الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نقد المتن، والقواعد الضابطة لنقده
ننتقل الآن إلى نقد المتن.
أقول: منذ عصر الصحابة أنفسهم والاهتمام بنقد المتن، أود أن أوضح أن المثال المضروب لمجرد توضيح أصل مسألة بصرف النظر عن الصواب مع أي جهة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يروي الحديث في الصحيحين أيضًا:((إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه)). أمنا عائشة ردت وقالت: "إن هذا كان في يهودية تعذب وهم يبكون عليها، أمنا عائشة تقول: "إن الميت ليُعذّب، وإنّ أهْلَهُ ليَبْكُون عليه"؛ نلتفت إلى الفرق بين الروايتين:"إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" أي: بسبب بكائه عليه، لكن الرواية الأخرى تقول: إن الميت يعذب في نفس الوقت الذي يبكي عليه أهله ولو كانوا يعلمون الحقيقة لما بكوا عليه، وإنما عملوا على تخفيف العناء عنه، والعذاب مثلًا بالدعاء له
…
إلخ.
أمنا عائشة هذا مما انتقدته هو هنا نقد للمتن واستدلت على ذلك بالقرآن الكريم، قالت: أين هذا من قول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) أو {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (النجم: 38) يعني: رأت أن عذاب الميت ببكاء أهله عليه إنما هو تعذيب بسبب ذنوب آخرين هو ليس مسئولًا عنها، سيتعارض مع الآية.
هذا النّقد يعني أمنا عائشة ليس الحق معها في هذا النقد هو هنا المثال المضروب، ما هو المثال المضروب؟ أن حقه قد حدث نقد للمتن في ضوء القرآن الكريم، يعني هي رأت الرواية التي رواها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما تتعارض مع القرآن الكريم بصرف النظر -كما قلت- في أول الكلام الصواب مع مَن، والخطأ مع مَن؟ المهم أنه قد حدث نقد للمتن.
نقد المتن بدأ من الصحابة الحديث بروايتيه، صحيح الرواية التي انتقدتها أمنا
عائشة صحيحة، وقد شرحها العلماء. وقد قال العلماء: إنه يُعَذّب بِبُكاء أهله عليه، إذا كان قد علم بذلك ورضي به، أو إذا كان قد وصى به، خصوصًا أنّ ذلك كان من عادات أهل الجاهلية، المفاخرة وتعداد المآثر للأموات، أما إذا عُلم بأنه وصى بعدم ذلك، أو سَجّل بأنه لا يرضى هذا فهذا لا فإذن الحديث له محمل صحيح في معناه فلا يُرَدّ.
لكنْ يَبْقَى المِثَالُ المَضروب هو أنه -كما قُلت- مِثالٌ على أن حركة النقد للمتن وليس الإسناد، من ناحية الإسناد جيل الصحابة كلهم عدول، ونحن بعد في جيل الصحابة لم تتعدد طبقات الإسناد، ما زلنا مع الطبقة الأولى التي هي أجل الطبقات، وأعظم الطبقات وهي طبقة الصحابة بإجماع الأمة؛ فلم يكن يُكَذِّبُ بعضهم بعضًا إنما الاعتراض كان على متن الحديث.
لما أبو هريرة روى حديث: ((مَن تبع جنازة حتى تدفن فله قيراط، ومَن تبعها حتى يصلى عليها فلها قيراطان)) كأنه استعظم الأجر، فسأل أمنا عائشة، فصدقت أبا هريرة، فقال بعد ذلك:"لقد فرطنا في قراريط كثيرة".
أيضًا المَرأة التي طَلّقها زوجها ثلاثًا هل لها سُكنى ولها نفقة، فظاهر القرآن:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (الطلاق: 6).
فاطمة بنت قيس قالت: طلقني زوجي ثلاثًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا سكنى لك ولا نفقة)). فقال عمر رضي الله عنه قال: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة". لم يطعن في عدالتها، صحابية جليلة؛ لعلها حفظت أو نسيت، هنا نقد للمتن أيضًا.
بل إنه بدأً من عصر التابعين بدأ وضع القواعد الضابطة لنقد المتن: يعني: من عصر التابعين وخصوصًا العصر المُتأخر للتابعين بعد أن بدأ الوضع يظهر هم
يقسمون التابعين إلى ثلاث طبقات: "كبار التابعين، أوساط التابعين، وصغار التابعين" كبار التابعين تكاد تكون حلقةً متممةً للصحابة في عدالتهم، وفي نقائهم، وفي صدقهم، وأوساط التابعين يقتربون من هذا.
وأيضًا التّابِعُون كَكُل فهم من الأجيال الممدوحة؛ لكن مع أواخر التابعين الذين امتد عصرهم إلى سنة مائة وخمسين هجرية، ورُبّما إلى بعد ذلك على خلاف في انتهاء عصر التابعين متى يكون؟ المشهور أنه سنة 150 وهناك من قال بعد ذلك بناء على أن أحد التابعين مات سنة 180 أو 181. وهذه قضية عالجها السيوطي في (تدريب الراوي) وهو يتكلم عن التابعين لمن أراد أن يرجع.
المهم: مع نهاية عصر التابعين يعني اتسعت الدولة، وبدأ الوضع وبدأت الخلافات المذهبية، فأصبحتْ الحَاجَةُ إلى تمييز الحديث سندًا ومتنًا، من الحاجات المُلِحّة في واقع الأمة، ومن الضرورات التي حَتّمت دِراسة السند ودراسة المتن معًا، وبدأت القواعد الضابطة تتبلور في مَن الذين نقبل روايتهم كالرجال، ومن الذين لا نقبل روايتهم.
قال ابن مهدي: إني لأدعو اللهَ لقومٍ قَدْ تَركْتُ حَديثَهم.
والمهم أنّ نَقْدَ المتن بدأ من عصر الصحابة ذاته، وتطور إلى أن تبلور تقريبًا مع التابعين وتابعي التابعين؛ إلى أن أخذ الشكل النهائي في القواعد التي يحتكم إليها في نقد المتن.
أيضًا نَدخل الآن إلى عصر الضوابط التي وضعوها لتبين اهتمامهم بالمتن كما اهتموا بالسند؛ من بين هذه الضوابط: التفرقة بين حديث الثقة وحديث الصدوق. ما هو الأساس الذي تمت عليه هذه التفرقة؟
نحن قلنا: إنّ الثِّقَة هو مَن جمع بين العدالة والضبط. العدل: هو المسلم البالغ العاقل الخالي من الفسق ومن خوارم المروءة، وهذا أمر يدرس في المصطلح.
تجتمع له العدالة تأكدنا من إسلامه وبلوغه وعقله، وخلوه من الفسق ومن خوارم المروءة، فأصبح عدلًا. هل العدل ثقة؟ لا لا بُدّ من الضبط، الضبط هو أن يؤدي الحديث كما تلقاه بدون زيادة أو نقصان، وبتغيير أو تبديل. يؤدي الحديث كما تلقاه من شيخه بدون زيادة أو نقصان.
هذا تعريف الضبط، كيف يعرف؟ المسألة اقتضتني أن أتكلم عن معنى الصدوق والضبط؛ لأبين أن هذه القاعدة مما تتصل بضبط المتن؛ ردًّا على الذين يقولون: إن العناية اتجهت للسند فقط، لم ينتبهوا إلى هذه القواعد، الثقة مَن جمع بين العدالة والضبط، هناك أناس ثبتت لهم العدالة، الرجل في قمة الصلاح لكن لم يكن ضبطه دقيقًا، إن خف ضبطه قليلًا أصبح صدوقًا نزَل عن منزلة الثقة إلى الصدوق، ويصبح حديثه حسنًا بعد أن كان صحيحًا لو كان تام الضبط.
ولذلك الحديث الحسن يختلف عن الحديث الصحيح في هذه المسألة فقط، شروطه هي واحدة:
"اتصال السند، عدالة الرواة، ضبط الرواة، خلو الحديث من الشذوذ، خلو الحديث من العلل القادحة". غير ما في الأمر أن الضبط في الحديث الحسن قد نزل قليلًا بدرجة محتملة.
كيف عرفنا أن هذا نزل من رتبة الثقة إلى الصدوق؟ خفة الضبط أو كثرته ليست لها معايير "ترمومترية" فيه أدق من المعايير ليس هناك ترمومتر، إنما الترمومتر هو استقراء أحاديثه، أخطأ في كم، وهذا الاستقراء يتم بمقارنة روايات غيره. نفس الحديث هذا ورد من طرق أخرى؛ لماذا خالفهم؟ إذا كثرت مخالفته قد يصل إلى درجة الضعف الذي لا يقبل، وهناك من أنواع خلل الضبط الذي ترد الرواية بسببه؛ فحين يُفَرِّقُون بين حديث الثقة، وحديث الصدوق، فهذا تفريق تم على
أساس المتن، على أساس ولو كثرت مخالفته يصبح ضعيف الضبط ينتقل حديثه إلى درجة الضعيف.
حين تنظر في هذه القاعدة ولا تنتبه إلى دلالتها على نقد المتن، وتراها أنها في ضوء نقد السند فقط، فالذي لا يُسْتَوعبُ هو المتهم وليست القاعدة، وليس جُهد علماء الأمة، الذينَ وَضَعُوا هذه المصطلحات لضبط المتن ولضبط السند، ولذلك في ضوء هذا أقول: تأتي عبارة ابن مهدي التي ذكرتها، وقلت: إنه يقول: إني لأدعو الله لقوم قد تركت حديثهم.
وهناك عبارات أخرى عن يحيى بن معين: "إنا لنطعن على رجال ربما حطوا رواحلهم في الجنة".
ورواية أخرى: "إنا لنطعن على رجال، وإنا لنرجو شفاعتهم أمام الله يوم القيامة". هذه العبارات ما مدلولها؟ مدلولها أن هؤلاء الرجال ثبتت لهم العدالة؛ لكنّ الضّبْطَ قد اختل، وهو أمر متعلق بالمتن، لم يخدعنا صلاحهم، ولم ننجرف بعواطفنا وبحبنا وبتقديرنا لصلاحهم إلى أن ننسى الرواية والمتن؛ فنُحِبُّهم لعدالتهم، لكنَّنَا نخشى على الرواية، ولذلك قالوا في وصفهم:"لهم صلاحهم وعلى الرواية غفلتهم، أو خفة ضبطهم".
لذلك هم يردون حديثهم في نفس الوقت الذين يرجون شفاعتهم أمام الله يوم القيامة، في نفس الوقت الذي يعتقدون فيه أنه ربما قد حطوا رواحلهم في الجنة، في نفس الوقت الذين يدعون الله تعالى لهم لصلاحهم لكنهم يتركون حديثهم.
أرجو أن أكون قد وفقت في بيان علاقة هذه القاعدة بنقد المتن حتى لا يتقول متقول أن علماء الحديث قد اهتموا بدراسة الإسناد دون المتن.
قاعدة أخرى تفرقتهم بين قولهم: هذا حديث صحيح أو حسن وبين قولهم: هذا حديث صحيح الإسناد، هذه أيضًا تتعلق بالمتن، حين تقول: هذا حديث صحيح الإسناد، فمعناه أنك قد اطمأننت إلى صحة الإسناد من اتصال السند، ومن عدالة الرواة، ومن ضبط الرواة، لكن هل يلزم من صحة الإسناد أن يكون المتن صحيحًا؟ لا، أنت لم تنظر في المتن، هل خلَا الحديث من الشذوذ أو العلة القادحة؟ وكثير من صور الشذوذ تكون متعلقة بالمتن، وكثير من صور العلة القادحة تكون متعلقة بالمتن أيضًا كما سنبينه.
إذن حين يضعون قاعدةً يفرقون بمقتضاها بين قولهم: هذا صحيح الإسناد، وبين قولهم: هذا حديث صحيح، فإنما ذلك من العناية بالمتن، والذي لا يفهم هو حر، ينظر إلى نفسه، لكن القاعدة واضحة، لماذا لم يقولوا: إنه حين يحكم على الحديث بأنه صحيح الإسناد تلزم صحة المتن؟ لا، وإن كان في الأعم الأغلب العلاقة بينهما واضحة، لكن أيضًا يوجد حالات قد يسلم الإسناد، ومع ذلك تبقى في المتن علة تمنع القول بصحته -كما سنبينه- لكن القاعدة الآن التي أشير إليها هي ترد على فِرية عناية المحدثين بالإسناد دون المتن.
هذا وللحديث بقية.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.