الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَنْ دَخَلَ أَرْضَ الْعَدُوِّ بِأَمَانٍ، فَأَمَّا إنْ كَانَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، فَمُبَاحٌ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَ أَبَا بَكْرٍ أَسْمَاءَ ابْنَةَ عُمَيْسٍ، وَهُمْ تَحْتَ الرَّايَاتِ» . أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ. وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَدَ لَهُمْ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا الْأَسِيرُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ مَا دَامَ أَسِيرًا، لِأَنَّهُ مَنَعَهُ مِنْ وَطْءِ امْرَأَتِهِ إذَا أُسِرَتْ مَعَهُ، مَعَ صِحَّةِ نِكَاحِهِمَا. وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِلْأَسِيرِ أَنْ يَتَزَوَّجَ، مَا كَانَ فِي أَيْدِي الْعَدُوِّ. وَكَرِهَ الْحَسَنُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَا دَامَ فِي أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ الْأَسِيرَ إذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ رَقِيقًا لَهُمْ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ أَسِيرٍ اشْتَرَيْت مَعَهُ امْرَأَتُهُ، أَيَطَؤُهَا؟ فَقَالَ: كَيْفَ يَطَؤُهَا، فَلَعَلَّ غَيْرَهُ مِنْهُمْ يَطَؤُهَا، قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لَهُ: وَلَعَلَّهَا تَعْلَقُ بِوَلَدٍ، فَيَكُونُ مَعَهُمْ.
قَالَ: وَهَذَا أَيْضًا. وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ، كَالتَّاجِرِ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ الَّذِي أَرَادَ الْخِرَقِيِّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ التَّزَوُّجُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ تَأْتِيَ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ فَيَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ، وَرُبَّمَا نَشَأَ بَيْنَهُمْ، فَيَصِيرُ عَلَى دِينِهِمْ. فَإِنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ، أُبِيحَ لَهُ نِكَاحُ مُسْلِمَةٍ؛ لِأَنَّهَا حَالُ ضَرُورَةٍ، وَيَعْزِلُ عَنْهَا، كَيْ لَا تَأْتِيَ بِوَلَدٍ. وَلَا يَتَزَوَّجُ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ امْرَأَتَهُ إذَا كَانَتْ مِنْهُمْ، غَلَبَتْهُ عَلَى وَلَدِهَا، فَيَتْبَعُهَا عَلَى دِينِهَا.
وَقَالَ الْقَاضِي، فِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: هَذَا نَهْيُ كَرَاهَةٍ، لَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] . وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ، فَلَا يَحْرُمُ بِالشَّكِّ وَالتَّوَهُّمِ، وَإِنَّمَا كَرِهْنَا لَهُ التَّزَوُّجَ مِنْهُمْ مَخَافَةَ أَنْ يَغْلِبُوا عَلَى وَلَدِهِ، فَيَسْتَرِقُّوهُ، وَيُعَلِّمُوهُ الْكُفْرَ، فَفِي تَزْوِيجِهِ تَعْرِيضٌ لِهَذَا الْفَسَادِ الْعَظِيمِ، وَازْدَادَتْ الْكَرَاهَةُ إذَا تَزَوَّجَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ امْرَأَتَهُ تَغْلِبُهُ عَلَى وَلَدِهَا، فَتُكَفِّرُهُ، كَمَا أَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ تَغْلِيبُ الْإِسْلَامِ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيَّةً، وَإِذَا اشْتَرَى مِنْهُمْ جَارِيَةً، لَمْ يَطَأْهَا فِي الْفَرْجِ فِي أَرْضِهِمْ، مَخَافَةَ أَنْ يَغْلِبُوهُ عَلَى وَلَدِهَا، فَيَسْتَرِقُّوهُ، وَيُكَفِّرُوهُ.
[فَصْلٌ فِي الْهِجْرَةِ]
ِ: وَهِيَ الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] . الْآيَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ بَيْنَ مُشْرِكَيْنِ،
لَا تَرَاءَا نَارَاهُمَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَمَعْنَاهُ لَا يَكُونُ بِمَوْضِعٍ يَرَى نَارَهُمْ، وَيَرَوْنَ نَارَهُ، إذَا أُوقِدَتْ. فِي آيٍ وَأَخْبَارٍ سِوَى هَذَيْنِ كَثِيرٍ. وَحُكْمُ الْهِجْرَةِ بَاقٍ، لَا يَنْقَطِعُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ قَوْمٌ: قَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» . وَقَالَ: «قَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» .
وَلَنَا مَا رَوَى مُعَاوِيَةُ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ، قَالَ:«لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا كَانَ الْجِهَادُ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَغَيْرُهُ، مَعَ إطْلَاقِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا، وَتَحَقُّقِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لَهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ.
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْأُوَلُ، فَأَرَادَ بِهَا لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ مِنْ بَلَدٍ قَدْ فُتِحَ. وَقَوْلُهُ لِصَفْوَانَ:" إنَّ الْهِجْرَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ ". يَعْنِي مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدِ الْكُفَّارِ، فَإِذَا فُتِحَ لَمْ يَبْقَ بَلَدَ الْكُفَّارِ، فَلَا تَبْقَى مِنْهُ هِجْرَةٌ. وَهَكَذَا كُلِّ بَلَدٍ فُتِحَ لَا يَبْقَى مِنْهُ هِجْرَةٌ، وَإِنَّمَا الْهِجْرَةُ إلَيْهِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالنَّاسُ فِي الْهِجْرَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ أَحَدُهَا، مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ إظْهَارُ دِينِهِ، وَلَا تُمْكِنُهُ إقَامَةُ وَاجِبَاتِ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ بَيْنَ الْكُفَّارِ، فَهَذَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] . وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِوَاجِبِ دِينِهِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَالْهِجْرَةُ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاجِبِ وَتَتِمَّتِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. الثَّانِي؛ مَنْ لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا، إمَّا لِمَرَضٍ، أَوْ إكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ، أَوْ ضَعْفٍ؛ مِنْ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَشِبْهِهِمْ، فَهَذَا لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98]{فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 99] .