الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس: 1 السنة عند أهل الاختصاص
.
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(السنة عند أهل الاختصاص)
معنى " السنة " و"الحديث " في اللغة والاصطلاح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه وأصحابه، وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد:
فنبدأ -بتوفيق من الله- بتعريف موجز عن "السنة" في اللغة وفي الاصطلاح، ونستعرض معانيها عند أهل التخصصات المختلفة؛ تمهيدا للدخول في مفردات المنهج بعد ذلك -إن شاء الله.
معنى "السنة" في اللغة:
يقول صاحب (لسان العرب): وسنة الله: أحكامه، وأمره، ونهيه. وسنها الله للناس: بينها. وسنة الله سنة أي: بيَّن طريقًا قويمًا؛ قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} (الأحزاب: 38). والسنة: السيرة، حسنة كانت أو قبيحة. قال خالد بن عتبة الهزيلي:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها
فأول راض سنة من يسيرها
وفي التنزيل العزيز: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} (الكهف: 55). وسننتها سنًّا، واست ن نتها أي: سرتها. وسننت لكم سنة أي: فاتبعوها، وفي الحديث الشريف:((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزراهم شيء)).
فأول معنى للسنة هي: الطريقة، وفي (الصحاح) للجوهري: السنن أو السَّنن: الطريقة، يقال: استقام فلان على سنن فلان، ويقال: امض على سننك وسنتك أي: على وجهك. والسنة بمعنى السيرة، هذا كلام الجوهري، وسبق كلام صاحب اللسان، وأيضًا نفس الكلام في (القاموس المحيط)، وبالتالي نستطيع أن نقول: أن السنة في اللغة تأتي بمعنى الطريقة، مثل: قوله سبحانه وتعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الأحزاب: 62). وقال صلى الله عليه وسلم: ((تلك سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني)) هذا حديث أو جزء من حديث رواه الإمام البخاري في كتاب النكاح، باب: الترغيب في النكاح، من حديث أنس رضي الله عنه في قصة: جاء ثلاثة رهط إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي النهاية قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:((تلك سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) أي: هذه طريقتي، فمن رغب عن طريقتي فليس مني.
أيضًا سنة الله: هذا منهج الله، وطريقة الله في الذين خلوا من قبل، ولن يغير الله منهجه الذي كان سائدًا وحاكمًا للسابقين من الأمم.
إذًا، تأتي السنة بمعنى السيرة، وتأتي بمعنى الطريقة، والمعنيان قريبان من بعضها ليس بعيدين تماما، إنما هما قريبان، صاحب اللسان يقول: وكل من ابتدأ أمرًا عمل به قوم بعده، قيل: هو الذي سنه، فكأنها تطلق على أول الشيء، ويقال أيضًا السنة في اللغة بمعنى: اللعب. في حديث رواه البخاري في كتاب الجهاد من قول أبي هرير ة رضي الله عنه بعد أن ذكر الحديث: ((الخيل لثلاثة)) قال: إن فرس المجاهد ليستن في طوله، فيكتب له حسنات. يستن يعني: يلعب ويلهو ويمرح، يعني: معنى الجملة: أن الفرس الذي أعده المجاهد للجهاد به في سبيل الله كل أحواله تصبح في ميزان حسناته حتى في الأوقات
التي يلهو فيها الفرس، ويلعب، ويمرح، ويجري هنا وهناك، ويعدو نشاطًا وفرحًا، وهمة. هذه أيضًا مكتوبة في ميزان حسنات صاحبه ما دام قد أعده للجهاد.
السنة في المعنى الاصطلاحي:
السنة لها معان متعددة عند أهل كل مصطلح، أو عند أهل كل تخصص من تخصصات العلم، فالسنة مثلًا عند الفقهاء -ونحن نعلم أن الفقهاء معنيون ببيان ما يجب على المكلف، وما يحرم عليه، وما يستحب في حقه، وما يكره، وما هو مباح له، والتي يعبر عنها بالأحكام التكليفية الخمسة.
عندنا الواجب، وهو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وعندما أمور شرعية مطلوبة، لكنها قد لاتصل إلى درجة الوجوب في طلبها يعني: مطلوبة. ويستحب للمسلم أن يأتي بها لكنها لم تصل إلى درجة الوجوب. فاصطلح أهل الفقه على تسميتها بالسنة، فإذا كان الواجب هو ما يثاب فاعله، ويعاقب تاركه؛ لأنه حتم عليه أن يفعله، فإن السنة هي ما يثاب فاعلها، ولا يعاقب تاركها. يعني: هي لا تصل إلى درجة الوجوب الذي إذا تركه صاحبه بدون عذر فهو آثم. فهي عند الفقهاء أقل إلزامًا من الفرض.
أما علماء الأصول: فإن بحثهم يتجه إلى مصادر الشريعة، واستمداد الأدلة الشرعية من النصوص، واستنباط الأحكام منها. ومن هنا، كان اهتمامهم بالسنة؛ لأنها المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله تعالى. فهي مصدر من مصادر التشريع عندهم، المصدر الأول: هو كتاب الله تعالى. المصدر الثاني: هو السنة المطهرة.
السنة عند أهل الأصول: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، مما يصلح أن يكون دليلًا لحكم شرعي.
وننتبه إلى أهمية هذا القيد الأخير، مما يصلح أن يكون دليلًا لحكم شرعي. السنة: هي ما جاءنا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خَلقية، أو خُلقية .. إلخ.
هل يعتبر من ذلك الصفات الخلقية والخلقية عند أهل الأصول؟ نحن قلنا: إن أهل الأصول معنيون باستمداد الأدلة من النصوص، فهم يريدون من السنة النصوص التي يمكن أن تستنبط منها أدلة على الأحكام الشرعية. أما إذا كان النص يصف مثلًا خلقا للنبي صلى الله عليه وسلم أو مثلًا يحث على أمر فيه من الفضائل، فقد لا يكون في هذه الحالة دليلًا على حكم شرعي، وبالتالي لا يصبح جزءًا من السنة عند أهل الأصول.
فإذا كان أهل الأصول قد اصطلحوا على أن السنة هي ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير مما يصلح أن يكون دليلًا للحكم الشرعيّ فهم لا ينكرون بقية التعريف الذي اصطلح عليه أهل الحديث، إنما فقط اقتصروا من السنة على الجزء الذي يعنيهم في تخصصهم، وهو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير؛ لأن هذه الأمور الثلاثة في نظرهم هي الأمور التي من الممكن أن يستمد منها الدليل على الحكم الشرعي.
أيضًا هناك استعمالات لكلمة السنة تفهم في سياقها، مثلًا: قد تطلق السنة، ويراد بها الجانب العملي الذي نقل لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الكرام.
أما الحديث: فهو الأخبار التي نقلت لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم. كأن السنة هي الجانب العملي، والحديث هو الإخبار بما جاءنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمثلًا: من الممكن أن تقول: من السنة صيام ثلاثة أيام من كل شهر، من السنة أن يستاك الإنسان عند القيام من نومه، وعند الوضوء، وعند الصلاة، وهكذا السنة في هذه الحالة مقصود بها: الجانب العملي من الإسلام، وقد توضع السنة في مقابلة البدعة، فيقال: هذا من السنة، وهذا من البدعة، والسنة في هذه الحالة معناها: أنها الأمر المتوافق مع أدلة الشرع المستنبطة من القرآن ومن السنة، فهي ليست مقصورة في هذه الحالة على الحديث النبوي، ولا يقصد بها النصوص النبوية فقط، وإنما يقصد بها: الحكم الشرعي المستمد من خلال النصوص الشرعية الواردة في المسألة، سواء من أدلة القرآن الكريم، أو من أدلة السنة المطهرة. فيقال: هذا من السنة، ويقال: هذا من البدعة، فمثلًا: نقول من السنة قص الأظافر، ومن البدعة تركها، أو ترك بعض الأصابع. البدعة في هذه الحالة: هي المخالف لمنهج الشرع، والسنة في هذا السياق: هي ما وافق الشرع المأخوذ من كتاب الله تبارك وتعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولذلك؛ حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بستني وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)) في الحديث الذي رواه الترمذي في كتاب العلم، باب: ما جاء في الأخذ بالسنة، كجزء من حديث طويل نصه من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال:((صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيًا -أي وإن تأمر عليكم عبد حبشي- فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا)) ما هي العصمة من هذا الاختلاف؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم محدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) هنا السنة وضعت في مقابلة محدثات الأمور، أي: البدع. ونبه النبي صلى الله عليه وسلم أن كل محدثة بدعة، وأن كل بدعة ضلالة، فالسنة في هذا السياق هي الموافق لسلوك النبي صلى الله عليه وسلم، ولسلوك الخلفاء الراشدين المهديين من بعده رضي الله عنهم أجمعين-، ولذلك نستطيع في ضوء ذلك أن فهم بعض أقوال أهل العلم، مثل: قول عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله تعالى- وهو واحد من أفذاذ علم الحديث ورجاله، ومن كبار العلماء بالسنة، حينما سئل عن مالك بن أنس، والأوزاعي، وسفيان بن عيينة فقال: الأوزاعي إمام في السنة، وليس بإمام في الحديث، وسفيان إمام في الحديث، وليس بإمام في السنة، ومالك إمام فيهما. وإجابة عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله تعالى- في مثل هذا الاستعمال، إنما يراد بها الجانب العملي في الإسلام.
أما الحديث: فهو الاشتغال بما نقل لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقواله، وأفعاله، وتقريراته. ولذلك في هذا المعنى يقول خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولاة الأمور بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، من عمل بها فهو مهتد، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، إلى آخر ما قال -رحمه الله تعالى ورضي عنه-.
فهذه السياقات تبين أن السنة عند أهل الحديث هي: كل ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو كل ما جاءنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو إقرار، أو صفة خَلقية، أو خلقية، حتى الحركات والسكنات في اليقظة، وفي المنام قبل البعثة أو بعدها.
الجوانب التي تشملها السنة من كل الوجوه:
ما جاءنا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول نسميها: السنة القولية، ونقصد بها: ما قالها النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه من غير أن يكون هذا القول مقترنًا بفعل منه صلى الله عليه وسلم. هذه السنة القولية قد تتضمن فعلًا، لكنه حين قالها لم يفعل، فهي سنة قولية، حتى وإن تضمنت الأمر للأمة بفعل، مثلًا: حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: عودوا المريض هو يأمرنا هنا بفعل بزيارة المريض، حين يقول: فكوا العاني، أي: فكوا الأسير، هذا أمر بفعل، أي: علينا أن نعمل على فكاك الأسير بكل الطرق الممكنة، لكنها سنة قولية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقترن قوله بفعل منه حين قال.
أما السنة الفعلية: فهي التي كان فيها فعل. السنة الفعلية فيها عمل، فيها فعل من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون مع هذا الفعل قول، وقد لا يكون هناك قول مع هذا الفعل، بمعنى: أن الرواية التي تردنا قد تقتصر على الفعل فقط يعني: على حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهي سنة عملية، وقد يقترن مع القول فعل، عندي مثال للفعل الذي لم يقترن بقول، فمثلًا: أمنا عائشة رضي الله عنها تقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، والشمس لم تخرج من حجرتها، يعني: والشمس مرتفعة، وهذا رواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب مواقيت الصلاة، باب: وقت العصر.
هنا حكاية لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وليس معه قول، وأيضًا مثال آخر: ما قاله أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- حكاية عن صفة صلاته صلى الله عليه وسلم، فيقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجز الصلاة، ويكملها يعني: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كاملة وتامة، وفي غير إطالة مرهقة. يوجز، لكن بغير خلل، بغير نقصان يوجز الصلاة، ويكملها.
وهذا حديث رواه الإمام البخاري في كتاب الأذان، باب: من شكى إمامه إذا طول، وفي بعض النسخ أيضًا باب: الإيجاز في الصلاة وإكمالها، وأيضًا من
حديث عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة، فيسجد، ونسجد حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته، يعني: لدرجة أن البعض منها قد لا يجد موضعًا لجبهته من الزحام على السجود. هذا أيضًا رواه الإمام البخاري في كتاب سجود القرآن، باب: من سجد لسجود القارئ. وكلها -كما نرى- حكاية لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
أما السنة الفعلية التي اقترنت بقول، وأيضًا تسمى سنة فعلية؛ لاقترانها بفعل منه صلى الله عليه وسلم: فقد روى البخاري -رحمه الله تعالى- عن جندب بن عبد الله البجلي، قال:((صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، ثم خطب، ثم ذبح وقال: من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)). هنا الرواية تقول صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، ثم خطب، ثم ذبح. هذه حكاية لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الجانب العملي في الحديث، ومن ذلك نضعه تحت السنة العملية، ثم بعد أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله.
وأيضًا في حجة الوداع النبي صلى الله عليه وسلم قام بأداء المناسك أمام أصحابه، مثل: الطواف، مثل: السعي، مثل: الوقوف بعرفة، والرمي، والحلق، أعمال الحج، وبعد أن أداها أمام قال:((لتأخذوا عني مناسككم)) وهذا أيضًا رواه الإمام مسلم في كتاب الحج، باب: يوم النحر، وباب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا
…
الخ.
الأمثلة على هذا كثيرة على الجانب في الجانب العملي أو فعل السنة مع اقترانها بالقول أو بدون اقترانها.