الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَى حَصِيرٍ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَنَسٌ عَلَى الْمَنْسُوجِ. وَهُوَ قَوْلُ عَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُ كَرِهَ الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَاسْتَحَبَّ الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ. وَنَحْوَهُ قَالَ مَالِكٌ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي بِسَاطِ الصُّوفِ وَالشَّعَرِ: إذَا كَانَ سُجُودُهُ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ أَرَ بِالْقِيَامِ عَلَيْهِ بَأْسًا. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ فِي بَيْتِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ، وَأَنَسٍ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
وَرَوَى عَنْهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ «، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْحَصِيرِ وَالْفَرْوَةِ الْمَدْبُوغَةِ» . وَفِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى مُلْتَفًّا بِكِسَاءٍ، يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهِ إذَا سَجَدَ» . وَلِأَنَّ مَا لَمْ تُكْرَهْ الصَّلَاةُ فِيهِ لَمْ تُكْرَهْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ كَالْكَتَّانِ وَالْخُوصِ. وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَوَانِ، إذَا أَمْكَنَهُ اسْتِيفَاءُ الْأَرْكَانِ عَلَيْهِ، وَالنَّافِلَةُ فِي السَّفَرِ. وَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ نَجِسًا، أَوْ عَلَيْهِ بِسَاطٌ طَاهِرٌ، صَحَّتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى حِمَارٍ. وَفَعَلَهُ أَنَسٌ وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَى الْعَجَلَةِ، وَهِيَ خَشَبٌ عَلَى بَكَرَاتٍ، إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مَحَلٌّ تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ أَعْضَاؤُهُ، فَهِيَ كَغَيْرِهَا.
[مَسْأَلَة صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ نَجَاسَة]
(973)
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ، وَإِنْ قَلَّتْ، أَعَادَ) وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ النَّجَاسَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَثِيرِهَا وَقَلِيلِهَا، إلَّا فِيمَا نَذْكُرُهُ بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِمَّنْ قَالَ: لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ الْبَوْلِ مِثْلِ رُءُوسِ الْإِبَرِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ جَمِيعِ النَّجَاسَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُتَحَرَّى فِيهَا بِالْمَسْحِ فِي مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ، وَلَوْ لَمْ يُعْفَ عَنْهَا لَمْ يَكْفِ فِيهَا الْمَسْحُ كَالْكَثِيرِ، وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَعُفِيَ عَنْهُ كَالدَّمِ.
وَلَنَا: عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ، فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ» وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ لَا تَشُقُّ إزَالَتُهَا، فَوَجَبَتْ إزَالَتُهَا كَالْكَثِيرِ، وَأَمَّا الدَّمُ فَإِنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْ بَثْرَةٍ أَوْ حَكَّةٍ أَوْ دُمَّلٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ أَنْفِهِ وَفِيهِ وَغَيْرِهِمَا، فَيَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْ يَسِيرِهِ أَكْثَرَ مِنْ كَثِيرِهِ، وَلِهَذَا فُرِّقَ فِي الْوُضُوءِ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَمًا أَوْ قَيْحًا يَسِيرًا مِمَّا لَا يَفْحُشُ فِي الْقَلْبِ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ وَالْقَيْحِ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعُرْوَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كِنَانَةَ، وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ
يَنْصَرِفُ مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ سَوَاءٌ. وَنَحْوُهُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ؛ لِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ. فَأَشْبَهَ الْبَوْلَ.
وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَدْ كَانَ يَكُونُ لِإِحْدَانَا الدِّرْعُ، فِيهِ تَحِيضُ وَفِيهِ تُصِيبُهَا الْجَنَابَةُ، ثُمَّ تَرَى فِيهِ قَطْرَةً مِنْ دَمٍ، فَتَقْصَعُهُ بِرِيقِهَا. وَفِي لَفْظٍ: مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إلَّا ثَوْبٌ، فِيهِ تَحِيضُ، فَإِنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمِهَا بَلَّتْهُ بِرِيقِهَا، ثُمَّ قَصَعَتْهُ بِظُفُرِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الرِّيقَ لَا يُطَهَّرُ بِهِ وَيَتَنَجَّسُ بِهِ ظُفُرُهَا، وَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ دَوَامِ الْفِعْلِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَصْدُرُ إلَّا عَنْ أَمْرِهِ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. وَمَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ، فَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَسْجُدُ، فَيُخْرِجُ يَدَيْهِ، فَيَضَعُهُمَا بِالْأَرْضِ، وَهُمَا يَقْطُرَانِ دَمًا، مِنْ شِقَاقٍ كَانَ فِي يَدَيْهِ، وَعَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ دَمٍ وَقَيْحٍ، فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ وَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَانْصِرَافُهُ مِنْهُ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ لَا يُنَافِي مَا رَوَيْنَاهُ عَنْهُ، فَقَدْ يَتَوَرَّعُ الْإِنْسَانُ عَنْ بَعْضِ مَا يَرَى جَوَازَهُ، وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَعُفِيَ عَنْهُ كَأَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ.
(975)
فَصْلٌ: وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، أَنَّ الْيَسِيرَ مَا لَا يَفْحُشُ فِي الْقَلْبِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إلَّا إذَا كَانَ فَاحِشًا أَعَادَهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْكَثِيرِ؟ فَقَالَ: شِبْرٌ فِي شِبْرٍ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ، قَالَ: قَدْرُ الْكَفِّ فَاحِشٌ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ، أَنَّهُ مَا فَحُشَ فِي قَلْبِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّمُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا فَحُشَ فِي قَلْبِك. قَالَ الْخَلَّالُ: وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْفَاحِشِ، أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْتَفْحِشُهُ كُلُّ إنْسَانٍ فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا يَفْحُشُ فِي نُفُوسِ أَوْسَاطِ النَّاسِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ، فِي مَوْضِعِ الدِّرْهَمِ: فَاحِشٌ. وَنَحْوُهُ عَنْ النَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«تُعَادُ الصَّلَاةُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ الدَّمِ» .
وَلَنَا أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ فِي الشَّرْعِ، فَرُجِعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، كَالتَّفَرُّقِ وَالْإِحْرَازِ، وَمَا رَوَوْهُ لَا يَصِحُّ،
فَإِنَّ الْحَافِظَ أَبَا الْفَضْلِ الْمَقْدِسِيَّ، قَالَ: هُوَ مَوْضُوعٌ. وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، بِدَلِيلِ خِطَابِهِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ لَا يَرَوْنَهُ حُجَّةً. (976) فَصْلٌ: وَالْقَيْحُ، وَالصَّدِيدُ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ الدَّمِ، بِمَنْزِلَتِهِ، إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: هُوَ أَسْهَلُ مِنْ الدَّمِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا لَمْ يَرَيَاهُ كَالدَّمِ.
وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ، فِي الصَّدِيدِ: إنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ. وَقَالَ أُمَيُّ بْنُ رَبِيعَةَ، رَأَيْت طَاوُسًا كَأَنَّ إزَارَهُ نُطِعَ مِنْ قُرُوحٍ كَانَتْ بِرِجْلَيْهِ. وَقَالَ إسْمَاعِيلُ السَّرَّاجُ: رَأَيْت حَاشِيَةَ إزَارِ مُجَاهِدٍ قَدْ ثَبَتَتْ مِنْ الصَّدِيدِ وَالدَّمِ مِنْ قُرُوحٍ كَانَتْ بِسَاقَيْهِ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ، فِي الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْحُبُونُ: يُصَلِّي، وَلَا يَغْسِلُهُ، فَإِذَا بَرِئَ غَسَلَهُ. وَقَالَ عُرْوَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كِنَانَةَ مِثْلَ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا يُعْفَى مِنْهُ عَنْ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْفَى عَنْ مِثْلِهِ مِنْ الدَّمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْحُشُ مِنْهُ إلَّا أَكْثُرُ مِنْ الدَّمِ، وَلِأَنَّ هَذَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ النَّجَاسَةُ فِيهِ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ مِنْ الدَّمِ إلَى حَالٍ مُسْتَقْذَرَةٍ.
(977)
فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الدَّمِ مُجْتَمِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا، بِحَيْثُ إذَا جُمِعَ بَلَغَ هَذَا الْقَدْرَ، وَلَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي شَيْءٍ صَفِيقٍ، قَدْ نَفَذَتْ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَاتَّصَلَ ظَاهِرُهُ بِبَاطِنِهِ، فَهُوَ نَجَاسَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلَا، بَلْ كَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ لَمْ يُصِبْهُ الدَّمُ، فَهُمَا نَجَاسَتَانِ، إذَا بَلَغَا - لَوْ جُمِعَا - قَدْرًا لَا يُعْفَى عَنْهُ لَمْ يُعْفَ عَنْهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَا فِي جَانِبَيْ الثَّوْبِ (978) . فَصْلٌ: وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمِ الْحَيْضِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَعَنْ سَائِرِ دِمَاءِ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ. فَأَمَّا دَمُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ؛ لِأَنَّ رُطُوبَاتِهِ الطَّاهِرَةَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا، فَدَمُهُ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ أَصَابَ جِسْمَ الْكَلْبِ فَلَمْ يُعْفَ عَنْهُ، كَالْمَاءِ إذَا أَصَابَهُ. وَهَكَذَا كُلُّ دَمٍ أَصَابَ نَجَاسَةً غَيْرَ مَعْفُوٍّ عَنْهَا، لَمْ يُعْفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ لِذَلِكَ.
(979)
فَصْلٌ: وَدَمُ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ، كَالْبَقِّ، وَالْبَرَاغِيثِ، وَالذُّبَابِ، وَنَحْوِهِ، فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ طَاهِرٌ. وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَاكِمُ
وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَحَمَّادٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَنَجُسَ الْمَاءُ الْيَسِيرُ إذَا مَاتَ فِيهِ، فَإِنَّهُ إذَا مَكَثَ فِي الْمَاءِ لَا يَسْلَمُ مِنْ خُرُوجِ فَضْلَةٍ مِنْهُ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَمٍ مَسْفُوحٍ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ إذَا كَثُرَ: إنِّي لَأَفْزَعُ مِنْهُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: اغْسِلْ مَا اسْتَطَعْتَ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ: إذَا كَثُرَ وَانْتَشَرَ، فَإِنِّي أَرَى أَنْ يُغْسَلَ.
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ: إنِّي لَأَفْزَعُ مِنْهُ. لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي نَجَاسَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَوَقُّفِهِ فِيهِ، وَلَيْسَ الْمَنْسُوبُ إلَى الْبَرَاغِيثِ دَمًا إنَّمَا هُوَ بَوْلُهَا فِي الظَّاهِرِ، وَبَوْلُ هَذِهِ الْحَشَرَاتِ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: دَمُ السَّمَكِ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ إبَاحَتَهُ لَا تَقِفُ عَلَى سَفْحِهِ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا، لَوَقَفَتْ الْإِبَاحَةُ عَلَى إرَاقَتِهِ بِالذَّبْحِ كَحَيَوَانِ الْبَرِّ، وَلِأَنَّهُ إذَا تُرِكَ اسْتَحَالَ فَصَارَ مَاءً. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: هُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ مَسْفُوحٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] .
(980)
فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ الْقَيْءِ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: هُوَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الْإِنْسَانِ نَجِسٌ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ، فَأَشْبَهَ الدَّمَ. وَرُوِيَ عَنْهُ فِي الْمَذْيِ أَنَّهُ قَالَ: يُغْسَلُ مَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا. وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ قَالَ: سُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ الْمَذْيِ يَخْرُجُ، فَكُلُّهُمْ قَالَ: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقُرْحَةِ، فَمَا عَلِمْت مِنْهُ فَاغْسِلْهُ، وَمَا غَلَبَك مِنْهُ فَدَعْهُ، وَلِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الشَّبَابِ كَثِيرًا، فَيَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَعُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ، كَالدَّمِ.
وَكَذَلِكَ الْمَنِيُّ إذَا قُلْنَا بِنَجَاسَتِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ فِي الْوَدْيِ مِثْلُ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ عَنْهُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْبَوْلِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَخْرَجِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ رِيقِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَعَرَقِهِمَا، إذَا كَانَ يَسِيرًا. وَهُوَ الظَّاهِرُ عَنْ أَحْمَدَ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَعَلَيْهِ مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ. قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ يَسْلَمُ مِنْ هَذَا مِمَّنْ يَرْكَبُ الْحَمِيرَ، إلَّا إنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَا خَفَّ مِنْهُ أَسْهَلَ. قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَبْوَالِهَا وَأَرْوَاثِهَا، وَبَوْلِ الْخُفَّاشِ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَاكِمُ وَحَمَّادُ وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: لَا بَأْسَ بِبَوْلِ الْخَفَافِيشِ. وَكَذَلِكَ الْخُفَّاشُ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ فِي الْمَسَاجِدِ يَكْثُرُ، فَلَوْ لَمْ يُعْفَ عَنْ يَسِيرِهِ لَمْ يُقَرَّ فِي الْمَسَاجِدِ. وَكَذَلِكَ بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، إنْ قُلْنَا بِنَجَاسَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ لِكَثْرَتِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ شَيْءٍ