ظنوا هذا من كرامات الصالحين صار أحدهم يوصى مريديه يقول: إذا كانت لأحدكم حاجة فليستغث بي، وليستنجدني وليستوصني، ويقول: أنا أفعل بعد موتي ما كنت أفعل في حياتي، وهو لا يعرف أن تلك شياطين تصورت على صورته لتضله، وتضل أتباعه، فتحسن لهم الإشراك بالله، ودعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، وأنها قد تلقي في قلبه أنا نفعل بعد موتك بأصحابك ما كنا نفعل بهم في حياتك، فيظن هذا من خطاب إلهي ألقي في قلبه، فيأمر أصحابه بذلك. وأعرف من هؤلاء من كان له شياطين تخدمه في حياته بأنواع الخدم، مثل خطاب أصحابه المستغيثين به، وإعانتهم، وغير ذلك، فلما مات صاروا يأتون أحدهم في صورة الشيخ، ويشعرونه أنه لم يمت، ويرسلون إلى أصحابه رسائل بخطاب، وقد كان يجتمع بي بعض أتباع هذا الشيخ، وكان فيه زهد وعبادة، وكان يحبني ويحب هذا الشيخ، ويظن أن هذا من الكرامات، وأن الشيخ لم يمت، وذكر لي الكلام الذي أرسله إليه بعد موته فقرأه فإذا هو كلام الشياطين بعينه، وقد ذكر لي غير واحد ممن أعرفهم أنهم استغاثوا بي فرأوني في الهواء وقد أتيتهم وخلصتهم من تلك الشدائد، مثل من أحاط به النصارى الأرمن ليأخذوه، وآخر قد أحاط به العدو ومعه كتب ملطفات من مناصحين لو اطلعوا على ما معه لقتلوه، ونحو ذلك، فذكرت لهم أني ما دريت بما جرى أصلا، وحلفت لهم على ذلك حتى لا يظنوا أني كتمت ذلك كما تكتم الكرامات، وأنا قد علمت أن الذي

ص: 86

فعلوه ليس بمشروع، بل هو شرك وبدعة، ثم تبين لي فيما بعد، وبينت لهم أن هذه شياطين تتصور على صورة المستغاث به.

وحكى لي غير واحد من أصحاب الشيوخ أنه جرى لمن استغاث بهم مثل ذلك، وحكى خلق كثير أنهم استغاثوا بأحياء وأموات فرأوا مثل ذلك، واستفاض هذا حتى عرف أن هذا من الشياطين، والشياطين تغوي الإنسان بحسب الإمكان، فإن كان ممن لا يعرف دين الإسلام أوقعته في الشرك الظاهر، والكفر المحض، فأمرته أن لا يذكر الله، وأن يسجد للشيطان، ويذبح له، وأمرته أن يأكل الميتة والدم ويفعل الفواحش، وهذا يجري كثيرا في بلاد الكفر المحض، وبلاد فيها كفر وإسلام ضعيف، ويجري في بعض مدائن الإسلام في المواضع التي يضعف إيمان أصحابه، حتى قد جرى ذلك في مصر والشام على أنواع يطول وصفها، وهو في أرض الشرق قبل ظهور الإسلام في التتار كثير جدا، وكلما ظهر فيهم الإسلام وعرفوا حقيقته، قلت آثار الشياطين فيهم، وإن كان مسلما يختار الفواحش والظلم أعانته على الظلم والفواحش، وهذا كثير جدا أكثر من الذي قبله في البلاد التي في أهلها إسلام وجاهلية، وبر وفجور. وإن كان الشيخ فيه إسلام وديانة ولكن عنده قلة معرفة بحقيقة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد عرف من حيث الجملة أن لأولياء الله كرامات، وهو لا يعرف كمال الولاية، وأنها الإيمان والتقوى واتباع الرسل باطنا وظاهرا، أو يعرف ذلك مجملا ولا يعرف من حقائق الإيمان الباطن وشرائع الإسلام الظاهرة ما يفرق به بين الأحوال الرحمانية، وبين النفسانية والشيطانية، كما أن الرؤيا ثلاثة أقسام: رؤيا من الله، ورؤيا

ص: 87