الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد بن إبراهيم مقبل على الاشتغال بالحديث شديد الميل إلى السنة بخلاف أهل بيته.
قال الإمام الشوكاني: ولو لقيه الحافظ ابن حجر بعد أن تبحر في العلوم لأطال عنان قلمه في الثناء عليه. وقال أيضا: لو قلت: إن اليمن لم ينجب مثله لم أبعد عن الصواب. له مؤلفات عديدة مفيدة منها: 'إيثار الحق على الخلق' وهو آخر مؤلفاته، و'العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم' ومختصره 'الروض الباسم' وغيرها.
توفي رحمه الله في الرابع والعشرين من محرم سنة أربعين وثمانمائة، وله من العمر أربع وستون سنة.
موقفه من المبتدعة:
فمن مواقفه الطيبة قال في 'إيثار الحق':
- فإن قيل: فمن أين جاء الاختلاف الشديد؟ فاعلم أن منشأ معظم البدع يرجع إلى أمرين واضح بطلانهما، فتأمل ذلك بإنصاف وشد عليه يديك. وهذان الأمران الباطلان هما:
الزيادة في الدين بإثبات ما لم يذكره الله تعالى ورسله عليهم السلام من مهمات الدين الواجبة.
والنقص منه بنفي بعض ما ذكره الله تعالى ورسله من ذلك بالتأويل الباطل. (1)
- وقال: فاعلم أن معظم ابتداع المبتدعين من أهل الإسلام، راجع إلى
(1) إيثار الحق على الخلق (85).
هذين الأمرين الباطلين، الواضح بطلانهما كما تقدم. وهما الزيادة في الدين والنقص منه، ثم يلحق بهما التصرف فيه بالعبارات المبتدعة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1)
- وقال: أما الأمر الأول: وهو الزيادة في الدين، فسببه تجويز خلو كتب الله تعالى وسنن رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام عن بيان بعض مهمات الدين اكتفاء بدرك العقول لها، ولو بالنظر الدقيق، ليكون ثبوتها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق النظر العقلي. هذا مذهب أهل الكلام، ومذهب أهل الأثر أنه ممنوع. (2)
- وقال: ومن ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (3). واتفق أهل الإسلام على أن المراد بالرد إلى الله ورسوله الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله، ولو لم يكونا وافيين ببيان مهمات الدين ما أمرهم الله بالرجوع إليهما عند الاختلاف. (4)
- وقال: والمسلم بالفطرة ينكر هذه البدع، وبالرسوخ في علم الحديث يعلم بالضرورة حدوثها وأن عصر النبوة والصحابة بريء منها. (5)
- وقال: بل الغالب على أهل البدع شدة العجب بنفوسهم والاستحسان لبدعتهم وربما كان أجر ذلك عقوبة على ما اختاروه أول مرة من ذلك كما حكى الله تعالى ذلك في قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
(1) إيثار الحق على الخلق (100).
(2)
إيثار الحق على الخلق (103).
(3)
النساء الآية (59).
(4)
إيثار الحق على الخلق (107).
(5)
إيثار الحق على الخلق (130).
بِكُفْرِهِمْ} (1). وهي من عجائب العقوبات الربانية. والمحذرات من المؤاخذات الخفية: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} (2).
وقد كثرت الآثار في أن إعجاب المرء بنفسه من المهلكات كما في حديث أبي ثعلبة الخشني عند (د ت)(3)، وعن ابن عمر مرفوعا:«ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه» . (4)
(1) البقرة الآية (93).
(2)
آل عمران (54).
(3)
أخرجه: أبو داود (4/ 512/4341) والترمذي (5/ 240/3058) وقال: "حسن غريب". وابن ماجه (2/ 1330 - 1331/ 4014) وابن حبان (2/ 108 - 109/ 385 الإحسان) وصححه الحاكم (4/ 322) ووافقه الذهبي.
(4)
أخرجه من حديث ابن عمر: الطبراني في الأوسط (6/ 351 - 352/ 5750) من طريق الوليد بن عبد الواحد التميمي عن ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عمر. وقال الطبراني عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن سعيد بن جبير إلا عطاء بن دينار، ولا عن عطاء إلا ابن لهيعة، تفرد به الوليد بن عبد الواحد، ولا يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد". وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 90 - 91) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وفيه ابن لهيعة ومن لا يعرف". قال المناوي في الفيض (3/ 308): "قال العلاء: سنده ضعيف. وعده في الميزان من المناكير".
وأخرجه من حديث أنس: العقيلي في الضعفاء الكبير (3/ 447) والدينوري في المجالسة وجواهر العلم (3/ 256 - 262/ 899)، والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 214 - 215/ 325) وأبو نعيم في الحلية (2/ 343)، والهروي في ذم الكلام (ص.310) والخرائطي في مساوئ الأخلاق (ص.144 حديث رقم:367) والبيهقي في الشعب (1/ 471/745) والبزار (كشف الأستار 1/ 60/81) وقال: "قال البزار: وهذا لم يروه هكذا إلا الفضل ولا عنه إلا أيوب". كلهم من طرق عن أيوب بن عتبة عن الفضل بن بكر العبدي عن قتادة عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. وقال العقيلي عقبه: "وقد روي عن أنس من غير هذا الوجه وعن غير أنس بأسانيد فيها لين" وقال قبله: "الفضل بن بكر العبدي عن قتادة ولا يتابع عليه من وجه يثبت". وقال أبو نعيم في الحلية: "هذا حديث غريب من حديث قتادة، ورواه عكرمة بن إبراهيم عن هشام عن يحيى ابن أبي كثير عن قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه".
وقال الذهبي عن الفضل بن بكر في الميزان (3/ 349): "الفضل بن بكر عن قتادة لا يعرف وحديثه منكر" ثم ذكر له هذا الحديث. والحديث ضعف إسناده العراقي في تخريج الإحياء (4/ 1902/3016).
وأخرجه: البزار (كشف الأستار 1/ 59 - 60/ 80) وابن شاهين في الترغيب في فضائل الأعمال (1/ 102/33) و (2/ 403/525) والهروي في ذم الكلام (ص.310 - 311) وأبو نعيم (6/ 268 - 269) كلهم من طريق زائدة ابن=
وعن أنس وابن عباس وابن أبي أوفى كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وآله مثل
= أبي الرقاد عن زياد النميري عن أنس رفعه. وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 91) وقال بعد عزوه للبزار والطبراني في الأوسط ببعضه: "وفيه زائدة بن أبي الرقاد وزياد النميري وكلاهما مختلف في الاحتجاج به".
وأخرجه: الطبراني في الأوسط (6/ 214 - 215/ 5448) وابن حبان في المجروحين (1/ 263) كلهم من طريق حميد بن الحكم قال: سمعت الحسن، يقول حدثنا أنس بن مالك. قال الطبراني عقبه:"لم يرو هذا الحديث عن الحسن إلا حميد بن الحكم تفرد به محمد بن عرعرة". وإسناده ضعيف جدا فإن حميد بن الحكم هذا قال عنه ابن حبان: "منكر الحديث جدا".
وأخرجه: ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/ 568/961) من طريق يغنم بن سالم عن أنس رفعه. ويغنم كان يضع على أنس كما في المجروحين (2/ 498). وقال ابن يونس: "حدث عن أنس فكذب". وقال الذهبي كما في الميزان (4/ 459): "أتى عن أنس بعجائب".
وأخرجه من حديث ابن عباس: ابن عدي في الكامل (5/ 1882) وأبو نعيم في الحلية (3/ 219) والهروي في ذم الكلام (ص.311) عن شيبان بن فروخ عن عيسى بن ميمون عن محمد بن كعب عنه بذكر المهلكات فقط. وعيسى هذا الظاهر أنه المديني وهو منكر الحديث كما قال البخاري في التاريخ الكبير (6/ت:2781). وأخرجه: البزار (كشف الأستار 1/ 60/82) من طريق محمد بن عون الخراساني عن محمد بن زيد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 92) وقال بعد عزوه للبزار: "وفي سنده محمد بن عون الخراساني وهو ضعيف جدا".
وأخرجه من حديث ابن أبي أوفى: البزار (كشف الأستار 1/ 60/83) وقال الهيثمي في المجمع (1/ 92): "وفي سند ابن أبي أوفى محمد بن عون الخراساني وهو ضعيف جدا".
وأخرجه من حديث أبي هريرة: الهروي في ذم الكلام (ص.311) وأبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب (1/ 174/346) من طريق سعيد بن سعيد عن عبد الله ابن سعيد عن أبيه عنه بذكر المهلكات. وعبد الله بن سعيد متروك واتهم.
وأخرجه: البيهقي في الشعب (5/ 452 - 453/ 7252) من طريق عبيد الله بن محمد حدثني بكر بن سليم الصواف عن أبي حازم عن الأعرج عن أبي هريرة رفعه بذكر المنجيات والمهلكات. وفيه بكر بن سليم الصواف قال عنه ابن عدي في الكامل: (2/ 462): "يحدث عن أبي حازم عن سهل بن سعد وعن غيره ما لا يوافقه أحد عليه". وحديثه هذا من هذا الباب. وقال أبو حاتم في الجرح والتعديل (2/ 386 - 387): "شيخ يكتب حديثه". وقال المنذري في الترغيب (1/ 286) بعد عزوه للبزار والبيهقي عن أنس: "وهو مروي عن جماعة من الصحابة، وأسانيده وإن كان لا يسلم شيء منها من مقال، فهو بمجموعها حسن إن شاء الله تعالى" ووافقه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (رقم:1802). وهذه الطرق كما ترى كلها شديدة الضعف والجبر إنما يكون في الضعف اليسير والله أعلم.
ذلك، رواها الهيثمي في مجمعه، ودليل العقوبة في ذلك أنك ترى أهل الضلال أشد عجبا وتيها وتهليكا للناس واستحقارا لهم، نسأل الله العفو والمعافاة من ذلك كله. (1)
- وله قصيدة دالية طويلة يعتز فيها بالتمسك بالكتاب والسنة فمنها:
قالوا: الأدلة ليس تخفى جملة
…
قلنا لهم: ذا قول من لم ينقد
إن كان للإسلام عشر دعائم
…
فانقص من العشر الدعائم أو زد
تجد الزيادة في الدليل محالة
…
والنقص للبرهان أعظم مفسد
يا لائمي في مذهبي بالله قل
…
لم زدت في الإسلام ما لم يعهد
ما للسنين قضت ولم ينطق بذا
…
خير البرية مرة في مشهد؟
أو لم يكن أولى بتبيين الهدى
…
والمشكلات لأحمر ولأسود
ما كان أحمد في المرا متدربا
…
كلا، ولا للمشكلات بمورد
بل كان يأمر بالجهاد لكل من
…
جحد الدليل وكل باغ معتد
حتى استقام الدين وانتعش الهدى
…
بالمشرفية والقنا المتقصد
قامت شريعته لكل مجرب
…
ماضي المضارب لا يكل مجلد
وكذاك أهل البيت ما زالوا على
…
منهاجه من قائم أو سيد (2)
إلى أن قال:
وكذا الصحابة والذين يلونهم
…
سل كل تاريخ بذاك ومسند
وكذلك الفقهاء قالوا وامتحن
…
قولي وسل كتب التراجم وانقد
(1) إيثار الحق على الخلق (385 - 386).
(2)
من مقدمة العواصم والقواصم (1/ 35 - 36).
ما كنت بدعا في الذي قد قلته
…
يا لائمي فدع الغواية ترشد
وإذا أبيت وكنت لا تدري فقم
…
عن مجلس العلما وقف بالمربد
فلأجهرن بما علمت فإن أعش
…
أنصح وإن أقضي فغير مخلد
هذا وما اخترت العتيق لحيرتي
…
في الغامضات، ولا لفرط تبلد
فأنا الذي أفنيت شرخ شبيبتي
…
في بحث كل محقق ومجود
والافتخار مذمة مني فسل
…
عني المشايخ فالمشايخ شهدي
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
…
فافهم فتلك كناية عن سؤددي
وإذا شككت بأن تلك فضيلة
…
فاستقر -ويحك- وصف كل محسد
فلحسدي ما في الضمائر منهم
…
أبدا ولي ما هم عليه حسدي (1)
- وقال في 'الروض الباسم':
فإذا عرفت هذا تبين لك أن المحدثين هم الذين اختصوا بالذب عن السنن النبوية والمعارف الأثرية، وحموا حماها من أكاذيب الحشوية، وصنفوا كتب الموضوعات، وناقشوا في دقائق الأوهام حفاظ الثقات، وعملوا في ذلك أعمالا عظيمة، وقطعوا فيها أعمارا طويلة، وقسموا الكلام فيه في أربعة فنون:
أحدها: معرفة العلل.
وثانيها: معرفة الرجال.
وثالثها: معرفة علوم الحديث.
(1) العواصم والقواصم (1/ 37).
ورابعها: معرفة الحديث وطرقه.
واشتملت هذه الفنون من المعارف النبوية والقواعد العلمية على ما يضطر كل عارف إلى أنهم أتم الخلق عناية بحماية علم الحديث عن التبديل والتحريف، وأنهم الجهابذة النقاد بعلم المتن والإسناد، فإنهم الذين بينوا أنواع الحديث التي اختلف في قبولها أهل العلم، مثل التدليس والإعضال، والاضطراب والإعلال، والنكارة والإرسال، والوصل والقطع، والوقف والرفع، وغير ذلك من علوم الحديث الغزيرة، وفوائده العزيزة، ولأمر ما سارت تصانيفهم فيه سير الكواكب، وانتفع بكلامهم فيه الولي الصادق والعدو المناصب، والمتهم لهم بحشو الأحاديث واختلاق الأباطيل في الحديث لا يكون من أهل العقول التامة، دع عنك أهل المعارف من الخاصة، وذلك أنه لا خفاء على العاقل أن أئمة الفن لا يكونون هم المتهمين فيه، إذ لو كان كذلك لبطل العلم بالمرة، فإنا لو اتهمنا النحاة في النحو واللغويين في اللغة، والفقهاء في الفقه، والأطباء في الطب لم يتعلم جاهل ولا تداوى مريض. فيا هذا من للحديث إذا ترك أهله؟ فلو عدمت تآليفهم فيه وتحقيقهم لألفاظه ومعانيه، لأظلمت الدنيا على طالبه وأوحشت المسائل على مريده.
يا هذا، فكر لم سموا أهل الحديث، ولم سمي أهل الكلام بذلك، وكذلك أهل النحو وسائر الفنون؟! فإن كان أهل الحديث قد سموا بذلك عندك مع عدم معرفتهم به وكذبهم فيه فهلا جوزت مثل ذلك في سائر أهل الفنون، بل في سائر أهل الصناعات، بل في جميع أهل الأسماء المشتقات، فيجوز أن يسمى الفقيه نحويا والمتكلم عروضيا والغني فقيرا والصغير كبيرا.
وهذا ما لا يقول به عاقل، ولا يرتضيه أحد من أهل الباطل!!
ومن أحب أن يعرف حق المحدثين واجتهادهم في التحري للمسلمين فليطالع تآليف نقادهم في الرجال والعلل والأحكام، مثل 'ميزان الاعتدال في نقد الرجال' للذهبي، و'التهذيب' للمزي، و'العلل' للدارقطني، و'علوم الحديث' لابن الصلاح وزين الدين العراقي وغير ذلك، ثم ليطالع بعد ذلك كتب الصحاح والسنن لاحظا لما فيها من اختيار أصح الأسانيد، والإشارة إلى مهمات ما يتعلق بالأحاديث من العلل القادحة والمرجحات الواضحة. ثم ليوازن بينها وبين سائر مصنفات الفرق في الحديث، يجد الفرق بين التصانيف واضحا، والبون بين الرجال نازحا، ومن موازين الإنصاف العادلة وأدلة الأوصاف الفاضلة أنك تراهم يضعفون الضعيف من فضائل أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ويصدعون بالحق في ذلك، وكذلك يضعفون ما يدل على مذهبهم متى كان ضعيفا، ويضعفون كثيرا من علمائهم إذا كانوا ضعفاء، نصيحة منهم للمسلمين واحتياطا في أمر الدين.
وهذه إشارة مختصرة دعا إلى ذكرها تعريف من أنكر الجليات، ودافع ما هو كالمعارف الأوليات، إذ من المعلوم أن أهل الحديث اسم لمن عني به وانقطع في طلبه، كما قال بعضهم:
إن علم الحديث علم رجال
…
فإذا جن ليلهم كتبوه
…
تركوا الابتداع للاتباع
وإذا أصبحوا غدوا للسماع
فهؤلاء هم أهل الحديث من أي مذهب كانوا، وكذلك أهل العربية وأهل اللغة، فإن أهل كل فن هم أهل المعرفة فيه، والتحقيق لألفاظه ومعانيه،
وقد ذكر أئمة الحديث ما يتقضى ذلك، فإنهم يجمعون على أن أبا عبد الله الحاكم بن البيع من أئمة الحديث مع معرفتهم أنه من الشيعة، وقد ذكروا في كتب الرجال كثيرا من أئمة الحديث، ورواة الصحيح منسوبا إلى البدع. وبهذا يزداد قول المعترض بطلانا في نسبة المحدثين إلى الحشوية، ويظهر له أنه قد نسب إلى الحشو جماعة من أهل مذهبه وسائر الفرق، بل نسبة ذلك إلى خير القرون، فإن المتمكن من الآثار النبوية هم خير الفرق الإسلامية، لأنهم أشبه الخلق خلقا وسيرة وعقيدة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمحدث إن كان مراعيا للسنة مجانبا للبدعة ملاحظا لما كان عليه السلف فهو جدير بإجماع من يعتد به بصحة ما هو عليه وقوة ما استند إليه، وإن كان من بعض الفرق المبتدعة، فهو خير تلك الفرقة وأشبههم خلقا وسيرة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الغالب، ولا عبرة بالنادر ولا بمن ليس من أهل الديانة، فنسبة خير الفرق إلى شر فرقة وتلقيبهم بأخس لقب من التهافت في مهاوي الضلال، والخبط في تيه الوبال.
ويلحق بهذا فائدة تزيد ما ذكرناه تحقيقا وتزيد أئمة الحديث توثيقا، وهي أن من المشهور بتجويز الكذب في الحديث من الحشوية الطائفة المعروفة بالكرامية، وقد يطلق الرازي نسبة هذا إلى الكرامية، وحققه الإمام أبو بكر محمد بن منصور السمعاني فنسبه إلى بعضهم فيما لا يتعلق بالأحكام مما يتعلق بالترغيب والترهيب، والمحدثون براء من هذه الطائفة، وقد تكلموا عليهم في غير كتاب؛ ممن تكلم عليهم الذهبي في 'ميزان الاعتدال' فإنه قال في ترجمة ابن كرام شيخ هذه الطائفة ما لفظه: محمد بن كرام العابد المتكلم،
ساقط الحديث على بدعته، أكثر عن أحمد الجويباري ومحمد بن تميم السعدي وكانا كذابين، قال ابن حبان: خذل حتى التقط من المذاهب أرذلها ومن الأحاديث أوهاها (1). وقال أبو العباس: شهدت البخاري ودفع إليه كتاب من ابن كرام يسأله عن أحاديث، منها الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعا: الإيمان لا يزيد ولا ينقص. فكتب البخاري على ظهر كتابه: من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل. وقال ابن حبان: جعل ابن كرام الإيمان قولا بلا معرفة. وقال ابن حزم: قال ابن كرام: الإيمان قول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه. قال شيخ أهل الحديث الذهبي: هذا منافق محض في الدرك الأسفل من النار، فإيش ينفع ابن كرام أن نسميه مؤمنا؟ قال الذهبي: وقد سجن ابن كرام لبدعته بنيسابور ثمانية أعوام. وقد سقت أخباره في تاريخي الكبير. انتهى كلامه.
فيا من لا يفرق بين الحشوى والمحدث، انظر إلى نصوص أئمة الحفاظ في إنكار مذهب ابن كرام في رواية الأحاديث الواهية وفي القول بالإرجاء، وقد نص البخاري على أن راوي الحديث المقدم الذي هو حجة المرجئة يستوجب الضرب الشديد والحبس الطويل، وعن قريب تأتي نسبتك للإرجاء إلى المحدثين، وقل لي من الذي حبس ابن كرام في نيسابور على بدعته، ولمن كانت الشوكة في نيسابور في ذلك العصر وهو بعد المائتين؟ فإن قلت: إنك إنما أسميت المحدثين بالحشوية لكون الحشوية من فرقهم والجامع لهم ردهم لمذهب الشيعة والمعتزلة، قلت: ليس هذا مما يعتذر به، فإن المنصور بالله روى
(1) في الأصل: "أوهاما" والتصحيح من "الميزان".