الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] . " وَإِنَّمَا " لِلْحَصْرِ وَالْإِثْبَاتِ، تُثْبِتُ الْمَذْكُورَ، وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ، وَالْخَبَرُ الْمَذْكُورُ.
قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ، وَسُئِلَ: يُكَفَّنُ الْمَيِّتُ مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: لَا، وَلَا يُقْضَى مِنْ الزَّكَاةِ دَيْنُ الْمَيِّتِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا فِي قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْغَارِمَ هُوَ الْمَيِّتُ وَلَا يُمْكِنُ الدَّفْعُ إلَيْهِ، وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى غَرِيمِهِ صَارَ الدَّفْعُ إلَى الْغَرِيمِ لَا إلَى الْغَارِمِ. وَقَالَ أَيْضًا: يُقْضَى مِنْ الزَّكَاةِ دَيْنُ الْحَيِّ، وَلَا يُقْضَى مِنْهَا دَيْنُ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَكُونُ غَارِمًا. قِيلَ: فَإِنَّمَا يُعْطِي أَهْلُهُ.
قَالَ: إنْ كَانَتْ عَلَى أَهْلِهِ فَنِعْمَ.
[فَصْلُ إذَا أَعْطَى الزَّكَاة لِمَنْ يَظُنّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا]
(1791)
فَصْلٌ: وَإِذَا أَعْطَى مَنْ يَظُنُّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا. فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يُجْزِئُهُ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى الرَّجُلَيْنِ الْجَلْدَيْنِ، وَقَالَ: إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا مِنْهَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» .
وَقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي سَأَلَهُ الصَّدَقَةَ «إنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ» . وَلَوْ اعْتَبَرَ حَقِيقَةَ الْغِنَى لَمَا اكْتَفَى بِقَوْلِهِمْ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«قَالَ رَجُلٌ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُك فَقَدْ قُبِلَتْ، لَعَلَّ الْغَنِيَّ أَنْ يَعْتَبِرَ فَيُنْفِقَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الْوَاجِبَ إلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ عُهْدَتِهِ، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَى كَافِرٍ، أَوْ ذِي قَرَابَتِهِ، وَكَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ.
فَأَمَّا إنْ بَانَ الْآخِذُ عَبْدًا، أَوْ كَافِرًا، أَوْ هَاشِمِيًّا، أَوْ قَرَابَةً لِلْمُعْطِي مِمَّنْ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ، لَمْ يُجْزِهِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ، وَلَا تَخْفَى حَالُهُ غَالِبًا، فَلَمْ يُجْزِهِ الدَّفْعُ إلَيْهِ، كَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ، وَفَارَقَ مَنْ بَانَ غَنِيًّا؛ بِأَنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى مِمَّا يَعْسَرُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ وَالْمَعْرِفَةُ بِحَقِيقَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] .
فَاكْتَفَى بِظُهُورِ الْفَقْرِ، وَدَعْوَاهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ.
[مَسْأَلَةُ الرَّجُل إذَا تَوَلَّى إخْرَاج زَكَاته بِنَفْسِهِ سَقَطَ حَقّ الْعَامِل مِنْهَا]
(1792)
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إلَّا أَنْ يَتَوَلَّى الرَّجُلُ إخْرَاجَهَا بِنَفْسِهِ، فَيَسْقُطُ الْعَامِلُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَوَلَّى إخْرَاجَ زَكَاتِهِ بِنَفْسِهِ، سَقَطَ حَقُّ الْعَامِلِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ أَجْرًا لِعَمَلِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا شَيْئًا فَلَا حَقَّ لَهُ، فَيَسْقُطُ، وَتَبْقَى سَبْعَةُ أَصْنَافٍ، إنْ وَجَدَ جَمِيعَهُمْ أَعْطَاهُمْ، وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُمْ اكْتَفَى بِعَطِيَّتِهِ، وَإِنْ أَعْطَى الْبَعْضَ مَعَ إمْكَانِ عَطِيَّةِ الْجَمِيعِ، جَازَ أَيْضًا. .
[مَسْأَلَةُ أَعْطَى الزَّكَاة كُلّهَا فِي صِنْف وَاحِد]
(1793)
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ أَعْطَاهَا كُلَّهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ، أَجْزَأَهُ إذَا لَمْ يُخْرِجْهُ إلَى الْغِنَى)
وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا شَخْصًا وَاحِدًا.
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَحُذَيْفَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَعَطَاءٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا يَحْتَمِلُ الْأَصْنَافَ، قَسَمَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، جَازَ وَضْعُهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَتَحَرَّى مَوْضِعَ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ، وَيُقَدِّمُ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّافِعِيُّ: يَجِبُ أَنْ يَقْسِمَ زَكَاةَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ مَالِهِ، عَلَى الْمَوْجُودِ مِنْ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ الَّذِينَ سُهْمَانُهُمْ ثَابِتَةٌ، قِسْمَةً عَلَى السَّوَاءِ، ثُمَّ حِصَّةُ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ، لَا تُصْرَفُ إلَى أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ، إنْ وَجَدَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا وَاحِدًا، صَرَفَ حِصَّةَ ذَلِكَ الصِّنْفِ إلَيْهِ.
وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ كَذَلِكَ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الصَّدَقَةَ لِجَمِيعِهِمْ، وَشَرَّك بَيْنَهُمْ فِيهَا، فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِمْ كَأَهْلِ الْخُمْسِ. وَلَنَا «، قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» .
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِرَدِّ جُمْلَتِهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَاهُمْ، ثُمَّ أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالٌ، فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ ثَانٍ سِوَى الْفُقَرَاءِ، وَهُمْ الْمُؤَلَّفَةُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ، وَزَيْدٌ الْخَيْرُ قَسَّمَ فِيهِمْ الذَّهَبِيَّةَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا إلَيْهِ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ. وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ الصَّدَقَةُ. ثُمَّ أَتَاهُ مَالٌ آخَرُ؛ فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ آخَرَ؛ لِقَوْلِهِ لِقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقُ حِينَ تَحَمَّلَ حِمَالَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ، فَقَالَ:«أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَك بِهَا» . وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَّاضِي، أَنَّهُ أَمَرَ لَهُ بِصَدَقَةِ قَوْمِهِ.
وَلَوْ وَجَبَ صَرْفُهَا إلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إلَى وَاحِدٍ، وَلِأَنَّهَا لَا يَجِبُ صَرْفُهَا إلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ إذَا أَخَذَهَا السَّاعِي، فَلَمْ يَجِبْ دَفْعُهَا إلَيْهِمْ إذَا فَرَّقَهَا الْمَالِكُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا صِنْفًا وَاحِدًا، وَلِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْمِيمُ أَهْلِ كُلِّ صِنْفٍ بِهَا، فَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدٍ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِجَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ، وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ الْخُمْسُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ تَفْرِيقُهُ عَلَى جَمِيعِ مُسْتَحِقِّيهِ، وَاسْتِيعَابُ جَمِيعِهِمْ بِهِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ، وَالْآيَةُ أُرِيدَ بِهَا بَيَانُ الْأَصْنَافِ الَّذِينَ يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ، دُونَ غَيْرِهِمْ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْمُسْتَحَبَّ صَرْفُهَا إلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، أَوْ إلَى مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ الْخِلَافِ، وَيَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ يَقِينًا فَكَانَ أَوْلَى.