الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا يضر في هذا الموضع تفاوت معارف الناس في هذا الباب، ومع ورود الجميع المنهل الراوي متحد. والفاضل يحذو حذو المفضول من عين ذلك الماء المعين، ويتعاورون ذلك فيما بينهم «تسمعون، ويسمع منكم» (1)، «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» (2).اهـ (3)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله في 'معارج الألباب في مسألة البناء على القبور':
…
على أنا لا نسلم أيضا أن أحدا من الأربعة رضي الله عنهم، ذهب إلى ما ضمه نقل هذه المختصرات في هذه المسألة، فهاتوا نصوصهم في ذلك، فإنا لم نرهم نقلوا في جواباتهم هذه حرفا واحدا عن أحد من الأربعة في جواز البناء على القبور، بل نقل المالكي عن إمامه مالك رضي الله عنه: أنه كره البناء على القبر، وقال: لا خير فيه، فاعجب لها من طريقة طريفة، حيث يعمل أتباعه على خلاف مذهبه، ويفصلون المسألة بما يباين إطلاق الإمام، ويكون قولهم فيها في شق، وقول الإمام في الشق الآخر، واجعلها لك عبرة في غيره من المفتين الثلاثة، ولا تثق بأن ما حصلوه في كتب المذاهب رأي للأئمة.
فإنا لم نسمع عن الإمام الشافعي رحمه الله إلا أنه قال: "أدركت
(1) أخرجه: أحمد (1/ 321) وأبو داود (4/ 68/3659) وابن حبان (الإحسان (1/ 263/62)) والحاكم (1/ 95) كلهم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وليس له علة ولم يخرجاه، وفي الباب أيضا عن عبد الله بن مسعود وثابت بن قيس بن شماس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "، ووافقه الذهبي.
(2)
سيأتي تخريجه في مواقف فالح بن مهدي الدوسري سنة (1392هـ).
(3)
معارج الألباب (79 - 80)
الأئمة بمكة يهدمون البناء على القبور" ولا يحضرني الآن محله فأعينه لك، ومثله لا يخفى.
فنحن الآن نطالبهم بنقل صحيح: أن كل واحد من الأئمة الأربعة قائل بما نقلوه عن فروع مذاهبهم، حتى يصححوا دعواهم عليهم فقط، إن كانت أيضا، لا أن يكون ذلك حجة لهم في الباب، فذلك معلوم الانتقاء (1) بلا شك ولا ارتياب.
فإن يأتوا به -ولا نخالهم يجدون له أثرا- وإلا فليعلموا أنهم بعد يقولون ما لا يعلمون، حتى في مذاهب أئمتهم الذين هم من جلة أعلام أئمة المسلمين. وبعد تصحيحه عنهم: فهو اجتهاد في مقابلة نص، ورأي صادم أثرا، فسقوطه معلوم لا يخفى إلا على أغفال المقلدين. (2)
- وقال: ومن ذلك: أنا تصفحنا أوراقهم هذه، فوجدنا لباب تحقيقها: دعاوى تعاقب أخواتها، وبراهينها عيون دعاويها، ثم ترتبون المقاصد على هذا الخطأ المتباعد، حتى جعلتم هدم القباب والمشاهد أذية لأولياء المليك الواحد، وهل يقال لمن أطاع الله ورسوله فيما أمرا به: آذيت ولي الله، وكيف تكون الولاية -وذلك الولي يؤذيه- حكم المولي؟
وليت شعري، كيف يكون أمرهم إذا لم يرعهم إلا نزول الإمام الأطهر وصاحب السبق الأشهر: علي رضي الله عنه ونضَّر- بساحتهم يقول: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا
(1) كذا في الأصل ولعل الصواب: الانتفاء.
(2)
معارج الألباب (ص 38).
طمسته». (1)
فعلى الذي يشاهد من حالهم: كأنا بهم وقد ثاروا ذلك المثار، وأخذوا لتلك المعاقل بالثأر، وأرجعوا عليا القهقرى، وتركوه زاحفا على الوراء، وقالوا: أذية لأولياء الله، ورأى من درى، فالأمر الآن هو ذاك بعينه، ما الذي ترك الناس سدى، أو نسخ معالم الهدى؟
ثم كيف الخطب لديهم في هذه الأبنية على الأموات المعدة للتلاوة والصلوات، المشتملة على المحاريب والفرش والسرج، وسائر الآلات، إذا أتاهم في شأنها رسول صاحب الوحي المنزل، والهدي السوي الأعدل، يقول: بعثني لإزالة ما قد تقدم إليكم بالنهي عنه من اتخاذ القبور مساجد (2)، ورواه لكم عدد من صحابته الجلة الأماجد، وقد أكد الله عليكم في الإجابة له ولرسوله، فماذا أنتم صانعون؟.
وهذا كله بالنظر إلى نفس البناء على القبر، لا إلى ما ترتب عليه من الوثنية والشرك، وعلى إحياء هذه المشاهد من كلم الإسلام، وفقء عين شريعة المختار عليه الصلاة والسلام، وما يقع في الزيارات من أنواع الشرك بدعاء المقبورين، والطواف بتلك الأنصاب، والعكوف عندها، والنذر والتقرب لها بأنواع القربات، وما ترتب على ذلك من المفاسد والمنكرات، كترك الصلاة المكتوبة، وما يقولون من أقاويلهم المفتراة المكذوبة، قد حملوا الولي، أو حملها عنه، واختلاط الرجال بالنساء، وأرباب الملاهي، واتخاذ
(1) انظر تخريجه في مواقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه سنة (40هـ).
(2)
انظر تخريجه في مواقف ابن تيمية رحمه الله سنة (728هـ).
الزينات، والمجاهرات بالبدع والمعاصي، والمخالفات لله، التي لا طمع في حصرها في الرقاع، وكيف وقد امتدت في أقطار البسيطة، على ما فيها من الاتساع فما أكثر ما ترى هنالك من نسيان الله ونبذ لعهوده، ومحادة له ولكتابه وتعدي لحدوده.
ولعمر الله، من رضي بقاء هذه الرسوم، شارك في هذا الخطب المشؤوم، إلا متبرئ لله من هذه الأحداث، وغائر لله مما حل بدينه من خطوب الأبنية، وزوار الأجداث، الذين أعطوها حق ربنا الذي هو أحق أن يدعى ويستغاث، وانهمكوا في صنوف من أنكر الأعمال، وجسائم الأخباث.
وأنتم معشر المفتين، أترضون لأنفسكم أن تلقوا الله بشيء من إشادة هذا البنيان؟ فاستعدوا للسؤال. فللأعمال ديان.
اللهم فهذه براءة إليك مما تكاد السموات يتفطرن منه. وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أتتنا المناهي عن رسولك في هذا الباب، كما نهى رأي عين في سد ذرائعه، وهدم شرائعه، وطمس رسومه وشنائعه، ثم عمد قوم أضاعوا عهد التحقيق ولم يراعوا مشاعر تأديبك وتعليمك، التي تهدي إلى سواء الطريق. فانتصبوا لرفع رايات سوء، كان ينبغي أن تكون مخفوضة معزولة بحكمك الوثيق، وإلا فكل من آمن بك، وعقل عنك، وتحقق بمعرفة دينك، لا يجهل ما في طيها من عظيم المشاقة لك ولرسولك.
اللهم فمن زعم عليك أنك رفعت شأن القباب والمشاهد، والزيارات المعروفة من هذه الطوائف، ومواطن الأموات، وجعلتها ترياقا لقضاء
الحوائج، ومثابة للناس، وأعيادا لهم، وزعم على سلفنا الصالح من أمة نبيك الأكرم أنهم دانوا بذلك، أو بذرة منه. اتباعا لأمرك، ورضاء بحكمك، وصار من غاية سعيه زيادة ازدراع هذه المفاسد، وإيقاد نيرانها. فاحكم بيننا وبينه بالحق، وأنت خير الحاكمين.
فإن القوم قد أبدلوا -وأنت أعلم- رسوم شرعك بسواها، واستولى اللعين على فطرهم، فثناها عن الهدى ولواها، وسول لهم أن يبدلوا الزيارة التي شرعتها للادكار، والاستغفار والاعتبار، بضدها من التضرع عند القبر، والرقص واللهو، وإبداء الفاقة والافتقار، وأنواع الفجور، والهتف، والتملق، والتأدب مع الرمم، والحكم لها بنفع وإضرار.
وكيف لا؟ وقد أصلوا أن لها التصرف والتصريف في البادين والحضار، وصاروا يستمدون من نفحاتهم جسائم الآمال، ويضربون قباب الطلبات بفناء أعتاب قباب الأموات، يا بئس الأعمال.
فمن الذي بوأكم هذه المشارع، وسن لكم هذه الآداب والشرائع؟ ووضع لكم هذه الرسوم التي تبعتم آثارها؟ فائتونا بسلطان مبين. نتبعه ونشكر لكم إن كنتم صادقين، أو فامحوا عنكم -عافاكم الله- عارها، وحاشا بعد أن نقول لكم -إن أتيتم بحجة بينة-: دعونا، فقد صرح الشيخ بخلافها، لأن ذا من الحيف بمكان.
ثم اللهم، إن القوم أبدلوا مناهي رسولك، الذي جعلته العصمة من
الضلال، عن البناء على القبور، وتشريفها، وتجصيصها، والكتابة عليها (1)، وجعلها مساجد (2)، وما جاء عنه من النهي عن اتخاذ قبره عيدا (3) بأضدادها، فبنوا وشرفوا وجصصوا، وكتبوا، وجعلوها أعيادا ومساجد، كأنه صلى الله عليه وسلم أغراهم بذلك الأمر الأسوإ، بل لو كانوا مأمورين بذلك لما حفظوه ورعوه، كما هم الآن، بشهادة المناهي في هذه المسألة، إذ أضيعت، وشهادة غيرها في غير هذا الباب، مما لا يحتاج إلى شرح.
وليتهم اقتصروا على هذه المخالفات، بل جاوزوا مما ينسيها إلى أضعاف مضاعفات، واقتدت العامة بمن تخيلوا عنده علما، وهو في الواقع منهم لا يملك رأيا ولا عقلا للحقائق ولا فهما، فهو معهم غارق في باطل لغوهم، حريص على شهود مجالس إفكهم، وإثمهم ولهوهم، لا يهدي ولا يهتدي، ولا تراه في طلب العلم صدقا يروح ولا يغتدي.
حتى أنا وجدنا في أفعالهم لدى هذه المشاهد ما كان صنيع الجاهلية عند بيوت الأوثان، وزيادة غلو على من ضاد الله ورسوله باتخاذ إلاه ثان. فإنا
(1) وردت أحاديث كثيرة في هذه المسألة منها حديث جابر رضي الله عنه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه، أو يزاد عليه، أو يكتب عليه".
أخرجه: أحمد (3/ 332) ومسلم (2/ 667/970) وأبو داود (3/ 552/3226) والترمذي (3/ 368 - 369/ 1052) والنسائي (4/ 392/2026) وابن ماجه (1/ 498/1562) بعضهم مطولا وبعضهم مختصرا.
(2)
انظر تخريجه في مواقف ابن تيمية رحمه الله سنة (728هـ).
(3)
وردت أحاديث كثيرة بهذا المعنى عن جمع من الصحابة، منها: حديث أبي هريرة: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» . أخرجه: أحمد (2/ 367) وأبو داود (2/ 534/2042). وقال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (111): "وهذا حديث حسن ورواته ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به". وحسن إسناده الألباني، وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب. انظر تحذير الساجد (142).
سمعنا الله يقول في كتابه إذ سجل على أولئك الأقوام {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} (1) أي: هو تعالى ذو الجلال والإكرام.
وطالما شاهدنا عباد أرباب هذه القباب. إذا التطمت عليهم أمواج البحر العباب. سمعت ذكر الزيلعي والحداد، وكل يدعو شيخه عند ذلك الاضطراب، إذ لكل طريقة لا ينتحى سواها في الهتف والانتساب، ولكل من الجيلاني، وابن علوان، والعيدروس، والحداد، وغيرهم من آلهة هذه الطوائف طائفة من العباد، ويذكرون الله في جملة من ذكرنا، كما سمعناهم أيضا، كأنه واحد من تلك الأعداد. وحاشا كل من يؤمن بالله واليوم الآخر -خصوصا صلحاء الأمجاد- أن يرضى شيئا من هذا، وإلا كان شريكا لمن حاد الله ورسوله وضاد. (2)
- وقال: ومن أذيال مصيبة المشاهد -التي أصيب بها الإسلام وشعائره- ما ظهر وانتشر في العامة في جهات كثيرة. كما هو معلوم مشاهد: أن المساجد ربما تكون متروكة مهجورة. وفيها من التراب والعيدان والأوساخ، وزبل الأنعام، وحراق التمباك، وغير ذلك ما يجعلها مزابل، ومشاهد الأموات محترمة مكرمة، مجمرة بالظفر والعطور، مفروشة بالسجاد الفاخر، وعلى القبور ستور الحرير الثمينة، بها الشمعدانات الفضية ما جعلها مرعية مقامة متحاماة. (3)
(1) الإسراء الآية (67).
(2)
معارج الألباب (43 - 47).
(3)
معارج الألباب (ص 214).
- وقال: تأمل دين عباد القبور اليوم، خصوصا الغالين منهم فيها، إذا مسهم الضر أنابوا إليها. ويروون -قاتلهم الله أنى يؤفكون- إذا دهمتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور (1)، ثم يذوقون الرحمة من الله مع كفرهم هذا. فيقولون: كرامة الشيخ وبرهانه، وإذا أخفق سعيهم يقولون: هو غائب أو ساخط.
وهذه قضية واقعة فاشية في الكثير، أو الأكثر، أو أن السالم من حماها نزر لا يكاد يذكر (2).
- له أيضا من الآثار السلفية كتاب: 'مدارج العبور على مفاسد القبور'.
أبو العون السَّفَارِينِي (3)(1188 هـ)
محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني، أبو العون، شمس الدين، العلامة، الحافظ. ولد سنة أربع عشرة ومائة وألف، بقرية سفارين (من قرى نابلس)، قرأ القرآن صغيرا وحفظه وأتقنه، ثم رحل إلى دمشق وأخذ عن علمائها منهم الشيخ عبد القادر التغلبي والشيخ عبد الغني النابلسي والشيخ
(1) ذكره صاحب كشف الخفاء (1/ 88/213) بلفظ: «إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أصحاب القبور» وعزاه لابن كمال باشا في الأربعين. كما ذكره محمد بشير الأزهري في تحذير المسلمين من الأحاديث الموضوعة على سيد المرسلين، انظر موسوعة الأحاديث الضعيفة (1/ 1297).
(2)
معارج الألباب (ص 239).
(3)
الأعلام (6/ 14) وهدية العارفين (2/ 340) وتاريخ الجبرتي (1/ 468 - 470) والسحب الوابلة (2/ 839 - 846) ومعجم المؤلفين (8/ 262) وفهرس الفهارس (2/ 1002 - 1005).