الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال: واليقين: هو العلم الحاصل للقلب بعد النظر والاستدلال، فيوجب قوم التصديق حتى ينفي الريب، ويوجب طمأنينة القلب بالإيمان وسكونه وارتياحه به، وقد جعله ابن مسعود الإيمان كله. وكذا قال الشعبي أيضا.
وهذا مما يتعلق به من يقول: إن الإيمان هو مجرد التصديق؛ حيث جعل اليقين: الإيمان كله، فحصره في اليقين؛ ولكن لم يرد ابن مسعود أن ينفي الأعمال من الإيمان؛ إنما مراده: أن اليقين هو أصل الإيمان كله، فإذا أيقن القلب بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر انبعثت الجوارح كلها للاستعداد للقاء الله تعالى بالأعمال الصالحة فنشأ ذلك كله عن اليقين.
قال الحسن البصري: ما طلبت الجنة إلا باليقين، ولا هرب من النار إلا باليقين، ولا أديت الفرائض إلا باليقين، ولا صبر على الحق إلا باليقين.
وقال سفيان الثوري: لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي لطارت القلوب اشتياقا إلى الجنة وخوفا من النار. (1)
موقفه من القدرية:
قال رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: «فلو أن الخلق جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله، لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك، لم يقدروا عليه» (2). هذه رواية الإمام أحمد، ورواية الترمذي بهذا المعنى أيضا، والمراد: أن ما يصيب العبد في دنياه مما يضره أو ينفعه، فكله مقدر
(1) المصدر السابق (1/ 15).
(2)
تقدم تخريجه في مواقف أبي عثمان الصابوني سنة (449هـ).
عليه، ولا يصيب العبد إلا ما كتب له من ذلك في الكتاب السابق، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعا.
وقد دل القرآن على مثل هذا في قوله عزوجل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (1)، وقوله:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (2)، وقوله:{قل لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} (3).
وخرج الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه» . (4)
وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث زيد بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى ذلك أيضا.
واعلم أن مدار جميع هذه الوصية على هذا الأصل، وما ذكر قبله وبعده، فهو متفرع عليه، وراجع إليه، فإن العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشر، ونفع وضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتة، علم حينئذ أن الله وحده هو الضار النافع، المعطي المانع، فأوجب
(1) التوبة الآية (51).
(2)
الحديد الآية (22).
(3)
آل عمران الآية (154).
(4)
رواه أحمد (6/ 441) قال الهيثمي (7/ 197): "رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات، ورواه الطبراني في الأوسط".
ذلك للعبد توحيد ربه عزوجل، وإفراده بالطاعة، وحفظ حدوده، فإن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار، ولهذا ذم الله من يعبد من لا ينفع ولا يضر، ولا يغني عن عابده شيئا، فمن علم أنه لا ينفع ولا يضر، ولا يعطي ولا يمنع غير الله، أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرع والدعاء، وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعا، وأن يتقي سخطه، ولو كان فيه سخط الخلق جميعا، وإفراده بالاستعانة به، والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدة وحال الرخاء، بخلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد، ونسيانه في الرخاء، ودعاء من يرجون نفعه من دونه، قال الله عز وجل:{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (1).
قوله صلى الله عليه وسلم: «واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا» يعني: أن ما أصاب العبد من المصائب المؤلمة المكتوبة عليه إذا صبر عليها، كان له في الصبر خير كثير.
وفي رواية عمر مولى غفرة وغيره عن ابن عباس زيادة أخرى قبل هذا الكلام، وهي: «فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين، فافعل، وإن لم
(1) الزمر الآية (38).
تستطع، فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا». (1)
وفي رواية أخرى من رواية علي بن عباس عن أبيه، لكن إسنادها ضعيف، زيادة أخرى بعد هذا، وهي: قلت: يا رسول الله، كيف أصنع باليقين؟ قال:«أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإذا أنت أحكمت باب اليقين» (2). ومعنى هذا أن حصول اليقين للقلب بالقضاء السابق والتقدير الماضي يعين العبد على أن ترضى نفسه بما أصابه، فمن استطاع أن يعمل في اليقين بالقضاء والقدر على الرضا بالمقدور، فليفعل، فإن لم يستطع الرضا، فإن في الصبر على المكروه خيرا كثيرا.
فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب:
إحداهما: أن يرضى بذلك، وهذه درجة عالية رفيعة جدا، قال الله عز وجل:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (3). قال علقمة: هي المصيبة تصيب الرجل، فيعلم أنها من عند الله، فيسلم لها ويرضى.
وخرج الترمذي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله إذا أحب
(1) أخرجه البيهقي في الشعب (7/ 203/10000) وهناد في الزهد (1/ 304/536) وله طريق آخر عن ابن عباس من رواية عبد الملك بن عمير عنه أخرجها الحاكم (3/ 541) وقال: "إن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا شهاب بن خراش ولا القداح في الصحيحين
…
" وأقره الذهبي وزاد: "لأن القداح قال أبو حاتم: متروك، والآخر مختلف فيه، وعبد الملك لم يسمع من ابن عباس فيما أرى". انظر الضعيفة (5107).
(2)
انظر الذي قبله.
(3)
التغابن الآية (11).
قوما ابتلاهم، فمن رضي، فله الرضا، ومن سخط فله السخط» (1)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:«أسألك الرضا بعد القضاء» (2).
ومما يدعو المؤمن إلى الرضا بالقضاء تحقيق إيمانه بمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له: إن أصابته سراء شكر، كان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، كان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن» (3).
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يوصيه وصية جامعة موجزة، فقال:«لا تتهم الله في قضائه» (4).
قال أبو الدرداء: إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به، وقال ابن مسعود: إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط، فالراضي لا يتمنى غير ما هو عليه من شدة ورخاء كذا روي عن عمر وابن مسعود وغيرهما. وقال عمر بن عبد العزيز: أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر. فمن وصل إلى هذه الدرجة، كان عيشه كله في نعيم وسرور، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ
(1) أخرجه الترمذي (4/ 519/2396) وابن ماجه (2/ 1338/4031). وقال الترمذي: "حسن غريب".
(2)
أخرجه النسائي (3/ 62/1304) وصححه ابن حبان (5/ 304 - 305/ 1971) والحاكم (1/ 524 - 525). وأخرجه أحمد (4/ 264) دون ذكر محل الشاهد. كلهم من حديث عمار بن ياسر مطولا.
(3)
سيأتي تخريجه في مواقف محمد بن صالح العثيمين سنة (1421هـ).
(4)
أخرجه من حديث عبادة بن الصامت: أحمد (5/ 318 - 319). قال البوصيري في (مختصر اتحاف السادة المهرة رقم:1): "رواه أبو يعلى الموصلي واللفظ له وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل والطبرني بإسناد حسن"، وحسن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 289).
صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (1)، قال بعض السلف: الحياة الطيبة: هي الرضا والقناعة. وقال عبد الواحد بن زيد: الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين
…
والدرجة الثانية: أن يصبر على البلاء، وهذه لمن لم يستطع الرضا بالقضاء، فالرضا فضل مندوب إليه، مستحب، والصبر واجب على المؤمن حتم، وفي الصبر خير كثير، فإن الله أمر به، ووعد عليه جزيل الأجر. قال الله عزوجل:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2)، وقال:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (3). قال الحسن: الرضا عزيز، ولكن الصبر معول المؤمن.
والفرق بين الرضا والصبر: أن الصبر: كف النفس وحبسها عن التسخط مع وجود الألم، وتمني زوال ذلك، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع، والرضا: انشراح الصدر وسعته بالقضاء، وترك تمني زوال ذلك المؤلم، وإن وجد الإحساس بالألم، لكن الرضا يخففه لما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة، وإذا قوي الرضا، فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية كما سبق. (4)
(1) النحل الآية (97).
(2)
الزمر الآية (10).
(3)
البقرة الآيات (155 - 157).
(4)
جامع العلوم والحكم (1/ 483 - 488).