الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصل العلم إلى مرحلة النضج، بل بعد ذلك بقليل ظهرت المصنفات، وحين تظهر المصنفات، فمعنى ذلك أن مراحل الجمع والتدوين قد مرت، بعد عمر بن عبد العزيز بقليل ظهر (الموطأ) والأجزاء الحديثية التي كتبها عبد الله بن المبارك المولود سنة 118 وعبد الرحمن بن مهدي أيضًا، وغيرهم كثير وكثير، الليث بن سعد المولود سنة 97 كتب حتى في تاريخ الرجال؛ يعني ليس في الحديث فقط.
إذن عمر بن عبد العزيز قد اعتمد على مدونات تملأ أرجاء العالم الإسلامي، وأراد أن يجمعها تحت مظلة الدولة حفاظًا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحديث المتواتر
وننتقل إلى شبهة أخرى أثارها أيضًا أعداء السنة، فنتكلم عن المتواتر والآحاد.
نبدأ فنقول: إن علماء السنة لهم تقسيمات متعددة للحديث، باعتبارات متعددة، لهم تقسيم للحديث باعتبار صحته وضعفه، هذا حديث صحيح أو غير صحيح. التقسيمات بهذا الاعتبار تنقسم إلى ثلاثة أقسام: حديث صحيح، وحديث حسن، وحديث ضعيف.
ومعرفة كل قسم بتفصيلاته وبأقسامه موجود في كتب المصطلح، وأعتقد أن السامعين الكرام من طلاب العلم قد تلقوها مرارًا في مواد متعددة، وعلى رأسها مادة مصطلح أو علوم الحديث.
أيضًا هناك تقسيم للحديث باعتبار القبول والرد، والقبول يشمل الصحيح والحسن، والمردود يشمل الضعيف بكل أنواعه، وبكل درجاته، وهناك تقسيمات أخرى،
الذي يعنينا أن هناك تقسيمًا للأحاديث باعتبار عدد الرواة في كل حلقة، نحن نعلم أن البخاري مثلًا -رحمه الله تعالى- وكل كتب السنة أيًّا كان منهجها في تنظيم الأحاديث وتبويبها تروي الأحاديث بسندها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
البخاري مثلًا، المتوفى سنة 256 والمولود سنة 194 يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد، بداهة نعلم أن البخاري -رحمه الله تعالى- لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم لأن بينهما قرابة القرنين من الزمان؛ قرنان إلا عشرين سنة أو أقل، بالدقة يعني 17 سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات في أول سنة 11 هجرية، والبخاري ولد في سنة 194، فإذا أضفنا أنه لم يدرك مثلًا إلا مع نهاية القرن الثاني سنة 200 مثلًا، كأقل سن للتمييز عند المحدثين، فنجد أن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم نجد قرنين إلا أحد عشر عامًا. هذه الفترة كيف غطيت؟ غطيت بالأسانيد، البخاري له شيخ، وهذا الشيخ له شيخ، وهذا الشيخ له شيخ إلى أن يصل الأمر إلى الصحابة، ثم إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
علماء الحديث -هذا كلام قاله ابن حجر- يعني يقولون: إن القرن يغطيه ثلاثة أجيال في الأعم الأغلب، قد يقل العدد عن هذا وقد يكثر؛ بمعنى أن عدد الرواة بين البخاري ومسلم ست أو سبعة، على الأعم الأغلب؛ لأن البخاري مثلًا ربما صنف كتابه بعد ربع القرن الثالث الهجري، فيكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ستة أو سبعة أو خمسة حول هذا العدد.
قد يعلو الإسناد، الإسناد العالي، وهو الذي يقل فيه عدد الرواة بين صاحب الكتاب، وبين النبي صلى الله عليه وسلم هناك ثلاثيات للبخاري؛ يعني بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة، وأفردها العلماء بالتأليف أسموها ثلاثيات البخاري، هذه نادرة ولافتة للنظر، وهي حقيقة، لكنها لم تحدث في كل الأحاديث.
المهم أنني أريد أن أقول: إن ما بين صاحب الكتاب -مثلًا كالبخاري الذي
اخترناه كأنموذج وكمثال- وبين النبي صلى الله عليه وسلم رجال، هؤلاء الرجال نسميهم سند الحديث، أو نسميهم رجال الحديث، أو نسميهم رواة الحديث، أو نسميهم طريق الحديث، أو نسميهم إسناد الحديث، كل هذه تسميات يقبلها أهل العلم، فالإسناد عبارة عن الرجال الذين رووا الحديث بين آخر راو، وهو صاحب الكتاب، وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه أيضًا أمور علمية درسها الطلاب في أكثر من مادة أيضًا في المصطلح، وفي غيره، وفي دراسة الأسانيد، وفي التخريج إلى آخره.
لو أنني مثلًا آخذ الحديث الأول عند البخاري -رحمه الله تعالى- حديث "إنما الأعمال بالنيات" سأجد فيه ستة من الرواة بين البخاري وبين النبي صلى الله عليه وسلم البخاري تلقى الحديث عن شيخه الحميدي عبد الله بن الزبير، المتوفى سنة 219 هجرية؛ يعني هذا شيخه، وهو شيخ مكي، ويقول ابن حجر في شرحه للحديث: إنه أجل شيوخه المكيين. ولأن الوحي نزل في مكة، فبدأ البخاري.
ننظر إلى تنظيم علمائنا لكتبهم، كل شيء فيها مقصود؛ يعني لماذا وضع هذا الحديث في بداية صحيحه؟ قالوا: إنه يريد أن يثبت أنه ألف كتابه مخلصًا لله "إنما الأعمال بالنيات" هذا الحديث الأول، سمعه البخاري من الحميدي، والحميدي من سفيان بن عيينة، هذا رقم 2، وسفيان بن عيينة من يحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن سعيد الأنصاري من محمد بن إبراهيم التيمي، ومحمد بن إبراهيم التيمي سمعه من علقمة بن وقاص الليثي، وعلقمة بن وقاص من عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- وعمر بن الخطاب من النبي صلى الله عليه وسلم.
إذن غير البخاري وغير النبي صلى الله عليه وسلم ستة، هؤلاء كلهم رجال الإسناد، أو إسناد الحديث، أو سند الحديث أو طريق الحديث، أو رواة الحديث إلى آخره أيًّا كانت التسمية، كل واحد منهم يسمى حلقة من حلقات الإسناد.
الحميدي حلقة، سفيان بن عيينة حلقة، يحيى بن سعيد الأنصاري حلقة، محمد بن إبراهيم التيمي حلقة، علقمة بن وقاص حلقة، عمر بن الخطاب حلقة، ما عدد الرواة في كل حلقة؟ هذا هو موضوع التواتر والآحاد، يعدون الرواة في كل حلقة من حلقات الإسناد، ويقسمون الحديث على أساسها إلى متواتر وإلى آحاد.
إذا أردنا أن نعرف المتواتر والآحاد من حيث اللغة فنقول:
التواتر في اللغة مجيء الواحد إثر الواحد بفترة بينهما، وذلك كما في قوله تعالى:{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} (المؤمنون: 44) تترى أي: متتابعين رسولًا بعد رسول يعني بينهما فترة؛ يعني كل رسول يأتي بعد فترة من الرسول الذي قبله، بعد مدة.
ذكر بعض اللغويين أن التواتر هو مجيء الشيء بعد الشيء، بعضه في إثر بعض وترًا وترًا أو فردًا فردًا، في إثر بعض، ما الفرق بين هذا التعريف وبين الذي قبله؟ يعني التعريفان يشتركان في أمر، وهو أن التواتر مجيء الشيء بعد الشيء، لكن الاختلاف بينهما: هل لا بد من التراخي بين مجيئهما؟ أو أن التراخي غير مطلوب؟
مجيء الشيء بعد الشيء مباشرة، أم بفترة؟ اللغويون تعددت مناهجهم في هذا، صاحب (القاموس) في مادة وتر يقول: والتواتر التتابع أو مع فترات. فكأنه جمع بين أمرين؛ يعني هذا يجوز أن يطلق عليه التواتر، وأيضًا هذا، إذا كان هناك تتابع أو مع فترات بينهما.
صاحب (الصحاح) الجوهري في مادة وتر أيضًا اعتبر أن التراخي شرط في التواتر حيث قال هذا تعبيره في (الصحاح): "والمواترة المتابعة، ولا تكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينهما فترة، وإلا فهي مداركة ومواصلة".
يعني صاحب (القاموس) اعتبر الأمرين جائزين، التواتر مجيء الشيء بعد
الشيء، سواء مع التتابع أو مع فترة بينهما، اشترط التراخي، وسمى مجيء الشيء بعد الشيء بفترة التواتر، فإن لم تكن هناك فترة سماها مداركة ومواصلة "وإلا فهي مداركة ومواصلة" يعني ليست تواترًا.
الخلاصة بعد هذا أن التواتر هو التتابع مع التراخي أو بدون التراخي على الرأيين معًا، والأول أقوى نظرًا لما قاله صاحب (الصحاح) الأول الذي نقصده الذي هو بعد التراخي. ولعل مما يساعد على هذه القوة، قول الله تبارك وتعالى:{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} (المؤمنون: 44) أي متتابعين رسولًا بعد رسول، بينهما فترة، فلم تكن مدد قريبة في بعض الأحيان، هذا من حيث اللغة.
أما من حيث الاصطلاح، فالتواتر له تعريفات متعددة، وسنذكر له تعريفًا يجمع في طياته الشروط التي اشترطوها في التواتر.
ابن حجر -رحمه الله تعالى- يقول في (نزهة النظر) عن المتواتر: "فإذا جمع هذه الشروط الأربعة، وهي عدد كثير، وأحالت العادة تواطؤهم على الكذب، ورووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء، وكان مستند انتهائهم الحس، ويضاف إلى ذلك أن يصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه، فهذا هو التواتر".
هذا تعبير وتعريف ابن حجر -رحمه الله تعالى- في (نزهة النظر)، أما الخطيب البغدادي فيعرفه -رحمه الله تعالى- في كفايته فيقول: "فأما خبر التواتر، فهو ما أخبر به القوم الذين بلغ عددهم حدًّا يعلم عند مشاهدتهم بمستقر العادة أن اتفاق الكذب منهم محال، وأن التواطؤ منهم في مقدار الوقت الذي انتشر الخبر عنهم متعذر، وأن ما أخبروا عنه لا يجوز دخول اللبس والشبهة في مثله، وأن أسباب
القهر والغلبة والأمور الداعية إلى الكذب منتفية عنهم، فمتى تواتر الخبر عن قوم هذه سبيلهم قطع على صدقه، وأوجب وقوع العلم ضرورة". هذا في (الكفاية) وهو يتكلم عن المتواتر والآحاد.
نلاحظ أن الخطيب رحمه الله في تعريفه يركز على عدد الرواة وصفاتهم، ولم يتعرض لبقية الشروط التي ذكرها ابن حجر، وإن كنا نستطيع أن نعتبره قد ضمنها ضمنيًّا بعض الشيء في تعريفه.
أما ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- في مقدمته، فيعرف الحديث المتواتر بأنه عبارة عن "الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، ولا بد في إسناده من استمرار هذا الشرط في رواته من أوله إلى منتهاه" هذا كلامه.
ومهما يكن من أمر عبارات علمائنا الأجلاء في تعريف التواتر، فإننا نستطيع أن نصوغ منها تعريفًا يحوي في طياته الشروط التي وضعوها للمتواتر، فنقول عنه -أي في تعريف المتواتر-: هو الذي يرويه جمع يستحيل في العقل تواطؤهم على الكذب، أو وقوعه منهم اتفاقًا من غير قصد عن مثلهم من أول السند إلى منتهاه، ويكون منتهى خبرهم الحس.
هذا التعريف يحمل في طياته الشروط التي لا بد من توافرها في الحديث المتواتر، والتي أشار إليها ابن حجر في الكلام الذي نقلناه عنه فيما سبق.
أول هذه الشروط العدد الكثير، بمعنى أن يجتمع في كل حلقة من حلقات الإسناد عدد كثير من الرواة، وقد ذهبوا في تحديد هذا العدد مذاهب شتى تبعًا لاعتبارات متعددة.
حتى نفهم هذا الشرط الأول نحن نعلم جميعًا من خلال دراساتنا المتعددة في مواد كثيرة كالمصطلح وغيره أن الإسناد: عبارة عن الرجال الذين نقلوا لنا الحديث،
مثلًا البخاري يروي عن شيخه، وشيخه يروي عن شيخه إلى أن يصل الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
الرجال الذين بين البخاري -رحمه الله تعالى- وبين النبي صلى الله عليه وسلم نسميهم إسناد الحديث، نسميهم سند الحديث، نسميهم طريق الحديث، نسميهم رجال الحديث، نسميهم رواة الحديث، أيًّا كان، فهو عبارة عن سلسلة من الإسناد تصل ما بين آخر راو للحديث وما بين النبي صلى الله عليه وسلم.
هؤلاء هم الإسناد، وكل واحد منهم يسمى حلقة من حلقات الإسناد، إذا روى البخاري لنا مثلًا حديث "إنما الأعمال بالنيات" وهو أول حديث عنده في صحيحه مثلًا عن شيخه الحميدي، فالبخاري حلقة، والحميدي حلقة، والحميدي يرويه عن سفيان بن عيينة، هذه حلقة أخرى، وسفيان بن عيينة يرويه عن يحيى بن سعيد الأنصاري، هذه حلقة، ويحيى بن سعيد الأنصاري يرويه عن محمد بن إبراهيم التيمي، هذه حلقة، ومحمد بن إبراهيم التيمي يرويه عن علقمة بن وقاص الليثي، هذه حلقة، وعلقمة بن وقاص الليثي يرويه عن الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- ثم عمر -رضي الله تعالى عنه- يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
من البخاري إلى عمر رضي الله عنهم جميعًا- كل واحد من الرواة يسمى حلقة من حلقات الإسناد، في المتواتر نشترط أن يكون في كل حلقة من حلقات الإسناد يعني عدد كبير، لا بد من توافر هذا العدد في كل حلقة من حلقات الإسناد، وهذا هو الشرط الأول الذي نقول أن يرويه جمع كثير، يجتمع في كل حلقة من حلقات الإسناد.
هذا العدد الكثير ما أقوال العلماء فيه؟ تعددت مذاهبهم، كل واحد نظر باعتبار معين فقال قولًا معينًا، هم يبحثون عن شيء، بالإضافة إلى أن هذا العدد أولًا لا يمكن
أن يتفق على الكذب؛ يعني يحدث بينهم اتفاق، ولا حتى يمكن أن يقع منهم من قبيل المصادفة، هذا وذاك يستحيل، كيف نصل إلى هذا العدد؟
هناك من قال: هذا العدد يكون أربعة قياسًا على شهود الزنا؛ اختاروا شهود الزنا بالذات لأنه أكبر الأعداد الذي تثبت به الحدود، القتل يثبت بشاهدين، القصاص يثبت بشاهدين، وقضايا الأموال أيضًا تثبت بشاهدين، أما الزنا بالذات فلا بد فيه من أربعة، وهذا ثابت بنص القرآن الكريم.
القاضي أبو بكر الباقلاني -رحمه الله تعالى- لم يقنع بهذا العدد في إثبات التواتر، بل قال:"وأتوقف في الخمسة". بعض من قال إن العدد أربعة، يؤيد قوله بأن الخلفاء الأربعة الأئمة الأجلاء العظام أفضل الأمة بعد نبيها: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي لو قالوا قولًا وأجمعوا عليه، فالقول قولهم.
يعني إذن كونهم أربعة يكفي، وأيضًا أو الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب الأربعة لو اجتمعوا على شيء فإن القول قولهم والرأي رأيهم، ومنهم من قال خمسة قياسًا على اللعان، اللعان الرجل الذي يلاعن امرأته يقسم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، وفي المرة الخامس أي في القسم الخامس يستنزل لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
ومنهم من اشترط سبعة؛ يعني راعى أن هذا العدد قد اشتمل على العدد المطلوب في كل أنواع الشهادات، فيه الأربعة، وفيه الاثنان، وفيه الواحد؛ ويعني إذن العدد 7 جمع المطلوب في إثبات الشهادات كلها.
منهم من اعتبر أقل العدد للتواتر عشرة، وذلك مثل قوله تعالى:{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (البقرة: 196) ولأنها أول جموع الكثرة، والسيوطي -رحمه الله تعالى- اختار ذلك في كتابه الذي جمع فيه الأحاديث المتواترة، وأسماه (الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة) وقال فيه:"كل حديث رواه عشرة من الصحابة، فهو متواتر عندنا معشر أهل الحديث".
وهناك من قال: إن المطلوب اثنا عشر مثل نقباء بني إسرائيل {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} (المائدة: 12) وقيل: عشرون، كما في قوله تعالى:{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (الأنفال: 65) وقيل: أربعون؛ لأن عندها يبعث الأنبياء، وسن الأربعين هي اكتمال العقل والأشد عند الإنسان. وقيل: سبعون، مثل من اختارهم موسى عليه السلام لميقات ربه، إلى آخره. وهناك من قال ثلاثمائة مثل أهل بدر.
الصواب من كل ذلك إن شاء الله أننا نضم إلى العدد مسألة أخرى، وهو الشرط الثاني، وهو أن يتحقق الاطمئنان؛ يعني أن يطمئن القلب والعقل معًا إلى أن هذا الجمع يستحيل أن يتواطأ على الكذب لما نعرفه من صفات؛ يعني كيف نقول إنه يستحيل أن يتفقوا على الكذب؟
من معرفتنا لأحوالهم وديانتهم وصدقهم وكذا، وأيضًا من معرفتنا لمضمون الخبر الذي رووه ونقلوه لنا؛ يعني اعتبارات كثيرة من الممكن أن تدخل في اختبار صدقهم وأمانتهم؛ لنتأكد أنهم لا يمكن أبدًا أن يجمعوا على كذب، ولا حتى يقع الكذب بينهم اتفاقًا من قبيل المصادفة كما يقال.
ولذلك نقول: إنه متى توفر هذا الاطمئنان مع العدد، فقد حدث التواتر، قد يختلف الأمر من واقعة إلى واقعة، ومن موقف إلى موقف، ومن خبر إلى خبر، رب خبر نحتاج في تأكيده إلى عشرات، ورب خبر نتأكد من خلاله من أربعة أو خمسة، فمتى توفر الأمران معًا: العدد مع اطمئنان القلب والعقل إلى صدقهم، وإلى عدالتهم، وإلى طهارتهم، وإلى استحالة اتفاقهم على الكذب، وإلى عدم وقوع الكذب منهم، ولو اتفاقًا بأن يكونوا مثلًا ليسوا من أهل بلد واحدة أو ليسوا أصحاب مصلحة واحدة، والخبر يتعلق بمصلحتهم مثلًا، إلى آخره.
لكن لا بأس أيضًا من أن نعتبر أن كلام السيوطي في هذا الأمر يعتبر أيضًا قيدًا أو رقمًا نرجع إليه، وهو أن متى اجتمع عشرة من الصحابة تحقق التواتر، فكأنهم اطمأنوا إلى رقم العشرة الذي يحدث به التواتر.
يقول الكتاني نقلًا عن كتاب (ظفر الأماني): "والتحقيق الذي ذهب إليه جمع من المحدثين هو أنه لا يشترط للتواتر عدد، وإنما العبرة بحصول العلم القطعي" أي الاطمئنان الذي نقول عنه "فإن رواه جمع غفير، ولا يحصل العلم به لا يكون متواترًا، وإن رواه جمع قليل وحصل العلم الضروري، يكون متواترًا البتة" هذا كلام صاحب يعني الكتاني في (نظم المتناثر) الذي جمع فيه أيضًا الأحاديث المتواترة في مقدمة كتابه.
إذن من الممكن أن نعتبر الرقم الذي ذكره السيوطي -رحمه الله تعالى- في هذا معيارًا نرجع إليه في اعتبار التواتر، وأيضًا من الممكن أن نقول العدد متى اطمأن القلب والعقل إلى صدقهم تحقق التواتر.
أنا أطمئن مثلًا أنه إذا توافر عشرة من الصحابة أصبح الخبر متواترًا، وبالمناسبة فإن هذا هو الذي سار عليه عملهم؛ كل العلماء الذين يجمعون الأحاديث المتواترة ساروا على هذا الأمر، التواتر عادة يبحث في ناحية الصحابي، متى يرويه عشرة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة طرق سالمة اطمأنوا إلى التواتر؛ لأن بعد الصحابي يرويه عنه جمع، وكل واحد من هذا الجمع يرويه عنه جمع، وتتبع ذلك قد يشق جدًّا، وقد يكون مستحيلًا في بعض الأحيان.
يعني مثلًا قيل في بعض الأقوال: إن حديث "إنما الأعمال بالنيات" سار بالإفراد في حلقات كثيرة؛ يعني: انفرد برواة من طريق صحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، وانفرد عن عمر علقمة، وانفرد عن علقمة محمد بن إبراهيم التيمي،
وانفرد عن محمد بن إبراهيم التيمي يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم سمعه من يحيى بن سعيد الأنصاري رواة كثيرون جدًّا عدد كبير، قيل في بعض الروايات: إنهم مائتان. وقيل: سبعمائة. إلى آخره.
لكن ما دام نجد أن الحديث قد رواه عشرة من الصحابة اطمأننا إلى تواتره، وكما قلت هذا الذي سار عليه عملهم في أي كتاب، لو رجعنا إلى أي كتاب من الكتب التي جمعت الأحاديث المتواترة، وأنا سأذكر بعضها بإذن الله تبارك وتعالى في أثناء كلامنا عن المتواتر والآحاد كفائدة نرجع إليها، فقد تحقق التواتر بإذن الله تبارك وتعالى.
لما تكلموا عن الأحاديث المتواترة، مثلًا ابن حجر وهو يشرح حديث الحوض يتكلم عن تواتره يقول:"رواه في الصحيحين اثنان وعشرون صحابيًّا" في الصحيحين فقط "وجمعت طرقه فوصلت إلى خمسين صحابي، وبلغني أن بعض المتأخرين اشتغل بجمعه فوصل بهم إلى ثمانين".
وكما قلت: إذا رجعنا إلى أي كتاب من كتب التواتر، فنجدهم يعدون المتواتر متى توفر عشرة من الصحابة على روايته.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.