الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ، وَلَا عَلَى مَنْ مَعَهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْمُحَارَبَةِ، كَالرَّجُلِ، فَأَشْبَهَتْ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ. وَلَنَا أَنَّهَا تُحَدُّ فِي السَّرِقَةِ، فَيَلْزَمُهَا حُكْمُ الْمُحَارَبَةِ كَالرَّجُلِ، وَتُخَالِفُ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ؛ وَلِأَنَّهَا مُكَلَّفَةٌ يَلْزَمُهَا الْقِصَاصُ وَسَائِرُ الْحُدُودِ، فَلَزِمَهَا هَذَا الْحَدُّ، كَالرَّجُلِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهَا إنْ بَاشَرَتْ الْقَتْلَ، أَوْ أَخْذَ الْمَالِ، ثَبَتَ حُكْمُ الْمُحَارَبَةِ فِي حَقِّ مَنْ مَعَهَا؛ لِأَنَّهُمْ رِدْءٌ لَهَا. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهَا، ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّهَا؛ لِأَنَّهَا رِدْءٌ لَهُ، كَالرَّجُلِ سَوَاءً. وَإِنْ قَطَعَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الطَّرِيقَ، أَوْ كَانَ مَعَ الْمُحَارِبِينَ الْمُسْلِمِينَ ذِمِّيٌّ، فَهَلْ يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ فَإِنْ قُلْنَا: يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ. حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ بِكُلِّ حَالٍ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ. حَكَمْنَا عَلَيْهِمْ بِمَا نَحْكُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
[فَصْلٌ أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ الْمَالَ وَأُقِيمَتْ فِيهِمْ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى]
(7333)
فَصْلٌ: وَإِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ الْمَالَ، وَأُقِيمَتْ فِيهِمْ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَتْ الْأَمْوَالُ مَوْجُودَةً، رُدَّتْ إلَى مَالِكِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً أَوْ مَعْدُومَةً، وَجَبَ ضَمَانُهَا عَلَى آخِذِهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَمُقْتَضَى قَوْلِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ: أَنَّهَا إنْ كَانَتْ تَالِفَةً، لَمْ يَلْزَمْهَا غَرَامَتُهَا، كَقَوْلِهِمْ فِي الْمَسْرُوقِ إذَا قُطِعَ السَّارِقُ. وَوَجْهُ الْمَذْهَبَيْنِ مَا تَقَدَّمَ فِي السَّرِقَةِ. وَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْآخِذِ دُونَ الرِّدْءِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الضَّمَانِ لَيْسَ بِحَدٍّ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الْمُبَاشِرِ لَهُ، كَالْغَصْبِ وَالنَّهْبِ، وَلَوْ تَابَ الْمُحَارِبُونَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَتَعَلَّقَتْ بِهِمْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ؛ مِنْ الْقِصَاصِ وَالضَّمَانِ، لَاخْتَصَّ ذَلِكَ بِالْمُبَاشِرِ دُونَ الرِّدْءِ لِذَلِكَ، وَلَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ فِي السَّرِقَةِ، لَتَعَلَّقَ بِالْمُبَاشِرِ دُونَ الرِّدْءِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -.
[فَصْلٌ اجْتَمَعَتْ الْحُدُودُ لَمْ تَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ]
(7334)
فَصْلٌ: إذَا اجْتَمَعَتْ الْحُدُودُ، لَمْ تَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ؛ الْقِسَمُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِيهَا قَتْلٌ، مِثْلَ أَنْ يَسْرِقَ، وَيَزْنِيَ وَهُوَ مُحْصَنٌ، وَيَشْرَبَ الْخَمْرَ، وَيَقْتُلَ فِي الْمُحَارَبَةِ، فَهَذَا يُقْتَلُ، وَيَسْقُطُ سَائِرُهَا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَحَمَّادٍ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْتَوْفَى جَمِيعُهَا؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ مَعَ غَيْرِ الْقَتْلِ، وَجَبَ مَعَ الْقَتْلِ، كَقَطْعِ الْيَدِ قِصَاصًا.
وَلَنَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ سَعِيدٌ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: إذَا اجْتَمَعَ حَدَّانِ، أَحَدُهُمَا الْقَتْلُ، أَحَاطَ الْقَتْلُ بِذَلِكَ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ يَكْفِيهِ الْقَتْلُ.
وَقَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعَطَاءٍ أَنَّهُمْ قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ انْتَشَرَتْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا مُخَالِفٌ، فَكَانَتْ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّهَا حُدُودٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا قَتْلٌ، فَسَقَطَ مَا دُونَهُ، كَالْمُحَارِبِ إذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِقَتْلِهِ، وَلَا يُقْطَعُ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحُدُودَ تُرَادُ لِمُجَرَّدِ الزَّجْرِ، وَمَعَ الْقَتْلِ لَا حَاجَةَ إلَى زَجْرِهِ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَلَا يُشْرَعْ. وَيُفَارِقُ الْقِصَاصَ؛ فَإِنَّ فِيهِ غَرَضَ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ، وَلَا يُقْصَدُ مِنْهُ مُجَرَّدُ الزَّجْرِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ إذَا وُجِدَ مَا يُوجِبُ الرَّجْمَ وَالْقَتْلَ لِلْمُحَارَبَةِ، أَوْ الْقَتْلَ لِلرِّدَّةِ، أَوْ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ لِلْمُحَارَبَةِ، وَيَسْقُطَ الرَّجْمُ؛ لِأَنَّ فِي الْقَتْلِ لِلْمُحَارَبَةِ حَقَّ آدَمِيٍّ فِي الْقِصَاصِ، وَإِنَّمَا أَثَّرَتْ الْمُحَارَبَةُ فِي تَحْرِيمِهِ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا قَتْلٌ، فَإِنَّ جَمِيعَهَا يُسْتَوْفَى مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، وَيُبْدَأُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ، فَإِذَا شَرِبَ وَزَنَى وَسَرَقَ، حُدَّ لِلشُّرْبِ أَوَّلًا، ثُمَّ حُدَّ لِلزِّنَا، ثُمَّ قُطِعَ لِلسَّرِقَةِ. وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ فِي الْمُحَارَبَةِ، قُطِعَ لِذَلِكَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْقَطْعُ لِلسَّرِقَةِ؛ وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْقَطْعَيْنِ وَاحِدٌ، فَتَدَاخَلَا، كَالْقَتْلَيْنِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْبُدَاءَةِ بِحَدِّ الزِّنَا وَقَطْعِ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يُحَدُّ لِلشُّرْبِ. وَلَنَا أَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ أَخَفُّ، فَيُقَدَّمُ، كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، فِي السُّنَّةِ، وَمُجْمَعٍ عَلَى وُجُوبِهِ، وَهَذَا التَّقْدِيمُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ. وَلَوْ بَدَأَ بِغَيْرِهِ، جَازَ وَوَقَعَ الْمَوْقِعَ. وَلَا يُوَالِي بَيْنَ هَذِهِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَى إلَى تَلَفِهِ، بَلْ مَتَى بَرِئَ مِنْ حَدٍّ أُقِيمَ الَّذِي يَلِيهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْحُدُودُ الْخَالِصَةُ لِلْآدَمِيِّ، وَهُوَ الْقِصَاصُ، وَحَدُّ الْقَذْفِ، فَهَذِهِ تُسْتَوْفَى كُلُّهَا، وَيُبْدَأُ بِأَخَفِّهَا، فَيُحَدُّ لِلْقَذْفِ، ثُمَّ يُقْطَعُ، ثُمَّ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ لِلْآدَمِيِّينَ أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا، فَوَجَبَ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِمْ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَدْخُلُ مَا دُونَ الْقَتْلِ فِيهِ، احْتِجَاجًا بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقِيَاسًا عَلَى الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَنَا أَنَّ مَا دُونَ الْقَتْلِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ كَذُنُوبِهِمْ، وَفَارَقَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَجْتَمِعَ حُدُودُ اللَّهِ وَحُدُودُ الْآدَمِيِّينَ، وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا قَتْلٌ، فَهَذِهِ تُسْتَوْفَى كُلُّهَا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّ حَدَّيْ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ يَتَدَاخَلَانِ، لِاسْتِوَائِهِمَا، فَهُمَا كَالْقَتْلَيْنِ وَالْقَطْعَيْنِ. وَلَنَا أَنَّهُمَا حَدَّانِ مِنْ جِنْسَيْنِ، لَا يَفُوتُ بِهِمَا الْمَحَلُّ، فَلَمْ يَتَدَاخَلَا، كَحَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ، وَلَا نُسَلِّمُ اسْتِوَاءَهُمَا،
فَإِنَّ حَدَّ الشُّرْبِ أَرْبَعُونَ وَحَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ، وَإِنْ سُلِّمَ اسْتِوَاؤُهُمَا، لَمْ يَلْزَمْ تَدَاخُلُهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ اقْتَضَى تَدَاخُلَهُمَا، لَوَجَبَ دُخُولُهُمَا فِي حَدِّ الزِّنَا؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مِمَّا يَتَدَاخَلُ يَدْخُلُ فِي الْأَكْثَرِ، وَفَارَقَ الْقَتْلَيْنِ وَالْقَطْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ يَفُوتُ بِالْأَوَّلِ، فَيَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الثَّانِي وَهَذَا بِخِلَافِهِ. فَعَلَى هَذَا، يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ مَعْنَيَانِ: خِفَّتُهُ، وَكَوْنُهُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ شَحِيحٍ إلَّا إذَا قُلْنَا: حَدُّ الشُّرْبِ أَرْبَعُونَ. فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِهِ؛ لِخِفَّتِهِ، ثُمَّ بِحَدِّ الْقَذْفِ، وَأَيُّهُمَا قُدِّمَ، فَالْآخَرُ يَلِيهِ، ثُمَّ بِحَدِّ الزِّنَا؛ فَإِنَّهُ لَا إتْلَافَ فِيهِ، ثُمَّ بِالْقَطْعِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُبْدَأُ بِالْقَطْعِ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ مُتَمَحِّضٌ، فَإِذَا بَرِئَ حُدَّ لِلْقَذْفِ، إذَا قُلْنَا: هُوَ حَقُّ آدَمِيٍّ ثُمَّ يُحَدُّ لِلشُّرْبِ فَإِذَا بَرِئَ، حُدَّ لِلزِّنَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ لِتَأَكُّدِهِ. النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ تَجْتَمِعَ حُدُودٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَحُدُودٌ لِآدَمِيٍّ، وَفِيهَا قَتْلٌ فَإِنَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى تَدْخُلُ فِي الْقَتْلِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، كَالرَّجْمِ فِي الزِّنَا، وَالْقَتْلِ لِلْمُحَارَبَةِ، أَوْ الرِّدَّةِ أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، كَالْقِصَاصِ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّ، فَتُسْتَوْفَى كُلُّهَا. ثُمَّ إنْ كَانَ الْقَتْلُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، اُسْتُوْفِيَتْ الْحُقُوقُ كُلُّهَا مُتَوَالِيَةً؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَوَاتِ نَفْسِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّأْخِيرِ، وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ، اُنْتُظِرَ بِاسْتِيفَائِهِ الثَّانِي بُرْؤُهُ مِنْ الْأَوَّلِ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تُفَوِّتَ نَفْسَهُ قَبْلَ الْقِصَاصِ، فَيَفُوتَ حَقُّ الْآدَمِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَفْوَ جَائِزٌ، فَتَأْخِيرُهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْفُوَ الْوَلِيُّ فَيَحْيَا، بِخِلَافِ الْقَتْلِ حَقًّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَّفِقَ الْحَقَّانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَيَكُونَ تَفْوِيتًا، كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ قِصَاصًا وَحَدًّا؛ فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا هُوَ خَالِصٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَالرَّجْمِ فِي الزِّنَا، وَمَا هُوَ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، كَالْقِصَاصِ، قُدِّمَ الْقِصَاصُ، لِتَأَكُّدِ حَقِّ الْآدَمِيِّ.
وَإِنْ اجْتَمَعَ الْقَتْلُ لِلْقَتْلِ فِي الْمُحَارَبَةِ وَالْقِصَاصُ، بُدِئَ بِأَسْبَقِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي الْمُحَارَبَةِ فِيهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ أَيْضًا، فَيُقَدَّمُ أَسْبَقُهُمَا، فَإِنْ سَبَقَ الْقَتْلُ فِي الْمُحَارَبَةِ، اُسْتُوْفِيَ، وَوَجَبَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ الْآخَرِ دِيَتُهُ فِي مَالِ الْجَانِي، وَإِنْ سَبَقَ الْقِصَاصُ، قُتِلَ قِصَاصًا، وَلَمْ يُصْلَبْ؛ لِأَنَّ الصَّلْبَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ، وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ بِالْقِصَاصِ، فَسَقَطَ الصَّلْبُ، كَمَا لَوْ مَاتَ وَيَجِبُ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ فِي الْمُحَارَبَةِ دِيَتُهُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ، وَهُوَ قِصَاصٌ، فَصَارَ الْوُجُوبُ إلَى الدِّيَةِ. وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ فِي الْمُحَارَبَةِ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ؛ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْقَتْلِ مِنْ الْقَاتِلِ. وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ سَابِقًا، فَعَفَا وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، اُسْتُوْفِيَ لِلْمُحَارَبَةِ، سَوَاءٌ عَفَا مُطْلَقًا، أَوْ إلَى الدِّيَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا الْقَطْعُ: فَإِذَا اجْتَمَعَ وُجُوبُ الْقَطْعِ فِي يَدٍ أَوْ رِجْلٍ قِصَاصًا وَحَدًّا، قُدِّمَ الْقِصَاصُ عَلَى الْحَدِّ الْمُتَمَحِّضِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ سَبَبُهُ أَوْ تَأَخَّرَ. وَإِنْ عَفَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ، اُسْتُوْفِيَ الْحَدُّ، فَإِذَا قَطَعَ يَدًا وَأَخَذَ