الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس التاسع
(شبهة حول تدوين السنة (3) - الحديث المتواتر)
استكمال الأدلة على تدوين السنة في عصر النبوة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزوجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد:
فنستطيع أن نقرر بعد كل هذا الاستعراض أن العصر النبوي الكريم لم يكد ينتهي إلا وقد شرع في تدوين السنة، بل بفضل الله عز وجل تم تدوين جزء منها في صحائف وكتب نستطيع أن نقرر أن هذه حقيقة علمية توصل إليها كثير من الباحثين.
يقول أستاذنا الشيخ سيد صقر -رحمه الله تعالى- في أول سطور تحقيقه لكتاب (فتح الباري) طبعة الأهرام التي أشرنا إليها قبل: "من الحقائق المطوية في الكتب أن الأحاديث النبوية قد دونت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياة صحابته، فكان لبعض الصحابة كتب تشتمل على ما سمعوا من أحاديث كتبوها بأيديهم، وكتبها عنهم من سمعها منهم، وقد شارك الرسول صلى الله عليه وسلم في تدوين سنته بإملائه على كتّابه ما أملى، من كتب في الفرائض وغيرها، أو أرسلها إلى من رأى إرسالها إليهم؛ لتكون تبصرة وتذكرة فيما افترض من ألوان أو فيما افترض من ألوان الفرائض أو أدبهم به من سنن الأدب" هذا كلام الشيخ في أول تحقيق للكتاب.
يقول الدكتور محمد عجاج الخطيب، وله رسالته التي حصل بها على درجة التخصص في "الماجستير" كانت في هذا الموضوع من كلية دار العلوم، وأصبحت مرجعًا هامًا متداولًا في الأسواق الآن، جزاه الله تعالى خيرًا عنها، عن قضية تدوين السنة بالذات، عنوان الرسالة "السنة قبل التدوين" يقول في تعليقه على صحيفة همام:"ولهذه الصحيفة أهمية تاريخية في تدوين الحديث الشريف؛ لأنها حجة قاطعة، ودليل ساطع على أن الحديث النبوي كان قد دون في عصر مبكر، وتصحح الخطأ الشائع أن الحديث لم يدون إلا في أوائل القرن الثاني الهجري".
ويقول الدكتور صبحي الصالح -رحمه الله تعالى-: - بعد أن استعرض الأدلة على كتابة السنة منذ مرحلة مبكرة، يقول: "ليس علينا إذن أن ننتظر عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز حتى نسمع للمرة الأولى كما هو الشائع بشيء اسمه تدوين الحديث أو محاولة لتدوينه.
وليس علينا أن ننتظر العصر الحاضر؛ لنعترف بتدوين الحديث في عصر مبكر جريًا وراء بعض المستشرقين كـ"جولد تسيهر" و"شبرنجر" لأن كتبنا ووثائقنا وأخبارنا التاريخية لا تدع مجالًا للشك في تحقيق تقييد الحديث في عصر النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وليس على رأس المائة الثانية للهجرة، كما يمن علينا هذان المستشرقان، وهي تنطق فوق كل ذلك بصدق جميع الوقائع والأحوال والسير والتصرفات، التي تنطوي عليها الأحاديث الصحاح والحسان في كتب السنة جميعًا لا في بعضها دون بعض، كما يظن دوزي" ودوزي اسم مستشرق.
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل اهتمام الصحابة أبدًا بدراسة السنة، ولا بتدوينها، بل ظلوا على ذلك إن لم يكونوا قد زادوا من جهودهم، بل بالقطع نستطيع أن نقول: إن الصحابة قد زادوا من جهودهم لأن مسئولية الحفاظ على الدين بمصارده من قرآن وسنة قد انتقلت إليهم، الحفاظ والتوضيح معًا، وتوضيح الدين للناس وخصوصًا تلك الأمم التي دخلت في الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أصبح معلقًا بهم وعلى مسئوليتهم؛ لأن الوحي قد انقطع، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد بين ظهرانيهم.
وهناك محفزات أخرى كانت لهم تدعوهم إلى مضاعفة الجهد في سبيل نشر السنة وحفظها والعمل على تقييدها، كما سنذكره بعد قليل.
إذن من هذا الاستعراض نستطيع أن نقول: إن السنة كما ذكر ذلك الذين قرأنا
من كلامهم، الشيخ سيد صقر، والشيخ محمد عجاج الخطيب، والشيخ صبحي صالح، وغيرهم كثير كثير، هذه قضية تعرض لها كثير من الباحثين المحدَثين، والحمد لله ثبت بالأدلة أن السنة بدئ في تدوينها منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم كما قلنا وبإذن منه.
إذن لا حاجة بعد ذلك أن نتوقف في تأكيد هذه الحقيقة العلمية بعدما ثبتت بالأدلة القاطعة.
إذن الذين يثيرون الشبهات، ويثيرون الغبار حول تدوين السنة، ويعددون الشبهات حولها فيقولون مثلًا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن بكتابة السنة أو لم يكتب السنة، حتى هم لا يتكلمون الآن عن قضية تأخير تدوينها، ويشككون فيها هناك شبهة التي نرد عليها أنها تأخر تدوينها، وأنها طوال القرن الأول كله الهجري كله لم تكن مكتوبة، كما ذكرنا، فنحن رددنا على ذلك.
هم يثيرون شبهًا أكثر من هذا، تتعلق أيضًا بتدوين السنة يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بكتابة السنة، إذن هو لا يريد أن يكون هناك شيء آخر مع القرآن، هو انتقل من التشكيك في تدوين السنة إلى التشكيك في حجية السنة ذاتها، لو كانت السنة حجة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتدوينها منذ أول الدعوة، وهذا أمر رددنا عليه بالأدلة، يعني قضية حجية السنة نحن أفردنا لها بعض المحاضرات، وأثبتناها كقضية قرآنية وعقدية وإيمانية. لكن ما يتعلق بتدوين السنة.
قلت منذ قليل: إن الصحابة كان لهم محفزات أخرى لمزيد من الاهتمام بالسنة، منها الأحاديث الكثيرة يعني حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغ الشاهد الغائب، وهذا حديث رواه الإمام البخاري في خطب الوداع، قال:((ليبلغ الشاهد الغائب)) ليبلغ: فعل مضارع اقترن بلام الأمر، فيفيد الوجوب، التبليغ واجب على كل قادر عليه، تبليغ القرآن، تبليغ السنة ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل، ولا حرج)) ((نضر الله امرأ سمع منا حديثًا)) وقد ذكرنا هذه الأحاديث بتخريجها قبل ذلك.
كل هذه أوامر نبوية، تدل على ضرورة الاهتمام بالسنة أيناقش أحد بعد ذلك في أن عدم كتابة السنة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أنها ليست حجة؟ نحن رددنا على هذه الشبهة من وجهين: الأول: إثبات أن السنة دونت بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، وأن كثيرًا من الصحابة كتبوا.
ونرد على الجانب الثاني من الشبهة بأن النبي صلى الله عليه وسلم لو كانت حجة لكتبها؟ ها هو قد كتبها، وها نحن أثبتنا كتابتها، وأيضًا نرد بأكثر من هذا بكل الأحاديث التي تدل على أنه أمرهم وحثهم على ضرورة العناية بالسنة المطهرة، هذه محفزات النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها لهم، ((نضر الله امرأ سمع مقالتي وأداها كما سمعها، ورب مبلغ أوعى من سامع)) وفي رواية ((فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) هذه الرواية رواها الإمام الترمذي في كتاب العلم، باب الحث على تبليغ السماع.
ورواه أبو داود أيضًا في كتاب العلم، باب نشر العلم، ورواه ابن ماجه في المقدمة، ورواه الدارمي في المقدمة باب الاقتداء بالعلماء، كل ذلك يعني النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بنضارة الوجه لمن أدى حديثًا واحدًا، فكيف بمن قام بدور كبير في صيانة السنة، ولم الاهتمام بالسنة إذا لم تكن حجة؟ كما يقول هؤلاء، ولم الحث على روايتها؟ ولم الأمر بأن يبلغها الشاهد الذي سمع للغائب الذي لم يسمع؟ سواء كان ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو بعد حياته صلى الله عليه وسلم ((ليبلغ الشاهد الغائب)) ليست مقصورة على حياة النبي صلى الله عليه وسلم نعم هو قالها، وهو في حجة الوداع معهم، لكن الأمر إلى يوم القيامة.
كل من علم حديثًا وحفظه وفهمه، وتلقاه عن أشياخه، عليه أن ينقله إلى الأمة من بعده؛ لأن كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو جزء من هذا الدين، وهذه قضية أخرى.
أيضًا النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية لا يحث على التبليغ فقط، يحث على فهم الأحاديث والعمل بما فيها من أحكام، وإلا فما فائدة جملة ((فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) لماذا يوصي النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بالسنة، يعني بسنته هو وبسنة الخلفاء الراشدين المهديين، والعض عليها بالنواجذ عند الاختلاف وغير الاختلاف ((فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)) وكنا خرجنا هذا الحديث قبل ذلك.
أنا لا أحب أن أستعمل أوصافًا شديدة في حق المخالفين، واحد من الذين يجادلون، النبي صلى الله عليه وسلم يقول:((قد تركتكم على المحجة البيضاء أو على البيضاء ليلها كنهارها)) ويجوز ليلها كنهارها على أنها بدل من البيضاء ((لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)) هذا جزء من حديث طويل، أخرجه ابن ماجه في سنته في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، ورواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة، باب ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم "تركتكم على مثل البيضاء، وتحذيره إياهم بأن يتغيروا عما يتركهم عليه".
والله هناك خوف على من يزيغ عن السنة أن يكون من الهالكين، نسأل الله تعالى السلامة لنا ولكل المسلمين، وأن يرد كل شارد إلى الحق ردًّا جميلًا، وأن يعيده إليه عودًا حميدًا، وأن يبصر الأمة بما عليه سلفها الصالح من اعتقاد حجية السنة، وأنها كالقرآن الكريم في التشريع، وأنها المصدر الثاني، وأننا نستمد منها أدلتنا كما نستمد من القرآن الكريم تمامًا.
وأيضًا سبق لنا أن ذكرنا الحديث الذي رواه الحاكم وغيره ((إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو وسنتي)) كما في بعض الروايات.