الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على المخالفين لها.
قال تاج الدين السبكي في طبقاته: اشتمل عصرنا على أربعة من الحفاظ بينهم عموم وخصوص: المزي، والبرزالي، والذهبي، والشيخ الوالد، لا خامس لهم في عصرهم، فأما أستاذنا أبو عبد الله فنظير لا نظير له، وكبير هو الملجأ إذا نزلت المعضلة، وَذَهَبُ العصر معنى ولفظا، وشيخ الجرح والتعديل كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد فنظرها ثم أخذ يخبر عنها أخبار من حضرها، وكان محط رحال المعنت، ومنتهى رغبات من تعنت.
قال ابن ناصر: كان إماما في القراءات، فقيها في النظريات له دربة بمذاهب الأئمة وأرباب المقالات، قائما بين الخلف بنشر السنة ومذهب السلف. أنشدونا عنه لنفسه:
الفقه قال الله قال رسوله وحذار من نصب الخلاف جهالة
…
إن صح والإجماع فاجهد فيه
بين النبي وبين رأي فقيه
وله المؤلفات المفيدة والمختصرات الحسنة، والمصنفات السديدة. توفي رحمه الله تعالى عام ثمان وأربعين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله في تذكرة الحفاظ وهو يتكلم عن عزة السنن وخمود البدع في الطبقة الخامسة: وفي زمان هذه الطبقة كان الإسلام وأهله في عز تام، وعلم غزير وأعلام الجهاد منثورة، والسنن مشهورة، والبدع مكبوتة، والقوالون بالحق كثير، والعباد متوافرون، والناس في بُلَهْنِيَّةٍ من العيش بالأمن، وكثرة الجيوش المحمدية من أقصى المغرب وجزيرة الأندلس، وإلى قريب
مملكة الخطا، وبعض الهند وإلى الحبشة. (1)
- قال رحمه الله في السير: كانت الأهواء والبدع خاملة في زمن الليث ومالك والأوزاعي، والسنن ظاهرة عزيزة. فأما في زمن أحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد فظهرت البدعة، وامتحن أئمة الأثر، ورفع أهل الأهواء رؤوسهم بدخول الدولة معهم، فاحتاج العلماء إلى مجادلتهم بالكتاب والسنة، ثم كثر ذلك واحتج عليهم العلماء أيضا بالمعقول، فطال الجدال واشتد النزاع وتولدت الشبه. نسأل الله العافية. (2)
- وقال: هذه مسألة كبيرة، وهي: القدري والمعتزلي والجهمي والرافضي، إذا علم صدقه في الحديث وتقواه، ولم يكن داعيا إلى بدعته، فالذي عليه أكثر العلماء، قبول روايته والعمل بحديثه، وترددوا في الداعية هل يؤخذ عنه؟ فذهب كثير من الحفاظ إلى تجنب حديثه وهجرانه، وقال بعضهم: إذا علمنا صدقه وكان داعية ووجدنا عنده سنة تفرد بها فكيف يسوغ لنا ترك تلك السنة؟ فجميع تصرفات أئمة الحديث تؤذن بأن المبتدع إذا لم تبح بدعته خروجه من دائرة الإسلام، ولم تبح دمه فإن قبول ما رواه سائغ.
وهذه المسألة لم تتبرهن لي كما ينبغي، والذي اتضح لي منها: أن من دخل في بدعة ولم يعد من رؤوسها، ولا أمعن فيها، يقبل حديثه كما مثل الحافظ أبو زكريا بأولئك المذكورين، وحديثهم في كتب الإسلام لصدقهم
(1) تذكرة الحفاظ (1/ 244).
(2)
(8/ 144).
وحفظهم. (1)
- وقال: أنبئت عن أبي جعفر الطرسوسي عن ابن طاهر قال: لو أن محدثا من سائر الفرق أراد أن يروي حديثا واحدا بإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوافقه الكل في عقده، لم يسلم له ذلك، وأدى إلى انقطاع الزوائد رأسا، فكان اعتمادهم في العدالة على صحة السماع والثقة من الذي يروى عنه، وأن يكون عاقلا مميزا.
قال الذهبي: العمدة في ذلك صدق المسلم الراوي، فإن كان ذا بدعة أخذ عنه، والإعراض عنه أولى، ولا ينبغي الأخذ عن معروف بكبيرة، والله أعلم. (2)
- وقال: فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع، وحد الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة؟
وجوابه: أن البدعة على ضربين: فبدعة صغرى؛ كغلو التشيع أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق. فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة.
ثم بدعة كبرى؛ كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة.
(1) السير (7/ 154).
(2)
السير (19/ 368).
وأيضا فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلا صادقا ولا مأمونا، بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله حاشا وكلا. (1)
- وقال: كان الناس أمة واحدة، ودينهم قائما في خلافة أبي بكر وعمر. فلما استشهد قفل باب الفتنة عمر رضي الله عنه، وانكسر الباب، قام رؤوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذبح صبرا. وتفرقت الكلمة وتمت وقعة الجمل، ثم وقعة صفين. فظهرت الخوارج، وكفرت سادة الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب.
وفي آخر زمن الصحابة ظهرت القدرية، ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة، والجهمية والمجسمة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها إلى بعد المئتين، فظهر المأمون الخليفة- وكان ذكيا متكلما، له نظر في المعقول- فاستجلب كتب الأوائل، وعرب حكمة اليونان، وقام في ذلك وقعد، وخب ووضع، ورفعت الجهمية والمعتزلة رؤوسها، بل والشيعة، فإنه كان كذلك. وآل به الحال إلى أن حمل الأمة على القول بخلق القرآن، وامتحن العلماء، فلم يمهل. وهلك لعامه، وخلى بعده شرا وبلاء في الدين. فإن الأمة مازالت على أن القرآن العظيم كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله، لا يعرفون غير ذلك، حتى نبغ لهم القول بأنه كلام الله مخلوق مجعول، وأنه إنما يضاف إلى الله تعالى إضافة تشريف، كبيت الله وناقة الله. فأنكر ذلك العلماء، ولم تكن الجهمية يظهرون
(1) الميزان (1/ 5 - 6).
في دولة المهدي والرشيد والأمين فلما ولي المأمون، كان منهم وأظهر المقالة. (1)
- قال الذهبي: غلاة المعتزلة وغلاة الشيعة وغلاة الحنابلة وغلاة الأشاعرة وغلاة المرجئة وغلاة الجهمية وغلاة الكرامية، قد ماجت بهم الدنيا وكثروا، وفيهم أذكياء وعباد وعلماء، نسأل الله العفو والمغفرة لأهل التوحيد، ونبرأ إلى الله من الهوى والبدع، ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن. (2)
- وقال: فيا لله العجب من عالم يقلد دينه إماما بعينه في كل ما قال، مع علمه بما يرد على مذهب إمامه من النصوص النبوية، فلا قوة إلا بالله. (3)
- وقال: وقد روي من وجوه متعددة، أن أبا بكر بن عياش مكث نحوا من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة.
فعلق الذهبي على هذا القول: وهذه عبادة يخضع لها، ولكن متابعة السنة أولى. فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عبد الله بن عمرو أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث. وقال عليه السلام:«لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» (4). (5)
(1) السير (11/ 236).
(2)
السير (20/ 45 - 46).
(3)
التذكرة (1/ 16).
(4)
أخرجه: أحمد (2/ 164،189،195) وأبو داود (2/ 113،116/ 1390 - 1394) والترمذي (5/ 182/2949) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 25/8067) وابن ماجه (1/ 428/1347) وابن حبان (الإحسان 3/ 35/758) كلهم من طريق يزيد بن عبد الله بن الشخير عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذكره". وأصله عند البخاري (9/ 116/5054) ومسلم (2/ 812 - 813/ 1159).
(5)
السير (8/ 503).
- وقال: قال الحاكم: وسمعت الصبغي يقول: صام أبو عمرو الخفاف الدهر نيفا وثلاثين سنة. قلت: ليته أفطر وصام، فما خفي والله عليه النهي عن صيام الدهر (1). ولكن له سلف، ولو صاموا أفضل الصوم، للزموا صوم داود عليه السلام. (2)
- وساق بالسند إلى علي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يرفع الرجل صوته بالقرآن قبل العشاء وبعدها، يغلط أصحابه في الصلاة، والقوم يصلون)(3).
قال الذهبي: هذا حديث صالح الإسناد، فيه النهي عن قراءة الأسباع التي في المساجد وقت صلوات الناس فيها، ففي ذلك تشويش بين على المصلين، هذا إذا قرؤوا قراءة جائزة مرتلة، فإن كانت قراءتهم دمجا وهذرمة وبلعا للكلمات، فهذا حرام مكرر، فقد -والله- عم الفساد، وظهرت البدع، وخفيت السنن، وقل القوال بالحق، بل لو نطق العالم بصدق وإخلاص، لعارضه عدة من علماء الوقت، ولمقتوه وجهلوه، فلا حول ولا
(1) أخرجه: أحمد (2/ 164) والبخاري (4/ 277/1977) ومسلم (2/ 814 - 815/ 1159 [186]) والنسائي (4/ 521 - 522/ 2376) وابن ماجه (1/ 544/1706) كلهم من طريق أبي العباس عن عبد الله بن عمرو.
(2)
السير (13/ 561).
(3)
رواه أحمد (1/ 88) وأبو يعلى (1/ 384/497) من طريق أبي إسحاق عن الحارث عن علي مرفوعا. وذكره الهيثمي في المجمع (2/ 265) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى وفيه الحارث وهو ضعيف". لكن معنى الحديث صح من وجه آخر. أخرجه أحمد (3/ 94). أبو داود (2/ 83/1332) من حديث أبي سعيد قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال:«ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة» . وصححه ابن خزيمة (2/ 190/1162) وقال الشيخ الألباني في الصحيحة (4/ 133 - 134/ 1603) بعد أن ذكر سند أبي داود: "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين".
قوة إلا بالله. (1)
- ثم ساق أن أبا غسان كان عند علي بن الجعد فذكروا حديث: «إن ابني هذا سيد» (2)، قال:"ما جعله الله سيدا".
قال الذهبي معلقا: أبو غسان لا أعرف حاله، فإن كان قد صدق، فلعل ابن الجعد قد تاب من هذه الورطة، بل جعله سيدا على رغم أنف كل جاهل، فإن من أصر على مثل هذا من الرد على سيد البشر، يكفر بلا مثنوية (3).اهـ (4)
- وساق بالسند إلى محمد بن يحيى النيسابوري، حين بلغه وفاة أحمد، يقول: ينبغي لكل أهل دار ببغداد أن يقيموا عليه النياحة في دورهم.
قال الذهبي: تكلم الذهلي بمقتضى الحزن لا بمقتضى الشرع. (5)
- وقال: قال أبو نعيم الحافظ -وهو يتحدث عن محمد بن الفضل البلخي الصوفي-: سمع الكثير من قتيبة بن سعيد. وسمعت محمد بن عبد الله الرازي بنسا أنه سمعه يقول: ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون، ويعملون بما لا يعلمون، ولا يتعلمون ما لا يعلمون، ويمنعون الناس من العلم.
(1) السير (14/ 165 - 166).
(2)
أخرجه: أحمد (5/ 37 - 38) والبخاري (5/ 384/2704) وأبو داود (5/ 48 - 49/ 4662) والترمذي (5/ 616/3773) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (3/ 118 - 119/ 1409) من طرق عن الحسن أنه سمع أبا بكرة يقول: فذكر الحديث.
(3)
أي: بلا استثناء. (قاله في اللسان 14/ 124).
(4)
السير (10/ 464).
(5)
السير (11/ 203 - 204).
قال الذهبي: هذه نعوت رؤوس العرب والترك، وخلق من جهلة العامة، فلو عملوا بيسير ما عرفوا، لأفلحوا، ولو وقفوا عن العمل بالبدع لوفقوا، ولو فتشوا عن دينهم وسألوا أهل الذكر -لا أهل الحيل والمكر- لسعدوا، بل يعرضون عن التعلم تيها وكسلا، فواحدة من هذه الخلال مردية، فكيف بها إذا اجتمعت؟ فما ظنك إذا انضم إليها كبر، وفجور، وإجرام، وتجهرم على الله؟ نسأل الله العافية. (1)
- قال الذهبي في ترجمة أحمد بن ثابت الطرقي الحافظ: صدوق، كان بعد الخمسمائة لكنه كان يقول: الروح قديمة على رأي جهال الجبالنة، وشبهتهم قوله تعالى:{قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (2) قالوا: وأمره تعالى قديم، وهو شيء غير خلقه وتلوا {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (3){وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} (4).
وهذا من أردى البدع وأضلها، فقد علم الناس أن الحيوانات كلها مخلوقة، وأجسادها وأرواحها. (5)
- وقال في آخر ترجمة إمام الحرمين أبي المعالي: توفي في الخامس والعشرين من ربيع الآخر، سنة ثمان وسبعين وأربع مئة ودفن في داره، ثم نقل
(1) السير (14/ 525).
(2)
الإسراء الآية (85).
(3)
الأعراف الآية (54).
(4)
الشورى الآية (52).
(5)
ميزان الاعتدال (1/ 86 - 87) وأشار إليه في السير (19/ 520).
بعد سنين إلى مقبرة الحسين، فدفن بجنب والده، وكسروا منبره، وغلقت الأسواق، ورثي بقصائد، وكان له نحو من أربعمائة تلميذ، كسروا محابرهم وأقلامهم وأقاموا حولا، ووضعت المناديل عن الرؤوس عاما، بحيث ما اجترأ أحد على ستر رأسه، وكانت الطلبة يطوفون في البلد نائحين عليه، مبالغين في الصياح والجزع.
قال الذهبي: هذا كان من زي الأعاجم لا من فعل العلماء المتبعين. (1)
- وقال: كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية، لا يلتفت إليه، بل يطوى ولا يروى، كما تقرر عن الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه لتصفو القلوب، وتتوفر على حب الصحابة، والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء، وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم، كما علمنا الله تعالى حيث يقول:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} (2) فالقوم لهم سوابق، وأعمال مكفرة لما وقع منهم، وجهاد محاء، وعبادة ممحصة، ولسنا ممن يغلو
(1) السير (18/ 476).
(2)
الحشر الآية (10).
في أحد منهم، ولا ندعي فيهم العصمة، نقطع بأن بعضهم أفضل من بعض، ونقطع بأن أبا بكر وعمر أفضل الأمة، ثم تتمة العشرة المشهود لهم بالجنة، وحمزة وجعفر ومعاذ وزيد، وأمهات المؤمنين، وبنات نبينا صلى الله عليه وسلم، وأهل بدر مع كونهم على مراتب، ثم الأفضل بعدهم مثل أبي الدرداء وسلمان الفارسي وابن عمر وسائر أهل بيعة الرضوان الذين رضي الله عنهم بنص آية سورة الفتح، ثم عموم المهاجرين والأنصار، كخالد بن الوليد والعباس وعبد الله بن عمرو، وهذه الحلبة، ثم سائر من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهد معه، أو حج معه، أو سمع منه، رضي الله عنهم أجمعين وعن جميع صواحب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرات والمدنيات وأم الفضل وأم هانئ الهاشمية وسائر الصحابيات.
فأما ما تنقله الرافضة وأهل البدع في كتبهم من ذلك، فلا نعرج عليه، ولا كرامة، فأكثره باطل وكذب وافتراء، فدأب الروافض رواية الأباطيل، أو رد ما في الصحاح والمسانيد، ومتى إفاقة من به سُكْران (1)؟
ثم قد تكلم خلق من التابعين بعضهم في بعض، وتحاربوا وجرت أمور لا يمكن شرحها، فلا فائدة في بثها، ووقع في كتب التواريخ وكتب الجرح والتعديل أمور عجيبة، والعاقل خصم نفسه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، ولحوم العلماء مسمومة، وما نقل من ذلك لتبيين غلط العالم، وكثرة وهمه، أو نقص حفظه، فليس من هذا النمط، بل لتوضيح الحديث الصحيح من الحسن، والحسن من الضعيف.
(1) هذا عجز بيت وهو:
سكران سكر هوى وسكر مدامة
…
ومتى إفاقة من به سكران
وإمامنا (1)، فبحمد الله ثبت في الحديث، حافظ لما وعى، عديم الغلط (2)، موصوف بالإتقان، متين الديانة، فمن نال منه بجهل وهوى ممن علم أنه منافس له، فقد ظلم نفسه، ومقتته العلماء، ولاح لكل حافظ تحامله، وجر الناس برجله، ومن أثنى عليه، واعترف بإمامته وإتقانه، وهم أهل العقد والحل قديما وحديثا، فقد أصابوا، وأجملوا، وهدوا، ووفقوا.
وأما أئمتنا اليوم وحكامنا، فإذا أعدموا ما وجد من قدح بهوى، فقد يقال: أحسنوا ووفقوا، وطاعتهم في ذلك مفترضة لما قد رأوه من حسم مادة الباطل والشر.
وبكل حال؛ فالجهال والضلال قد تكلموا في خيار الصحابة. وفي الحديث الثابت: «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله، إنهم ليدعون له ولدا، وإنه ليرزقهم ويعافيهم» (3).
وقد كنت وقفت على بعض كلام المغاربة في الإمام رحمه الله، فكانت فائدتي من ذلك تضعيف حال من تعرض إلى الإمام، ولله الحمد.
ولا ريب أن الإمام لما سكن مصر، وخالف أقرانه من المالكية، ووهى بعض فروعهم بدلائل السنة، وخالف شيخه في مسائل، تألموا منه، ونالوا منه، وجرت بينهم وحشة، غفر الله للكل، وقد اعترف الإمام سحنون، وقال: لم يكن في الشافعي بدعة. فصدق والله، فرحم الله الشافعي، وأين مثل
(1) يعني الشافعي.
(2)
قوله: عديم الغلط فيه إطراء زائد.
(3)
أخرجه: البخاري (10/ 626/6099) ومسلم (4/ 2160/2804) كلاهما من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكره.
الشافعي والله في صدقه، وشرفه، ونبله، وسعة علمه، وفرط ذكائه، ونصره للحق، وكثرة مناقبه، رحمه الله تعالى. (1)
- وقال: وممن كان بعد المئتين من رؤوس المتكلمين والمعتزلة، بشر بن غياث المريسي العدوي، مولى آل زيد بن الخطاب، وأبو سهل بشر بن المعتمر الكوفي الأبرص، من كبار المعتزلة ومصنفيهم، وأبو معن ثمامة بن أشرس النميري البصري، وأبو الهذيل محمد بن العلاف البصري، وأبو إسحاق إبراهيم بن سيار البصري النظام، وهشام بن الحكم الكوفي الرافضي المجسم، وضرار بن عمرو الذي تنسب الضرارية إليه، وأبو المعتمر معمر بن عباد وقيل: معمر بن عمرو البصري العطار، وهشام بن عمرو الفوطي، وداود الجواربي، والوليد بن أبان الكرابيسي، وابن كيسان الأصم، وأبو موسى الفراء البغدادي، وأبو موسى البصري الملقب بالمرداز، وجعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر، وآخرون.
نعوذ بالله من البدع، وأن نقول على الله ما لا نعلم. (2)
- وقال: وأصل "المدونة" أسئلة. سألها أسد بن الفرات لابن القاسم. فلما ارتحل سحنون بها عرضها على ابن القاسم، فأصلح فيها كثيرا، وأسقط، ثم رتبها سحنون، وبوبها. واحتج لكثير من مسائلها بالآثار من مروياته، مع أن فيها أشياء لا ينهض دليلها، بل رأي محض. وحكوا أن سحنون في أواخر الأمر علم عليها، وهم بإسقاطها وتهذيب "المدونة"، فأدركته المنية رحمه الله.
(1) السير (10/ 92 - 95).
(2)
السير (10/ 441).
فكبراء المالكية، يعرفون تلك المسائل، ويقررون منها ما قدروا عليه، ويوهنون ما ضعف دليله. فهي لها أسوة بغيرها من دوواين الفقه. وكل أحد فيؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب ذاك القبر صلى الله عليه وسلم تسليما. فالعلم بحر بلا ساحل، وهو مفرق في الأمة، موجود لمن التمسه. (1)
- وقال: قال الشيخ محي الدين النواوي -وهو يتحدث عن محمد بن إبراهيم بن المنذر-: له من التحقيق في كتبه ما لا يقاربه فيه أحد، وهو في نهاية من التمكن من معرفة الحديث، وله اختيار، فلا يتقيد في الاختيار بمذهب بعينه، بل يدور مع ظهور الدليل.
قال الذهبي: ما يتقيد بمذهب واحد إلا مَنْ هو قاصر في التمكن من العلم كأكثر علماء زماننا، أو من هو متعصب، وهذا الإمام فهو من حملة الحجة، جار في مضمار ابن جرير، وابن سريج، وتلك الحلبة رحمهم الله. (2)
- وقال في الطبقة التاسعة من تذكرة الحفاظ: ولقد كان في هذا العصر وما قاربه من أئمة الحديث النبوي خلق كثير، وما ذكرنا عشرهم هنا، وأكثرهم مذكورون في تاريخي. وكذلك كان في هذا الوقت خلق من أئمة أهل الرأي والفروع، وعدد من أساطين المعتزلة والشيعة وأصحاب الكلام، الذين مشوا وراء المعقول وأعرضوا عما عليه السلف من التمسك بالآثار النبوية، وظهر في الفقهاء التقليد وتناقص الاجتهاد، فسبحان من له الخلق والأمر.
(1) السير (12/ 68).
(2)
السير (14/ 491).
فبالله عليك يا شيخ، ارفق بنفسك، والزم الإنصاف ولا تنظر إلى هؤلاء الحفاظ النظر الشزر، ولا ترمقنهم بعين النقص، ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا، حاشا وكلا، فما في من سميت أحد، ولله الحمد إلا وهو بصير بالدين، عالم بسبيل النجاة، وليس في كبار محدثي زماننا؛ أحد يبلغ رتبة أولئك في المعرفة، فإني أحسبك لفرط هواك تقول بلسان الحال أن أعوزك المقال: من أحمد؟! وما ابن المديني؟! وأي شيء أبو زرعة وأبو داود؟! هؤلاء محدثون ولا يدرون ما الفقه؟! وما أصوله؟! ولا يفقهون الرأي، ولا علم لهم بالبيان والمعاني والدقائق، ولا خبرة لهم بالبرهان والمنطق، ولا يعرفون الله تعالى بالدليل، ولا هم من فقهاء الملة. فاسكت بحلم أو انطق بعلم، فالعلم النافع هو النافع -كذا- ما جاء عن أمثال هؤلاء، ولكن نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث، فلا نحن ولا أنت، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل، فمن اتقى الله راقب الله واعترف بنقصه، ومن تكلم بالجاه وبالجهل أو بالشر والبلوى، فأعرض عنه وذره في غيه فعقباه إلى وبال. نسأل الله العفو والسلامة. (1)
التعليق:
هذا كان في زمن الذهبي، الذي عاش مع الفحول والحفاظ في كل فن، مع ذلك أورد هذه الإيرادات، فماذا يكون في زمننا هذا الذي عم فيه البلاء؟ -نسأل الله العافية- ونطق فيه الرويبضة، وتمشيخ فيه الجهال، ولقب السفلة بالفقهاء، وعقدت لهم المجالس، ووضعت لهم الدور والمدارس والجامعات؛
(1) تذكرة الحفاظ (2/ 627 - 628).