الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أر في معناه مثله. وقال ابن حجر: كان جريء الجنان، واسع العلم، عارفا بالخلاف ومذاهب السلف. وقال الشوكاني: برع في شتى العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف. وله مصنفات قيمة بلغت ستا وتسعين مؤلفا، منها: 'زاد المعاد' و'إعلام الموقعين' و'بدائع الفوائد' وغيرها. مات رحمه الله تعالى في ثالث عشر من شهر رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، وعاش ستين سنة وكانت جنازته حافلة جدا.
موقفه من المبتدعة:
هذا الإمام أحد التلامذة البررة لشيخ الإسلام ابن تيمية. نفعه الله بشيخ الإسلام فاستفاد منه العلم والعمل، أحيا كتب الشيخ ودعوته بعد وفاته ودافع عن العقيدة السلفية بقدر ما استطاع، ألف في ذلك الكتب القيمة التي سارت بها الركبان واستفاد منها الأنام، ولم يكن كغيره بالناقل المار الجامع، ولكن كان الناقد الفقيه المحلل. إذا تكلم في مسألة يظن القارئ له أنه لا يحسن غيرها لما يراه من كثرة العلم والحجج وكأنه بحر تتلاطم أمواجه لا تقف أمامه حبيبات الرمال (المبتدعة)، وكأن السنة والكتاب وضعت بين عينيه يأخذ منهما ما يشاء، إن تكلم في اللغة فهو الخليل فيها، وإن تكلم في التفسير فابن جرير قرينه، وإن تكلم في الحديث فالبخاري زميله. وهكذا في كل فن يقارن بأكبر أربابه. ولما له من هذه المكانة، اعترف بفضله وعلمه وحفظه كل من ترجم له حتى الأقران الذين يغلب عليهم التنافس، إلا من في قلبه مرض، فهؤلاء لا يُؤبَه لهم ولا لكلامهم، على حَدِّ قول القائل: القافلة تسير والكلاب تنبح، وكما جاء في الرسالة: ولا يستنجى من ريح.
فالشعوبي الخبيث الذي سخر لسانه في ثلب أئمة السلف، وعلى رأسهم الإمامان الحافظان الكبيران ابن تيمية وابن القيم -قد استوفى الشيخ الفاضل بكر أبو زيد الكلام في الرد على هذا المذموم في كتابه القيم 'ابن القيم وآثاره'، وقد طبع الكتاب واستفاد الناس منه فجزاه الله خيرا. والكلام على الإمام ابن القيم شيق جدا، وأكتفي بالإشارة في ذلك.
- جاء في الدرر الكامنة: وكان جريء الجنان واسع العلم عارفا بالخلاف ومذاهب السلف، وغلب عليه حب ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك. وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه. وكان له حظ عند الأمراء المصريين، واعتقل مع ابن تيمية بالقلعة بعد أن أهين وطيف به على جمل مضروبا بالدرة، فلما مات أفرج عنه، وامتحن مرة أخرى بسبب فتاوى ابن تيمية، وكان ينال من علماء عصره وينالون منه. قال الذهبي في المختص: حبس مرة لإنكاره شد الرحل لزيارة قبر الخليل، ثم تصدر للأشغال ونشر العلم. (1)
له آثار سلفية تدل على غزارة علمه وقد بينتها في كتابي 'المصادر العلمية في الدفاع عن العقيدة السلفية' والحمد لله رب العالمين.
ومن أقواله رحمه الله:
- وكل من أصل أصلا لم يؤصله الله ورسوله قاده قسرا إلى رد السنة وتحريفها عن مواضعها؛ فلذلك لم يؤصل حزب الله ورسوله أصلا غير ما جاء به الرسول، فهو أصلهم الذي عليه يعولون، وجنتهم التي إليها
(1) الدرر الكامنة (3/ 401) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 448).
يرجعون. (1)
- وقال: وذكر الصراط المستقيم مفردا، معرفا تعريفين: تعريفا باللام، وتعريفا بالإضافة. وذلك يفيد تعينه واختصاصه، وأنه صراط واحد. وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها، كقوله:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2) فوحد لفظ الصراط وسبيله. وجمع السبل المخالفة له. وقال ابن مسعود: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا، وقال:«هذا سبيل الله» ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره، وقال: «هذه سبل، على كل سبيل شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى:{أن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} " (3). وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد؛ وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه، لا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق. ولو أتى الناس من كل طريق، واستفتحوا من كل باب، فالطرق عليهم مسدودة، والأبواب عليهم مغلقة، إلا من هذا الطريق الواحد، فإنه متصل بالله، موصل إلى الله.
(1) شفاء العليل (1/ 48).
(2)
الأنعام الآية (153).
(3)
انظر تخريجه في مواقف الإمام مالك سنة (179هـ).
قال الله تعالى: {هذا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)} (1).اهـ (2)
- وقال: ولما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه، مريدا لسلوك طريق مرافقه فيها في غاية القلة والعزة. والنفوس مجبولة على وحشة التفرد، وعلى الأنس بالرفيق، نبه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق، وأنهم هم الذين:{أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (3). فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له. وهم الذين أنعم الله عليهم، ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه، وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم. فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له. فإنهم هم الأقلون قدرا، وإن كانوا الأكثرين عددا، كما قال بعض السلف: عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين. وإياك وطريق الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين (4). وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق. واحرص على اللحاق بهم. وغض الطرف عمن سواهم. فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا. وإذا صاحوا بك في طريق سيرك، فلا تلتفت إليهم. فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك. وقد ضربت لذلك مثلين. فليكونا منك على بال:
(1) الحجر الآية (41).
(2)
مدارج السالكين (1/ 14 - 15).
(3)
النساء الآية (69).
(4)
تقدم من قول الفضيل بن عياض رحمه الله.
المثل الأول: رجل خرج من بيته إلى الصلاة، لا يريد غيرها. فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس، فألقى عليه كلاما يؤذيه فوقف ورد عليه وتماسكا فربما كان شيطان الإنس أقوى منه، فقهره، ومنعه عن الوصول إلى المسجد حتى فاتته الصلاة. وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس، ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول، وكمال إدراك الجماعة. فإن التفت إليه أطمعه في نفسه، وربما فترت عزيمته. فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجمز بقدر التفاته أو أكثر، فإن أعرض عنه واشتغل بما هو بصدده، وخاف فوت الصلاة أو الوقت، لم يبلغ عدوه منه ما شاء.
المثل الثاني: الظبي أشد سعيا من الكلب، ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه، فيدركه الكلب فيأخذه.
والقصد: أن في ذكر هذا الرفيق، ما يزيل وحشة التفرد، ويحث على السير والتشمير للحاق بهم.
وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت: «اللهم اهدني فيمن هديت» (1) أي أدخلني في هذه الزمرة، واجعلني رفيقا لهم ومعهم. (2)
(1) أخرجه: أحمد (1/ 199،200) وأبو داود (2/ 133 - 134/ 1425) والترمذي (2/ 328/464) وقال: "هذا حديث حسن". والنسائي (3/ 275/1744 - 1745) وابن ماجه (1/ 372 - 373/ 1178) وابن خزيمة (2/ 151 - 152/ 1095 - 1096) وابن حبان (2/ 498 - 499/ 722) وفي (3/ 225/945) والحاكم (3/ 172) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إلا أن محمد بن جعفر ابن أبي كثير قد خالف إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة في إسناده" كلهم من طريق أبي الحوراء عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر فذكره.
(2)
مدارج السالكين (1/ 21 - 22).
- وقال: ثم قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} (1).
وهذا دليل قاطع على أنه يجب رد موارد النزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله إلى الله ورسوله، لا إلى أحد غير الله ورسوله، فمن أحال الرد على غيرهما فقد ضاد أمر الله، ومن دعا عند النزاع إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية، فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله، ولهذا قال الله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} وهذا مما ذكرناه آنفا شرط ينتفي المشروط بانتفائه، فدل على أن من حكم غير الله ورسوله في موارد مقتضى النزاع كان خارجا من مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر، وحسبك بهذه الآية القاصمة العاصمة بيانا وشفاء، فإنها قاصمة لظهور المخالفين لها، عاصمة للمتمسكين بها الممتثلين لما أمرت به، قال الله تعالى:{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِن اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2).
وقد اتفق السلف والخلف على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، والرد إلى سنته بعد وفاته. (3)
(1) النساء الآية (59).
(2)
الأنفال الآية (42).
(3)
الرسالة التبوكية (133 - 134).
- وقال: وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} (1).
فهذا نص صريح في أن هدى الرسول صلى الله عليه وسلم إنما حصل بالوحي، فيا عجبا كيف يحصل الهدى لغيره من الآراء والعقول المختلفة والأقوال المضطربة؟ ولكن من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
فأي ضلال أعظم من ضلال من يزعم أن الهداية لا تحصل بالوحي، ثم يحيل فيها على عقل فلان ورأي فلتان؟ وقول زيد وعمرو؟ فلقد عظمت نعمة الله على عبد عافاه من هذه البلية العظمى والمصيبة الكبرى، والحمد لله رب العالمين.
فأمر سبحانه باتباع ما أنزل على رسوله، ونهى عن اتباع غيره، فما هو إلا اتباع المنزل، أو اتباع أولياء من دونه، فإنه لم يجعل بينهما واسطة، فكل من لا يتبع الوحي فإنما اتبع الباطل، واتبع أولياء من دون الله، وهذا بحمد الله ظاهر لا خفاء به. (3)
(1) سبأ الآية (50).
(2)
الأعراف الآيات (1 - 3).
(3)
الرسالة التبوكية (141 - 142).
- وقال: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَن اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ} تُحْشَرُونَ (1)، فتضمنت هذه الآية أمورا، أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات. فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرا وباطنا. فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان. ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول، فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول. (2)
- وقال: قال الله تعالى: {وكذلك نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} (3)، وقال:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} (4). الآية.
والله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصلة، وسبيل المجرمين مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة، وأعمال هؤلاء وأعمال
(1) الأنفال الآية (24).
(2)
الفوائد (114 - 115).
(3)
الأنعام الآية (55).
(4)
النساء الآية (115).
هؤلاء، وأولياء هؤلاء، وأولياء هؤلاء، وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء، والأسباب التي وفق بها هؤلاء والأسباب التي خذل بها هؤلاء، وجلا سبحانه الأمرين في كتابه وكشفهما وأوضحهما وبينهما غاية البيان، حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام.
فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده والطريق الموصل إلى الهلكة. فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم وهم الأدلاء الهداة، وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة، فإنهم نشأوا في سبيل الضلال والكفر والشرك والسبل الموصلة إلى الهلاك وعرفوها مفصلة، ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم، فخرجوا من الظلمة الشديدة إلى النور التام، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الظلم إلى العدل، ومن الحيرة والعمى إلى الهدى والبصائر، فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به، ومقدار ما كانوا فيه. فإن الضد يظهر حسنه الضد، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها. فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا إليه، ونفرة وبغضا لما انتقلوا عنه، وكانوا أحب الناس في التوحيد والإيمان والإسلام وأبغض الناس في ضده، عالمين بالسبيل على التفصيل.
وأما من جاء بعد الصحابة، فمنهم من نشأ في الإسلام غير عالم تفصيل ضده، فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين، فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما كما قال عمر بن الخطاب: إنما
تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه، فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه من الجاهلية، فإنها منسوبة إلى الجهل، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل.
فمن لم يعرف سبيل المجرمين ولم تستبن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودعا إليها وكفر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله كما وقع لأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم ممن ابتدع بدعة ودعا إليها وكفر من خالفها.
والناس في هذا الموضع أربع فرق:
الفرقة الأولى: من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علما وعملا، وهؤلاء أعلم الخلق.
الفرقة الثانية: من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام. وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر ولها أسلك.
الفرقة الثالثة: من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة، وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وإن لم يتصوره على التفصيل، بل إذا سمع شيئا مما خالف سبيل المؤمنين صرف سمعه عنه ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه،
وهو بمنزلة من سلمت نفسه من إرادة الشهوات فلم تخطر بقلبه ولم تدعه إليها نفسه، بخلاف الفرقة الأولى، فإنهم يعرفونها وتميل إليها نفوسهم ويجاهدونها على تركها لله.
وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة أيهما أفضل: رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله، أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله؟ فكتب عمر: إن الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله عزوجل من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم.
وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه فأبغضها لله وحذرها وحذر منها ودفعها عن نفسه ولم يدعها تخدش وجه إيمانه ولاتورثه شبهة ولا شكا، بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له، وكراهة لها ونفرة عنها، أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه. فإنه كلما مرت بقلبه وتصورت له ازداد محبة للحق ومعرفة بقدره وسرورا به، فيقوى إيمانه به. كما أن صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلما مرت به فرغب عنها إلى ضدها ازداد محبة لضدها ورغبة فيه وطلبا له وحرصا عليه، فما ابتلى الله سبحانه عبده المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي وميل نفسه إليها إلا ليسوقه بها إلى محبة ما هو أفضل منها وخير له وأنفع وأدوم، وليجاهد نفسه على تركها له سبحانه فتورثه تلك المجاهدة الوصول إلى المحبوب الأعلى. فكلما نازعته نفسه إلى تلك الشهوات واشتدت إرادته لها وشوقه إليها، صرف ذلك الشوق والإرادة والمحبة إلى النوع العالي الدائم، فكان طلبه له أشد وحرصه عليه أتم، بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك، فإنها وإن كانت طالبة للأعلى لكن بين
الطلبين فرق عظيم. ألا ترى أن من مشى إلى محبوبه على الجمر والشوك أعظم ممن مشى إليه راكبا على النجائب، فليس من آثر محبوبه مع منازعة نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها إلى غيره، فهو سبحانه يبتلي عبده بالشهوات، إما حجابا له عنه، أوحاجبا له يوصله إلى رضاه وقربه وكرامته.
الفرقة الرابعة: فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة، وسبيل المؤمنين مجملة، وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع، فعرفها على التفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول كذلك، بل عرفه معرفة مجملة وإن تفصلت له في بعض الأشياء. ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عيانا. وكذلك من كان عارفا بطرق الشر والظلم والفساد على التفصيل سالكا لها، إذا تاب ورجع عنها إلى سبيل الأبرار يكون علمه بها مجملا غير عارف بها على التفصيل معرفة من أفنى عمره في تصرفها وسلوكها.
والمقصود أن الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتجتنب وتبغض، كما يحب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك. وفي هذه المعرفة من الفوائد والأسرار ما لا يعلمه إلا الله من معرفة عموم ربوبيته سبحانه وحكمته وكمال أسمائه وصفاته وتعلقها بمتعلقاتها واقتفائها لآثارها وموجباتها. وذلك من أعظم الدلالة على ربوبيته وملكه وإلهيته وحبه وبغضه وثوابه وعقابه، والله أعلم. (1)
(1) الفوائد (142 - 145).