الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَوْ رَجَعَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِمَا. أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ يَرْجِعَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِمَا، لَمْ يَطْلُبْهُمَا، وَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا عِنْدَ الرَّابِعَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ رُجُوعَهُ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ؛ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إحْدَى بَيِّنَتَيْ الْحَدِّ، فَيَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ، كَالْبَيِّنَةِ إذَا رَجَعَتْ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ، وَفَارَقَ سَائِرَ الْحُقُوقِ، فَإِنَّهَا لَا تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ ضَمَانُ مَاعِزٍ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوهُ بَعْدَ هَرَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الرُّجُوعِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا هَرَبَ لَمْ يُتْبَعْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ» . وَإِنْ لَمْ يُتْرَكْ وَقُتِلَ، لَمْ يُضْمَنْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ لَمْ يُضَمِّنْ مَاعِزًا مَنْ قَتَلَهُ؛ وَلِأَنَّ هَرَبَهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي رُجُوعِهِ.
وَإِنْ قَالَ: رُدُّونِي إلَى الْحَاكِمِ. وَجَبَ رَدُّهُ، وَلَمْ يَجُزْ إتْمَامُ الْحَدِّ، فَإِنْ أُتِمَّ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ أَتَمَّهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي هَرَبِهِ.
وَإِنْ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ، وَقَالَ: كَذَبْت فِي إقْرَارِي. أَوْ: رَجَعْت عَنْهُ. أَوْ: لَمْ أَفْعَلْ مَا أَقْرَرْت بِهِ. وَجَبَ تَرْكُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَجَبَ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ إقْرَارُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ، فَصَارَ كَمَنْ لَمْ يُقِرَّ، وَلَا قِصَاصَ عَلَى قَاتِلِهِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ رُجُوعِهِ، فَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْقِصَاصِ؛ وَلِأَنَّ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ مِمَّا يَخْفَى، فَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ.
[مَسْأَلَةٌ شُرُوطُ شُهُودِ الزِّنَا]
(7184)
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (أَوْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحْرَارٌ عُدُولٌ، يَصِفُونَ الزِّنَا) ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ فِي شُهُودِ الزِّنَا سَبْعَةَ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً. وَهَذَا إجْمَاعٌ، لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] .
وَقَالَ تَعَالَى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]«وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْت لَوْ وَجَدْت مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا، أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ.» رَوَاهُ مَالِكٌ، فِي " الْمُوَطَّإِ " وَأَبُو دَاوُد فِي " سُنَنِهِ " الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا رِجَالًا كُلُّهُمْ، وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِحَالٍ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا شَيْئًا يُرْوَى عَنْ عَطَاءٍ، وَحَمَّادٍ، أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَامْرَأَتَانِ. وَهُوَ شُذُوذٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَرْبَعَةِ اسْمٌ لِعَدَدِ الْمَذْكُورِينَ، وَيَقْتَضِي أَنْ يُكْتَفَى فِيهِ بِأَرْبَعَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ إذَا كَانَ بَعْضُهُمْ نِسَاءً لَا يُكْتَفَى بِهِمْ، وَإِنَّ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ خَمْسَةٌ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ فِي شَهَادَتِهِنَّ شُبْهَةً؛ لِتَطَرُّقِ الضَّلَالِ إلَيْهِنَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] . وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْحُرِّيَّةُ، فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْعَبِيدِ.
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، إلَّا رِوَايَةً حُكِيَتْ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ شَهَادَتَهُمْ تُقْبَلُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِعُمُومِ النُّصُوصِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ عَدْلٌ ذَكَرٌ مُسْلِمٌ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، كَالْحُرِّ. وَلَنَا أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي شَهَادَتِهِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْعَدَالَةُ، وَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِهَا؛ فَإِنَّ الْعَدَالَةَ تُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ، فَهَاهُنَا مَعَ مَزِيدِ الِاحْتِيَاطِ أَوْلَى، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ، وَلَا مَسْتُورِ الْحَالِ الَّذِي لَا تُعْلَمُ عَدَالَتُهُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ كُفَّارٌ، لَا تَتَحَقَّقُ الْعَدَالَةُ فِيهِمْ، وَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ وَلَا أَخْبَارُهُمْ الدِّينِيَّةُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ.
الشَّرْطُ السَّادِسُ، أَنْ يَصِفُوا الزِّنَا، فَيَقُولُوا: رَأَيْنَا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَالرِّشَاءِ فِي الْبِئْرِ. وَهَذَا قَوْلُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِمَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ «مَاعِزٍ، أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالزِّنَا، فَقَالَ: أَنِكْتَهَا. فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْك، فِي ذَلِكَ مِنْهَا، كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ؟ . قَالَ: نَعَمْ.» وَإِذَا اُعْتُبِرَ التَّصْرِيحُ فِي الْإِقْرَارِ، كَانَ اعْتِبَارُهُ فِي الشَّهَادَةِ أَوْلَى.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:«جَاءَتْ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ائْتُونِي بِأَعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ. فَأَتَوْهُ بِابْنَيْ صُورِيَا، فَنَشَدَهُمَا: كَيْفَ تَجِدَانِ أَمْرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ؟ . قَالَا: نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجَهَا، مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، رُجِمَا. قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَرْجُمُوهُمَا؟ قَالَا: ذَهَبَ سُلْطَانُنَا، وَكَرِهْنَا الْقَتْلَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّهُودِ، فَجَاءَ أَرْبَعَةٌ، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجْمِهِمَا.» وَلِأَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَصِفُوا الزِّنَا اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَاعْتُبِرَ كَشْفُهُ.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَجُوزُ لِلشُّهُودِ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى ذَلِكَ مِنْهُمَا، لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا لِيَحْصُلَ الرَّدْعُ بِالْحَدِّ، فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ قَدْ غَيَّبَهُ فِي فَرْجِهَا كَفَى، وَالتَّشْبِيهُ تَأْكِيدٌ. وَأَمَّا تَعْيِينُهُمْ الْمَزْنِيَّ بِهَا أَوْ الزَّانِيَ، إنْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى امْرَأَةٍ، وَمَكَانِ الزِّنَا، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ، لِئَلَّا تَكُونَ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ اُخْتُلِفَ فِي إبَاحَتِهَا، وَيُعْتَبَرُ ذِكْرُ الْمَكَانِ، لِئَلَّا تَكُونَ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ عَلَى غَيْرِ الْفِعْلِ
الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ، وَلِهَذَا «سَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَاعِزًا، فَقَالَ: إنَّك أَقْرَرْت أَرْبَعًا، فَبِمَنْ؟» . وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ هَذَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ ذِكْرُهُمَا فِي الْإِقْرَارِ، وَلَمْ يَأْتِ ذِكْرُهُمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الشَّهَادَةِ فِي رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ ذِكْرُ الْمَكَانِ؛ وَلِأَنَّ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُ الزَّمَانِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُ الْمَكَانِ، كَالنِّكَاحِ، وَيَبْطُلُ مَا ذِكْرُهُ بِالزَّمَانِ.
الشَّرْطُ السَّابِعُ، مَجِيءُ الشُّهُودِ كُلِّهِمْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، فَقَالَ: وَإِنْ جَاءَ أَرْبَعَةٌ مُتَفَرِّقِينَ، وَالْحَاكِمُ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ، لَمْ يَقُمْ قَبْلَ شَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ جَاءَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ أَنْ قَامَ الْحَاكِمُ، كَانُوا قَذَفَةً، وَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالْبَتِّيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] . وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَجْلِسَ، وَقَالَ تَعَالَى:{فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] . وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ مَقْبُولَةٌ إنْ اتَّفَقَتْ، تُقْبَلُ إذَا افْتَرَقَتْ فِي مَجَالِسَ، كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ.
وَلَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ وَنَافِعًا وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ شَهِدُوا عِنْدَ عُمَرَ، عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَا، وَلَمْ يَشْهَدْ زِيَادٌ، فَحَدَّ الثَّلَاثَةَ.
وَلَوْ كَانَ الْمَجْلِسُ غَيْرَ مُشْتَرَطٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحُدَّهُمْ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكْمُلُوا بِرَابِعٍ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ، فَحَدَّهُمْ، ثُمَّ جَاءَ رَابِعٌ فَشَهِدَ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَلَوْلَا اشْتِرَاطُ الْمَجْلِسِ، لَكَمَلَتْ شَهَادَتُهُمْ. وَبِهَذَا فَارَقَ سَائِرَ الشَّهَادَاتِ. وَأَمَّا الْآيَةُ: فَإِنَّهَا لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلشُّرُوطِ، وَلِهَذَا لَمْ تَذْكُرْ الْعَدَالَةَ، وَصِفَةَ الزِّنَا؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ:{ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] . لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا فِي الزَّمَانِ كُلِّهِ، أَوْ مُقَيَّدًا، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ جَلْدِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ زَمَنٍ إلَّا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، أَوْ بِكَمَالِهِمْ إنْ كَانَ قَدْ شَهِدَ بَعْضُهُمْ، فَيَمْتَنِعُ جَلْدُهُمْ الْمَأْمُورُ بِهِ، فَيَكُونُ تَنَاقُضًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ، فَأَوْلَى مَا قُيِّدَ بِالْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَالِ الْوَاحِدَةِ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَاكْتُفِيَ فِيهِ بِالْقَبْضِ فِيمَا يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ فِيهِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُهُمْ حَالَ مَجِيئِهِمْ، وَلَوْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، قَبِلَ شَهَادَتَهُمْ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: إنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ، فَهُمْ قَذَفَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا فِي مَجِيئِهِمْ، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، كَاَلَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. وَلَنَا قِصَّةُ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّ الشُّهُودَ جَاءُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَسُمِعَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنَّمَا حُدُّوا لِعَدَمِ كَمَالِهَا. وَفِي حَدِيثِهِ، أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ قَالَ: أَرَأَيْت إنْ جَاءَ آخَرُ يَشْهَدُ، أَكُنْت تَرْجُمُهُ؟ . قَالَ عُمَرُ: أَيْ، وَاَلَّذِي نَفْسِي