الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَحَدُهُمَا: نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ مِنْ فِعْلَيْنِ؛ مَضْمُونٍ، وَغَيْرِ مَضْمُونٍ، فَكَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الضَّمَانِ. وَالثَّانِي: تُقَسَّطُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ الضَّرَبَاتِ كُلِّهَا، فَيَجِبُ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ زِيَادَتِهِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: مَا كُنْت لِأُقِيمَ حَدًّا عَلَى أَحَدٍ فَيَمُوتَ، فَأَجِدَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْئًا، إلَّا صَاحِبَ الْخَمْرِ، وَلَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسُنَّهُ لَنَا.
وَلَنَا أَنَّهُ حَدٌّ وَجَبَ لِلَّهِ، فَلَمْ يَجِبْ ضَمَانُ مَنْ مَاتَ بِهِ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِنْ الْحَدِّ، وَإِنْ كَانَ تَعْزِيرًا، فَالتَّعْزِيرُ يَجِبُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:«جَلَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ» وَثَبَتَ الْحَدُّ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَمْ تَبْقَ فِيهِ شُبْهَةٌ.
(7349)
فَصْلٌ: وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ، أَنَّهُ إذَا أُتِيَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَنْ تَلِفَ بِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فَعَلَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ. وَأَمْرِ رَسُولِهِ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ التَّلَفُ مَنْسُوبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنْ زَادَ عَلَى الْحَدِّ فَتَلِفَ، وَجَبَ الضَّمَانُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِعُدْوَانِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ضَرَبَهُ فِي غَيْرِ الْحَدِّ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَفِي قَدْرِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: كَمَالُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ حَصَلَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ وَعُدْوَانِ الضَّارِبِ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْعَادِي، كَمَا لَوْ ضَرَبَ مَرِيضًا سَوْطًا فَمَاتَ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ تَلِفَ بِعُدْوَانٍ وَغَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَلْقَى عَلَى سَفِينَةٍ مُوَقَّرَةٍ حَجَرًا فَغَرَّقَهَا. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ نِصْفُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ وَغَيْرِ مَضْمُونٍ، فَكَانَ الْوَاجِبُ نِصْفَ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ وَجَرَحَهُ غَيْرُهُ فَمَاتَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يَجِبُ مِنْ الدِّيَةِ بِقِسْطِ مَا تَعَدَّى بِهِ، تُقَسَّطُ الدِّيَةُ عَلَى الْأَسْوَاطِ كُلِّهَا، وَسَوَاءٌ زَادَ خَطَأً أَوْ عَمْدًا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ فِي الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ، ثُمَّ يُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ الْجَلَّادُ زَادَهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ أَمْرٍ، فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعُدْوَانَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ الْإِمَامُ لَهُ: اضْرِبْ مَا شِئْت. فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْ يَعُدُّ عَلَيْهِ، فَزَادَ فِي الْعَدَدِ، وَلَمْ يُخْبِرْهُ، فَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ يَعُدُّ، سَوَاءٌ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، أَوْ أَخْطَأَ فِي الْعَدَدِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مِنْهُ.
وَإِنْ أَمَرَهُ الْإِمَامُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْحَدِّ، فَزَادَ، فَقَالَ الْقَاضِي: الضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إنْ اعْتَقَدَ وُجُوبَ طَاعَةِ الْإِمَامِ، وَجَهِلَ تَحْرِيمَ الزِّيَادَةِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ الْإِمَامُ بِقَتْلِ رَجُلٍ ظُلْمًا فَقَتَلَهُ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: يَضْمَنُ الْإِمَامُ. فَهَلْ يَلْزَمُ عَاقِلَتَهُ أَوْ بَيْتَ الْمَالِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: هُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ خَطَأَهُ يَكْثُرُ، فَلَوْ وَجَبَ ضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، أَجْحَفَ بِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا أَصَحُّ. وَالثَّانِيَةُ: هُوَ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِخَطَئِهِ، فَكَانَتْ عَلَى عَاقِلَتِهِ، كَمَا لَوْ رَمَى صَيْدًا فَقَتَلَ آدَمِيًّا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَتَانِ إنَّمَا هُمَا فِيمَا إذَا وَقَعَتْ الزِّيَادَةُ مِنْهُ خَطَأً، أَمَّا إذَا تَعَمَّدَهَا، فَهَذَا ظُلْمٌ قَصَدَهُ، فَلَا وَجْهَ لِتَعَلُّقِ ضَمَانِهِ بِبَيْتِ الْمَالِ بِحَالٍ، كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ جَلْدَ مَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ الَّتِي تَلْزَمُ الْإِمَامَ، فَلَا يَحْمِلُهَا عَنْهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، فَلَا تَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ سَبَبُهَا؛ وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ لِفِعْلِهِ، فَلَا تَحْصُلُ إلَّا بِتَحَمُّلِهِ إيَّاهَا، وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُهَا التَّحَمُّلُ بِحَالٍ.
[فَصْلٌ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّكْرَانِ حَتَّى يَصْحُوَ]
(7350)
فَصْلٌ: وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّكْرَانِ حَتَّى يَصْحُوَ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّعْبِيِّ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ وَالتَّنْكِيلُ، وَحُصُولُهُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِي صَحْوِهِ أَتَمُّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَخَّرَ إلَيْهِ.
[فَصْلٌ حَدُّ السُّكْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ فِسْقُ شَارِبِ النَّبِيذِ]
(7351)
فَصْلٌ: وَحَدُّ السُّكْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ فِسْقُ شَارِبِ النَّبِيذِ، وَيُخْتَلَفُ مَعَهُ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ، وَيَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ مِنْهُ، هُوَ الَّذِي يَجْعَلُهُ يَخْلِطُ فِي كَلَامِهِ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الشُّرْبِ، وَيُغَيِّرُهُ عَنْ حَالِ صَحْوِهِ، وَيَغْلِبُ عَلَى عَقْلِهِ،
وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ ثَوْبِهِ وَثَوْبِ غَيْرِهِ عِنْدَ اخْتِلَاطِهِمَا، وَلَا بَيْنَ نَعْلِهِ وَنَعْلِ غَيْرِهِ. وَنَحْوُ هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَزَعَمَ أَبُو حَنِيفَةَ، أَنَّ السَّكْرَانَ هُوَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ السَّمَاءَ مِنْ الْأَرْضِ، وَلَا الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ.
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] . نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدَّمُوا رَجُلًا مِنْهُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَصَلَّى بِهِمْ، وَتَرَكَ فِي قِرَاءَتِهِ مَا غَيَّرَ الْمَعْنَى وَقَدْ كَانُوا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ عَالِمِينَ بِهَا، وَعَرَفُوا إمَامَهُمْ وَقَدَّمُوهُ لِيَؤُمَّهُمْ، وَقَصَدَ إمَامَتَهُمْ، وَالْقِرَاءَةَ لَهُمْ، وَقَصَدُوا الِائْتِمَامَ بِهِ، وَعَرَفُوا أَرْكَانَ الصَّلَاةِ، فَأَتَوْا بِهَا، وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ، فَهُوَ سَكْرَانُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِسَكْرَانَ فَقَالَ:" مَا شَرِبْت؟ ". فَقَالَ: مَا شَرِبْت إلَّا الْخَلِيطَيْنِ وَأُتِيَ بِآخَرَ سَكْرَانَ، فَقَالَ: أَلَا أَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي مَا سَرَقْت، وَلَا زَنَيْت، فَهَؤُلَاءِ قَدْ عَرَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ، وَهُمْ سُكَارَى.
وَفِي حَدِيثِ حَمْزَةَ عَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ غَنَّتْهُ قَيْنَةٌ وَهُوَ سَكْرَانُ:
أَلَا يَا حَمْزُ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ
…
وَهُنَّ مُعَقَّلَاتٌ بِالْفِنَاءِ
وَكَانَ عَلِيٌّ أَنَاخَ شَارِفَيْنِ لَهُ بِفِنَاءِ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ، فَقَامَ إلَيْهَا فَبَقَرَ بُطُونَهَا، وَاجْتَثَّ أَسْنِمَتَهَا، فَذَهَبَ عَلِيٌّ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا حَمْزَةُ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ، فَلَامَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إلَيْهِ وَإِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَقَالَ: وَهَلْ أَنْتُمْ إلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي، فَانْصَرَفَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَدْ فَهِمَ مَا قَالَتْ الْقَيْنَةُ فِي غِنَائِهَا، وَعَرَفَ الشَّارِفَيْنِ وَهُوَ فِي غَايَةِ سُكْرِهِ. وَلِأَنَّ الْمَجْنُونَ الذَّاهِبَ الْعَقْلِ بِالْكُلِّيَّةِ يَعْرِفُ السَّمَاءَ مِنْ الْأَرْضِ، وَالرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ، مَعَ ذَهَابِ عَقْلِهِ، وَرَفْعِ الْقَلَمِ عَنْهُ.