الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقفه من الجهمية:
هذا المؤرخ الكبير كان من أفاضل علماء زمانه. له اطلاع واسع وباع طويل ومعرفة واسعة بالعقيدة السلفية والخلفية، وقد أبدى في كتابه الخطط إعجابا بالعقيدة السلفية وبين أنها عقيدة الصحابة والتابعين لهم بإحسان. فقال:
- فصل: اعلم أن الله سبحانه طلب من الخلق معرفته بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} (1) قال ابن عباس وغيره: يعرفون، فخلق تعالى الخلق، وتعرف إليهم بألسنة الشرائع المنزلة، فعرفه من عرفه سبحانه منهم على ما عرفهم فيما تعرف به إليهم، وقد كان الناس قبل إنزال الشرائع ببعثة الرسل عليهم السلام علمهم بالله تعالى إنما هو بطريق التنزيه له عن سمات الحدوث وعن التركيب وعن الافتقار، ويصفونه سبحانه بالاقتدار المطلق، وهذا التنزيه هو المشهور عقلا، ولا يتعداه عقل أصلا.
فلما أنزل الله شريعته على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأكمل دينه، كان سبيل العارف بالله أن يجمع في معرفته بالله بين معرفتين إحداهما المعرفة التي تقتضيها الأدلة العقلية والأخرى المعرفة التي جاءت بها الإخبارات الإلهية وأن يرد علم ذلك إلى الله تعالى ويؤمن به وبكل ما جاءت به الشريعة على الوجه الذي أراده الله تعالى من غير تأويل بفكره، ولا تحكم فيه برأيه، وذلك أن الشرائع إنما أنزلها الله تعالى لعدم استقلال العقول البشرية بإدراك حقائق الأشياء على ما
(1) الذاريات الآية (56).
هي عليه في علم الله وأنى لها ذلك؟! وقد تقيدت بما عندها من إطلاق ما هنالك، فإن وهبها علما بمراده من الأوضاع الشرعية، ومنحها الإطلاع على حكمه في ذلك كان من فضله تعالى، فلا يضيف العارف هذه المنة إلى فكره، فإن تنزيهه لربه تعالى بفكره يجب أن يكون مطابقا لما أنزله سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة وإلا فهو تعالى منزه عن تنزيه عقول البشر بأفكارها، فإنها مقيدة بأوطارها، فتنزيهها كذلك مقيد بحسبها، وبموجب أحكامها وآثارها، إلا إذا خلت عن الهوى فإنها حينئذ يكشف الله لها الغطاء عن بصائرها ويهديها إلى الحق فتنزه الله تعالى عن التنزيهات العرفية بالأفكار العادية، وقد أجمع المسلمون قاطبة على جواز رواية الأحاديث الواردة في الصفات ونقلها وتبليغها من غير خلاف بينهم في ذلك، ثم أجمع أهل الحق منهم على أن هذه الأحاديث مصروفة عن احتمال مشابهة الخلق، لقول الله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (1)
ولقول الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} وهذه السورة يقال لها سورة الإخلاص، وقد عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنها ورغب أمته في تلاوتها حتى جعلها تعدل ثلث القرآن، من أجل أنها شاهدة بتنزيه الله تعالى وعدم الشبه والمثل له سبحانه، وسميت سورة الإخلاص لاشتمالها على إخلاص التوحيد لله عن أن
(1) الشورى الآية (11) ..
يشوبه ميل إلى تشبيهه بالخلق، وأما الكاف التي في قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فإنها زائدة وقد تقرر أن الكاف والمثل في كلام العرب أتيا للتشبيه، فجمعهما الله تعالى ثم نفى بهما عنه ذلك، فإذا ثبت إجماع المسلمين على جواز رواية هذه الأحاديث ونقلها، مع إجماعهم على أنها مصروفة عن التشبيه، لم يبق في تعظيم الله تعالى بذكرها إلا نفي التعطيل، لكون أعداء المرسلين سموا ربهم سبحانه أسماء؛ نفوا فيها صفاته العلا، فقال قوم من الكفار: هو طبيعة، وقال آخرون منهم: هو علة، إلى غير ذلك من إلحادهم في أسمائه سبحانه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأحاديث المشتملة على ذكر صفات الله العلا، ونقلها عنه أصحابه البررة، ثم نقلها عنهم أئمة المسلمين حتى انتهت إلينا، وكل منهم يرويها بصفتها من غير تأويل لشيء منها، مع علمنا أنهم كانوا يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} ففهمنا من ذلك أن الله تعالى أراد بما نطق به رسوله صلى الله عليه وسلم من هذه الأحاديث، وتناولها عنه الصحابة رضي الله عنهم وبلغوها لأمته، أن يغص بها في حلوق الكافرين، وأن يكون ذكرها نكتا في قلب كل ضال معطل مبتدع، يقفو أثر المبتدعة من أهل الطبائع وعباد العلل، فلذلك وصف الله تعالى نفسه الكريمة بها في كتابه، ووصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا بما صح عنه وثبت، فدل على أن المؤمن إذا اعتقد أن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأنه أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، كان ذكره
لهذه الأحاديث تمكين الإثبات، وشجا في حلوق المعطلة. وقد قال الشافعي رحمه الله: الإثبات أمكن؛ نقله الخطابي. ولم يبلغنا عن أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم أنهم أولوا هذه الأحاديث، والذي يمنع من تأويلها إجلال الله تعالى عن أن تضرب له الأمثال، وأنه إذا أنزل القرآن بصفة من صفات الله كقوله سبحانه:{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (1) فإن نفس تلاوة هذا يفهم منها السامع المعنى المراد به، وكذا قوله تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (2) عند حكايته تعالى عن اليهود نسبتهم إياه إلى البخل.
فقال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} فإن نفس تلاوة هذا، مبينة للمعنى المقصود، وأيضا فإن تأويل هذه الأحاديث يحتاج أن يضرب لله تعالى فيها المثل، نحو قولهم في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (3) الاستواء الاستيلاء كقولك استوى الأمير على البلد وأنشدوا:
قد استوى بشر على العراق
فلزمهم تشبيه الباري تعالى ببشر، وأهل الإثبات نزهوا جلال الله عن أن يشبهوه بالأجسام حقيقة ولا مجازا، وعلموا مع ذلك أن هذا النطق يشتمل على كلمات متداولة بين الخالق وخلقه، وتحرجوا أن يقولوا مشتركة لأن الله لا شريك له، ولذلك لم يتأول السلف شيئا من أحاديث الصفات مع
(1) الفتح الآية (10).
(2)
المائدة الآية (64).
(3)
طه الآية (5).
علمنا قطعا أنها عندهم مصروفة عما يسبق إليه ظنون الجهال من مشابهتها لصفات المخلوقين، وتأمل تجد الله تعالى لما ذكر المخلوقات المتولدة من الذكر والأنثى في قوله سبحانه:{جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} (1) علم سبحانه ما يخطر بقلوب الخلق فقال عز من قائل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (2).اهـ (3)
التعليق:
يتلخص من هذه العقيدة المباركة الأمور الآتية:
1 -
سلفية الشيخ ودفاعه عن العقيدة السلفية، وأنها هي الأصل، وهي الموافقة للفطرة السليمة. وما سوى ذلك طارئ وحادث.
2 -
معرفة الله بالفطرة والشرائع مفصلة ومبية لذلك.
3 -
آيات الصفات وأحاديثها جاءت ردا على المعطلة والملاحدة في القديم والحديث، وهي العمدة في معرفة الله، فهي ترد وهم الطبائعيين وخيالات المتفلسفين وأوهام المعطلين.
4 -
لازم التأويل التشبيه، ولا يمكن أن يكون تأويل إلا بذلك.
- وفيها أيضا: اعلم أن الله تعالى لما بعث من العرب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم
(1) الشورى الآية (11).
(2)
الشورى الآية (11).
(3)
الخطط (2/ 360 - 362).
رسولا إلى الناس جميعا، وصف لهم ربهم سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه الكريمة في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه صلى الله عليه وسلم الروح الأمين، وبما أوحى إليه ربه تعالى؛ فلم يسأله صلى الله عليه وسلم أحد من العرب بأسرهم قرويهم وبدويهم عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن أمر الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما لله فيه سبحانه أمر ونهي، وكما سألوه صلى الله عليه وسلم عن أحوال القيامة والجنة والنار، إذ لو سأله إنسان منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنقل كما نقلت الأحاديث الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في أحكام الحلال والحرام، وفي الترغيب والترهيب، وأحوال القيامة والملاحم والفتن، ونحو ذلك مما تضمنته كتب الحديث، معاجمها ومسانيدها وجوامعها، ومن أمعن النظر في دواوين الحديث النبوي ووقف على الآثار السلفية علم أنه لم يرد قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى شيء مما وصف الرب سبحانه به نفسه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات، نعم ولا فرق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة فعل، وإنما أثبتوا له تعالى صفات أزلية: من العلم والقدرة، والحياة والإرادة، والسمع والبصر، والكلام والجلال، والإكرام والجود والإنعام، والعز والعظمة، وساقوا الكلام سوقا واحدا، وهكذا أثبتوا رضي الله عنهم ما أطلقه الله سبحانه على نفسه الكريمة من الوجه واليد ونحو ذلك مع نفي مماثلة المخلوقين، فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه، ونزهوا من غير تعطيل، ولم يتعرض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل