الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى الاصطلاحي: نقد المتن معناه: تمييز المقبول منه من المردود في ضوء قواعد النّقد المُعتبرة التي اصطلح عليها أئمة الحديث ونقاده، ليحتكموا إليها في تمييز المتن الصحيح من المتن غير الصحيح، وكذلك الإسناد الصحيح من الإسناد غير الصحيح.
إذن المتن هو: ألْفَاظ الأَحَادِيث التِي تَشْتَمِلُ على معانيه، ما المقصود بالمتن في الحديث؟ هو: الألفاظ التي نقلها لنا الرواة منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم التي تشتمل على المعاني التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم هذا هو المتن، ألفاظ الحديث التي تشتمل على المعاني، والمُراد بنقده تمييز المقبول منه من المردود على ضوء القواعد التي اصطلح عليها أهل العلم ليحتكموا إليها في تمييز المتن الصحيح من غيره.
السند: عبارة عن الرواة الذين نقلوا لنا الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بتسلسل يعني: راو عن راو يعني، مثلًا لو قلنا: إنّ البُخَارِيّ يروي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وبينه وبين النّبي صلى الله عليه وسلم إسناد رجال، كل تلميذ تلقى الحديث عن شيخه وأداه إلى تلميذه؛ فهؤلاء هم رجال الإسناد، أو يُعبر عنهم بإسناد الحديث أو برجال الحديث، أو بطريق الحديث، أي تعبير من هذا.
الضرورات التي تحتم على أهل العلم توجيه العناية إلى نقلة الأخبار
أستطيع أنْ أقُولَ بإيجَازٍ: هُناك ضرورات ثلاث حتمت على أهل العلم أن يوجهوا عنايةً فائقةً إلى نقلة الأخبار؛ أي خبر كان فضلًا عن أن يكون هذا الخبر هو حديثًا مرويًّا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الضرورة العَقلية تحتم الاهتمام، لماذا؟ لأنّ واقِع النّاسِ يبين أن كثيرًا من العلاقات بينهم تقوم على الأخبار المتداولة المنقولة، في بيعهم، في شرائهم، في تَنَاكُحِهم، في صُلحهم، في خصامهم، في أكلهم، كل شيء يعتمد على الأخبار، على الأقوال.
مثلًا: فُلان يريد شراء هذا الأمر، فلان يريد بيع هذا الأمر، فلان يقول عنك كذا وكذا؛ فلان يسبك ويقول كذا إلى آخره، معاملات الناس أكثر من تسعين في المائة منها أخبار الباقي يعتمد على أنه رأى الأمر بنفسه أو درسه بنفسه أو قرأه إلى آخره، وأظن أنّ أيَ واحدٍ يَرْصُد الواقع يتأكد من هذه الحقيقة، وكم من علاقات تدمرت بسبب خبر كاذب نقل، كم من شريكين كانا أمينين متعاونين مُتحابين فنُقل خبر لأحدهما عن الآخر أفسد الود بينهما، وفسدت الشركة، كم من علاقة أسرية انفصمت بسبب خبر جاء من هنا أو من هناك، كم من صداقة قطعت إلى آخره.
وكل واحد من الناس له تجارب في هذا الصدد كثيرة تبين أهمية الأخبار وخطورتها، بل إنّ العلاقات بين الدول تتوقف على الرواية، وعلى نقل الأخبار، وآية الحجرات التي نعتبرها من الأدلة الرئيسة في ضرورة الاهتمام بالأخبار وبرواتها:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} (الحجرات: 6). يعني كادت أن تشتعل حرب بين المسلمين وبين غيرهم؛ لمجرد أن الناقل للخبر تصور أن القوم الذين خرجوا للقائه كأنهم خارجون لقتاله، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فكادت أن تشتعل الحرب، يعني: إلى هذا الحد تصل خطورة الأخبار أنها تتسبب في إشعال الحروب ليس بين الأفراد فحسب، بل بين الدول أيضًا.
إذن هذه ضرورة عقلية، ما دام العقل يرى هذا الخطر الداهم، وهذا الأثر البليغ للأخبار؛ فلا بد من التحقق منها ومن رواتها، الذي ينقل هذا الخبر ما هدفه؟ وما أخلاقه؟ وهل يكذب أو لا يكذب؟
…
إلى آخره.
أيضًا الضرورة الواقعية هي متممة للضرورة العقلية، ما دُمنا نَرَى أنّ الوَاقِع يَتوقف في كثير من جوانبه في بيعه وشرائه وحِلِّه وتِرحاله، وبُغضه وحُبّه،
وعَدَاوته وموالاته، كل ذلك يتوقف على الأخبار؛ إذن الواقع أيضًا يحتم الاهتمام بالأخبار ورواتها.
إذن، أيضًا الضرورة الشرعية، يعني: حينَ يَكُونُ الأمْرُ مُتعلقًا بالأخبار الشرعية، يَزْدَادُ الأمر خطورة، نحن قلنا في مناسبات كثيرة إننا حين نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ما بعد هذا القول دين يجب اتباعه؛ فلا بد من التّحري أضيف إلى الضرورة العقلية وإلى الضرورة الواقعية ضرورة شرعية، وهي أن الأخبار المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم تمثل الدين الذي يجب علينا اتباعه؛ فهي إما تبين أمر الوارد في القرآن الكريم، أو تشرع أمرًا لم يرد له ذكر في القرآن الكريم وفي كِلْتَا الحَالتَينِ هي تتضمن أحكامًا هَامّة، وخَطيرة للناس في عقائدهم وفي عباداتهم؛ فلا بد من التحري فيها.
إذنْ، الاهْتِمَامُ بالسَّنَد الذي هو عبارة عن نقلة الأخبار اهتمام ضروري جدًّا، تُحَتّمه الضرورة العقلية، وتحتمه الضرورة الواقعية وتحتمه الضرورة الشرعية، حين تجد قومًا يهتمون بالأسانيد وبنقلة الأخبار ينبغي عليك أن تحمد هذا، وأن تُثني على هذا، وأن ترى هذا الصنيع العظيم من الأمة التي تُوَثِّقُ أخبارها ولا تقبلها من أي راو خصوصًَا إذا كان هذا الخبر المنقول جاءنا عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي يجب علينا اتباع أمره، واجتناب نواهيه؛ فلا يكون هذا مذمّة، ولا يقال: إن هذا عيب بل هذه محمدة عظيمة جدًّا، تدل على وعي الأمة وانتباهها، وإدراكها لقيمة مصادرها الشرعية، وأنها -يعني: هذه المصادر- تأخذ منها أحكامها الشرعية، في عقيدتها، وفي عباداتها، وفي معاملاتها
…
إلى آخره.
إن من أسباب اتهام المُستشرقين للمُسلمين العِظام بهذا الاتهام؛ لأنهم ليست لهم أسانيد إلى متونهم، لا يَعرفون إلا المتن، ولذلك -كما ذكرت قبل- يعني: أنا أدرك أو أحس
أنهم يحسدوننا على النعم التي اجتبانا الله بها، ولا تُوجد عِندهم، وذَكرتُ رُبّما في الدرس السابق، أو الذي قبله أنّ المُستشرقين من أين أحاديثهم عن أنبيائهم التي وردت إليهم بالأسانيد المتصلة كما حدث مع نبينا صلى الله عليه وسلم؟! لا يوجد عندهم؛ لذلك يحسدوننا فيعبرون عن هذا الحسد بإثارة الشبهات والاهتمامات.
إذن، الاهتمام بالسند هو الأصل وهو مسألة طبيعية جدًّا، لا ينبغي لأحد أن يُماري فيها؛ لأنه كما ذكرت الضرورات الشرعية تُحَتّم هذا، والضرورات العقلية والضرورات الواقعية التي أشرت إليها.
يقول الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتاب (منهج النقد عند المحدثين نشأته وتاريخه) نقلًا عن الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- وهذا الكلام موجود في (الرسالة) في الفقرة 399 يقول الشافعي: ولا يستدل على أكثر صدق الحديث وكذبه إلا بصدق المخبر وكذبه، إلّا في الخاص القليل من الحديث، وذلك أن يُستدل على الصدق والكذب فيه بأن يُحَدّثَ المُحَدّث بما لا يَجُوز أن يكون مثله، أو ما يُخالفه وما هو أثبت وأكثر دلالة في الصدق منه.
يَقْصِدُ أن يقول: أكثر ما يستدل على صدق الحديث إنما بصدق المخبر وكذبه، وفي غير ذلك من الممكن أن ننظر في النص نفسه -في المتن- كما نقول عند المحدثين، هذا الإمام الشافعي يبين أنّ الاهتمام بالأسانيد وبنقلة الأخبار هو الأصل، والدكتور الأعظمي يوضح المسألة فيقول: إنّه لا يَشُكُّ عَاقِلٌ في وجود النبي صلى الله عليه وسلم من الناحية التاريخية، وأنه عاش على هذه الأرض، ومن طبائع البشر الأكل والشرب والنوم وما إلى ذلك.
فإذا ورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام كان يأكل بيمينه، ويشرب في ثلاثة أنفاس، ويدعو بكذا عند نومه، وكذا عند استيقاظه؛ فكُلّ هذا ممكن عقلًا؛ كَمَا أنّ ضِدّه
مُمكن، جائز لرجل أن يأكل بيمينه أو بيساره، ويُمكن له أن يَشرب في نَفَس واحد أو نفسين، كذلك لا يستحيل دعاؤه، لكنه ليس هناك شيء يجبره على الدُّعاء.
أيضًا كُلُّ ذلك مِنَ النَّاحِية العَقْلية مُمكن، تدعو أو لا تدعو، تأكل أو لا تأكل، تأكل باليمين أو باليسار هذا في الميزان العقلي، ما الذي يُغلب جانبًا على آخر؟ ما الذي يُرَجِّحُ صدق رواية على أخرى؟ ما الذي يجعلنا نقول: إنّ الأكل باليمين هو الأصل الشرعي؟ لأنّ الروايات وردت بذلك؛ اعتمادًا على صدق الذين نقلوها لنا، وإلا من غير الصدق هذا تستوي كل الدلالات، إذا كان العقل هو الذي يعمل فقط يستوي هذا وذاك، في كثير من الأخبار هذا مثال توضيحي يبينه الدُّكتور الأعظمي؛ ليؤكد أن الاهتمام بالأسانيد أمر طبيعي، بل هو الأول.
وهذه المقولة التي قالها الدكتور الأعظمي وقالها غيره الدكتور محمد لقمان السلفي في اهتمام المحدثين بنقد الحديث أيضًا يبين أنّ السند هو الأصل، هو يتكلم عن فصل عقده، ونظرًا لأنّ العَقْلَ يُساوي بين الأخبار المنقولة من ناحية الصدق والكذب، إنّما يميل الأمر ناحية واحدة من اثنتين بِناءً على ما نثق به من أحوال المخبرين.
واحد أخبرني أنّ محمدًا سافر، والآخر أخبرني أنّ محمدًا لم يسافر، كيف سنفصل بين الروايتين؟ في ميزان العقل سواء؛ لكنّ الترجيح سيكون على أساس صفات المُخبر؛ قطعًا أي فطرة سليمة، وأي عقلٍ ناضِج سيقول: نأخذ بخبر الأصدق منهما والأعدل منهما، هذا أمر لا يختلف عليه اثنان إلا إذا كنا نحب الجدال لذات الجدال، أمّا إذا كنا نبحث عن الحق لنَتمَسّك به فإنّ البَدَاهَة والفِطْرَة -كما قُلت- والعقل يقولون: نقدم خبر أهل الصدق على أهل الكذب.