الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العظمى في الفنون، من التحري والتحقيق، له استنباطات جليلة، ودقائق منيفة، وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، وقواعد محررة محققة، وبالجملة فقدره في العلوم فوق ما يذكر، وتحليته في التحقيق فوق ما يشتهر. وقال أيضا: كان ثبتا ورعا صالحا زاهدا سنيا إماما مطلقا، على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع. وقال محمد مخلوف: العلامة المؤلف المحقق النظار، أحد الجهابذة الأخيار، وكان له القدم الراسخ في سائر الفنون والمعارف. له تآليف نفيسة منها: 'الاعتصام' و'الموافقات' و'المجالس' شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري و'الإفادات والإنشاءات' وغيرها. توفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة تسعين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية: كتاب 'الاعتصام' وهو من أنفع الكتب في العقيدة السلفية. لم تر العين مثله في مناقشة البدع والمبتدعة، وقد نفعنا الله به في هذا البحث المبارك. وهو مع الأسف لم يتمه صاحبه، وقد أتمَّه أحد علماء اليمن، فلعلنا نظفر بالتتمة، وهو كغيره من الكتب، قد تقع فيه بعض الهفوات، وكان ينبغي أن يكون على علم بهذه الأمور، فقد جعل إثبات الصفات لله رب العالمين من البدع، قال ما لفظه: ومثاله في ملة الإسلام مذهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب، المنزه عن النقائص، من العين واليد والرجل والوجه المحسوسات والجهة، وغير ذلك من الثابت للمحدثات.
ولعل العذر للشيخ أنه لم يفهم تفاصيل مذهب السلف في إثبات الصفات لله رب العالمين، فوقع في هذا الخلط وهذه التعابير المشينة. والله
المستعان.
والكتاب مطبوع متداول غصة في حلق المبتدعة حتى إنهم بدؤوا يؤلفون بعض الكتب الركيكة السمجة ويسمونها بأسماء، كصاحب 'إتقان الصنعة في تعريف البدعة' (1) وهو أحق أن يسمى كتاب: 'الدعوة إلى البدعة' وكل ما فيه غث ليس فيه شيء من العلم، وإنما هو سباب وشتم وتنقيص من مكانة العلماء ومحاولة جعل الصحابة من كبار المبتدعة، وحاشاهم من ذلك. وتعرض لهذا الكتاب -الاعتصام- بنقد بارد لا يدل على إنصاف ولا علم.
وكذلك: "عزت" الذي ألف كتاب البدعة وصار له رواج في الأسواق، وهو أحق كذلك أن يسمى: الدعوة إلى بعض البدع، كالمولد وغيره، وقد أشاد بكتابه حتى جعل من قرأ المقدمة يشعر وكأنه حصل على علم لم يسبق به، وجعل الاعتصام بالمقارنة مع كتابه لا يساوي شيئا والله المستعان.
ومن أقوال الإمام الشاطبي رحمه الله في نصر السنة وذم البدعة:
- قال في الاعتصام: ثم استمر مزيد الإسلام، واستقام طريقه على مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعد موته، وأكثر قرن الصحابة رضي الله عنهم
…
إلى أن نبغت فيهم نوابغ الخروج عن السنة، وأصغوا إلى البدع المضلة، كبدعة القدر، وبدعة الخوارج، وهي التي نبه عليها الحديث بقوله:«يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم» (2)،
(1) لعبد الله بن الصديق الغماري.
(2)
انظر تخريجه في مواقف ابن تيمية سنة (728هـ).
يعني: لا يتفقهون فيه، بل يأخذونه على الظاهر، كما بينه حديث ابن عمر الآتي بحول الله، وهذا كله في آخر عهد الصحابة.
ثم لم تزل الفرق تكثر حسبما وعد به الصادق صلى الله عليه وسلم في قوله: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» (1).
وفي الحديث الآخر: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب، لاتبعتموهم» . قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟. قال:«فمن؟» (2).
وهذا أعم من الأول، فإن الأول عند كثير من أهل العلم خاص بأهل الأهواء، وهذا الثاني عام في المخالفات، ويدل على ذلك من الحديث قوله:«حتى لو دخلوا في جحر ضب، لاتبعتموهم» .
وكل صاحب مخالفة، فمن شأنه أن يدعو غيره إليها، ويحض سواه عليها، إذ التأسي في الأفعال والمذاهب موضوع طلبه في الجبلة، وبسببه تقع من المخالف المخالفة، وتحصل من الموافق المؤالفة، ومنه تنشأ العداوة والبغضاء للمختلفين. (3)
- وقال فيه أيضا: وهذه سنة الله في الخلق، أن أهل الحق في جنب أهل
(1) انظر تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).
(2)
انظر تخريجه في مواقف علي بن المديني سنة (234هـ).
(3)
الاعتصام (1/ 28 - 29).
الباطل قليل، لقوله تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (1)، وقوله تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)} (2)، ولينجز الله ما وعد به نبيه صلى الله عليه وسلم من عود وصف الغربة إليه، فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم، وذلك حين يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا، وتصير السنة بدعة والبدعة سنة، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف كما كان أولا يقام على أهل البدعة، طمعا من المبتدع أن تجتمع كلمة الضلال؛ ويأبى الله أن تجتمع حتى تقوم الساعة، فلا تجتمع الفرق كلها -على كثرتها- على مخالفة السنة عادة وسمعا، بل لا بد أن تثبت جماعة أهل السنة حتى يأتي أمر الله، غير أنهم -لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء، استدعاء إلى موافقتهم- لا يزالون في جهاد ونزاع، ومدافعة وقراع، آناء الليل والنهار، وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل، ويثيبهم الثواب العظيم. (3)
- وقال أيضا: ومن الآيات قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (4). فالصراط المستقيم: هو سبيل الله الذي دعا إليه، وهو السنة. والسبل: هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن
(1) يوسف الآية (103).
(2)
سبأ الآية (13).
(3)
الاعتصام (1/ 30 - 31).
(4)
الأنعام الآية (153).
الصراط المستقيم، وهم أهل البدع، ليس المراد سبل المعاصي، لأن المعاصي من حيث هي معاص لم يضعها أحد طريقا تسلك دائما على مضاهاة التشريع، وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات. ويدل على هذا ما روى إسماعيل عن سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله، قال:«خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما -وخط لنا سليمان- خطا طويلا، وخط عن يمينه وعن يساره فقال: هذا سبيل الله ثم خط لنا خطوطا عن يمينه ويساره وقال: هذه سبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. ثم تلا هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} -يعني: الخطوط- {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1)» .اهـ (2)
- وقال عقب حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه (3): فقرن عليه السلام -كما ترى- سنة الخلفاء الراشدين بسنته، وأن من اتباع سنته اتباع سنتهم، وأن المحدثات خلاف ذلك، ليس منها في شيء، لأنهم رضي الله عنهم فيما سنوه: إما متبعون لسنة نبيهم عليه السلام نفسها، وإما متبعون لما فهموا من سنته صلى الله عليه وسلم في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثله، لا زائد على ذلك. (4)
(1) انظر تخريجه في مواقف الإمام مالك سنة (179هـ).
(2)
الاعتصام (1/ 75 - 76).
(3)
انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(4)
الاعتصام (1/ 118).
- وقال: والشواهد في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل على أن الهين عند الناس من البدع شديد وليس بهين، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (1).اهـ (2)
- وقال: فقيل: ما خان أمين قط، ولكنه ائتمن غير أمين، فخان. قال: ونحن نقول: ما ابتدع عالم قط، ولكنه استفتي من ليس بعالم، فضل وأضل. (3)
- وقال: إن الإحداث في الشريعة إنما يقع: إما من جهة الجهل، وإما من جهة تحسين الظن بالعقل، وإما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق، وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنة. (4)
- وقال: ولقد زل بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم، فضلوا عن سواء السبيل.
ولنذكر لذلك عشرة أمثلة: (فذكرها تِبَاعاً فمنها قوله):
والعاشر: رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين، فإن محصول مذهبهم تحكيم عقول الرجال دون الشرع، وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع في الدين، بحيث إن الشرع، إن وافق آراءهم قبلوه، وإلا ردوه.
فالحاصل مما تقدم أن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل
(1) النور الآية (15).
(2)
الاعتصام (2/ 537).
(3)
الاعتصام (2/ 680).
(4)
الاعتصام (2/ 804).