الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأدلة من القرآن على حجية السنة
وفي هذا الاستعراض الذي سنستعرضه في تلك الآيات لن أقف مع الآيات الضمنية التي تكلمت ضمنا عن وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم مثل: قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} (البقرة: 285)، أي: آمنوا بما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به؛ لأنه قد ينازع البعض في وضوح هذا الدليل على وجوب اتباع السنة؛ ولذلك سأقتصر في الاستدلال -إغلاقا للنقاش غير المجدي وغير النافع- على الآيات التي كانت قاطعة الدلالة واضحة في حجيتها في ضرورة اتباع السنة المطهرة، وسنتعرض للقرآن الكريم بترتيب سوره من أول البقرة إلى أن ننتهي إلى آخر القرآن، وأيضا قد أذكر بعض الآيات وأترك بعضها؛ لأن المراد هو إثبات أنها قضية قرآنية خطيرة جدا اهتم القرآن الكريم بها حتى نستطيع أن ندافع عن ديننا، وأن غلق الباب أمام من يحاول أن يشوش علينا دعائم ديننا وأسس عقيدتنا:
إذا جئت إلى سورة آل عمران مثلًا، وبدأت بها مثلًا قول الله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران: 130 - 132).
دعوة طاعة الله ورسوله، وقبل ذلك في سورة آل عمران:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31).
يعني: علامة حب المؤمنين لربهم هي اتباعه نبيه صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل هو الذي وضع تلك العلامة في القرآن الكريم، لم يأت بها أحد من الأمة من عند نفسه تعصبًا
للسنة، أو ما شاكل ذلك. كلا إنما الله عز وجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، قل للأمة جميعا إلى يوم القيامة: إن كنتم تحبون الله، فعلامة حبكم لربكم أن تتبعوني، أي: تتبعوا نبيه صلى الله عليه وسلم؛ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} ، إذن اتباع السنة المطهرة من علامات حب المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى. والجزاء قد أخذوه ببقية الآية:{يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران: 31).
ثم جاءت الآية من سورة آل عمران أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران: 130: 132) لعلكم ترحمون: لعل تفيد الرجاء، لعلكم ترحمون إذا اتبعتم، أو إذا أطعتم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأهل العلم علمونا أن الرجاء من الله تعالى محقق إذا تحقق فينا ما علق الله عليه الرجاء. لعلكم ترحمون: هذا رجاء، أسلوب رجاء استعمله الله تعالى في القرآن الكريم، إذا هو أمر محقق شريطة أن يتحقق فينا الشرط المعلق عليه هذا الرجاء في الله، فالله عز وجل جعل الفلاح لمن أطاع الله ورسوله. إذا ما دمنا نطيع الله ورسوله، فإن هذه الرجاء سيتحقق بإذن الله تبارك وتعالى.
وأيضا في سورة النساء، وفيها مجموعة من الآيات القرآنية الكثيرة جدًّا، بل أكاد أن أسميها: بسورة السنة مع تسميتها بسورة النساء؛ لأن هناك آيات كثيرة في السورة المباركة تكلمت عن السنة، وبأساليب تؤكد ضرورة اتباعها، فمثلًا: يحدثنا الله تعالى في سورة النساء في آية المواريث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (النساء: 11)، وأحكام المواريث أحكام شرعية يذكرها الله تعالى، ثم يقول:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} تلك اسم إشارة إلى ما سبق ذكره من أحكام المواريث هذا ما حده الله لعباده، والله عز وجل في آيات كثيرة سمى التشريعات
الإلهية حدودًا، في الطلاق {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1)، في الظهار إلخ، وقد مدح المؤمنون بأنهم حافظون لحدود الله في سورة التوبة مثلًا:{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} (التوبة: 112)، أي: القائمون على ما حده الله لهم من تشريعات، يمتثلون لما أمر، ويبتعدون عما نهى.
هذا من خصائص الأمة المؤمنة، والمهم أن الله عز وجل في سورة النساء بعد ذكر آيات المواريث قال:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (النساء: 13: 14).
وأنا أقسم الآيات التي أتكلم عنها إلى آيات أمرت بالاتباع، وآيات حذرت عن أو من المخالفة. أنا الآن سأستطرد وأسير مع الآيات التي أمرت بالاتباع، وأشير إلى بعض دلالتها الهامة في تأكيد هذه المسألة، وبيان وجوب اتباع السنة. إذا انتقلت إلى آية أخرى في سورة النساء فيأتي قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59).
أولًا: الآية صدرت أو تصدرت بالنداء بصفة الإيمان "يا أيها الذين آمنوا"، وهذا النداء خطير، وقد تكرر كثيرًا في القرآن الكريم، والله عز وجل قد نادى خلقه بصفات متعددة، "يا بني آدم" جاءت في القرآن خمس مرات، أربع مرات في سورة الأعراف، ومرة في سورة يس، "يا بني آدم"، ونادى الناس جميعًا في أكثر من آية:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (البقرة: 21)،
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (الحج: 1) ..... الخ. ونادى الرسل: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (المؤمنون: 51)، ونادى النبي صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّ هَ} (الأحزاب: 1)، وآيات كثيرة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق: 1)، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (التحريم: 1)، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (المائدة: 67) .... الخ، آيات ونداءات كثيرة للرسول صلى الله عليه وسلم للناس جميعًا لبني آدم، بل إن الله نادى الكفار في قول تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التحريم: 7).
أقصد أن أقول: إن كل نداء من هذه النداءات مقصود بمعنى حين ينادي الله الناس، فهو يقصد الناس جميعا، وحين ينادي يا أيها الذين آمنوا فهو يقصد أهل الإيمان، ليس هذا فحسب، بل ويبين لهم أن ما يناديهم من أجله، أي ما سيذكره بعد هذه النداء، هو من مطلوبات الإيمان، فعليكم أن تحققوا هذه الأوامر الإلهية وإلا لا تستحقون أن تنادوا بوصف الإيمان. متى نستحق أن ننادى بـ"يا أيها الذين آمنوا"؟ إذا كنا سنطبق ما بعد النداء.
ونحن لو استعراضنا الآيات الكريمة التي صدرت بهذا النداء "يا أيها الذين آمنوا" سنجد ما بعدها من مطلوبات الإيمان، كل نداء بـ"يا أيها الذين آمنوا" طلب الله منا بعدها مطلوبات هي تعد من شعب الإيمان ومن أموره.
وأنت تقرأ القرآن الكريم حاول أن تتأكد من هذه القاعدة، كل آية تمر عليك فيها "يا أيها الذين آمنوا" انظر ما بعدها ستجد فيها مطلوبات وأوامر إيمانية عليك أن تقوم بها:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُو} (آل عمران: 200)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} (الأنفال: 27)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الحجرات: 1)
…
الخ الخ.
إذن، أول دلالة في الآية النداء بوصف الإيمان، ومعناها أو خلاصته: أننا لا نستحق أن ننادى بهذا الوصف إلا إذا طبقنا ما بعد النداء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء: 59)، هذه أول دلالة في الآية.
الدلالة الثانية: تكرار الفعل "أطيعوا" مع الله ومع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم تكراره مع أولي الأمر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59)، وماذا يفيد هذا التكرار في القضية التي معنا الآن، والتي نحن بصددها؟ يفيد كثيرًا معناها: أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مطلوبة تماما مثل طاعة الله تعالى، فهي طاعة مساوية لطاعة الله تعالى، أما أولي الأمر فليس لهم طاعة مستقلة، إنما طاعتنا لهم مرتبطة بطاعتهم هم لله ولرسوله، فإن هم أطاعوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وجبت علينا طاعتهم.
لذلك كرر الفعل "أطيعوا" مع الله تعالى، ومع الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكرر الفعل أطيعوا مع أولي الأمر، هذه دلالة ثانية تبين لنا أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلوبة تماما مثل طاعتنا لله تعالى.
الدلالة الثالثة في الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (النساء: 59) علق الإيمان على رد الأمر إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، إن كنتم تؤمنون ماذا تفعلون؟ ردوا كل أموركم، كل أحكام حياتكم ردوها إلى الله تعالى وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} أي: عند التنازع حين يكون الأمر واضحًا أمامكم، وتفهمون الكتاب والسنة طبقوه، أما إذا تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس أمرًا اختياريًّا، بل هو أمر وجوبي، بل إن الإيمان علق عليه {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ} تفعلون ذلك، معنى ذلك: إننا إذا لم نفعل ذلك فلا يصح أن نطمع في
الإيمان؛ ولذلك إنها قضية إيمانية، فهذه بعض الأدلة على أنها قضية إيمانية، كما أستدل على أنها قضية قرآنية، وستأتي أيضا أدلة أخرى على كونها من الإيمان؛ لأن الله تعالى علق الإيمان عليها:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (النساء: 59).
إذا من يرد الأمر إلى غير الله تعالى عند التنازع وإلى غير رسوله صلى الله عليه وسلم عليه أن يخاف على إيمانه، وعليه أن يعمل على تنقية إيمانه مما قد يعلق به من هذه المفاهيم الخاطئة التي تشوش عليه إيمانه، وتكاد تفسد عليه عقيدته والعياذ بالله.
ثم الآيات بعد هذه الآيات تتكلم عن فريقين من الناس، أو عن فريق يزعم أنه آمن بالله، وآمن بالنبي، وآمن بما أنزل إليه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} (النساء: 60) هذا الزعم ماذا يقتضي؟ يقتضي أن يستجيبوا، مادمتم تقولون أنكم آمنتم بالنبي صلى الله عليه وسلم وآمنتم بما أنزل إليه فما علامة هذا الإيمان؟ أن تلتزموا بما أمركم به، انظر إلى الآيات {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} (النساء: 60) رغم زعمهم أنهم أمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك.
الطاغوت هنا هو كل حكم سوى حكم الله تعالى، أيا كان حكم البشر، حكم الشيطان، حكم الهوى، حكم النفس، كل ذلك طاغوت أمرنا ألا نستجيب له، بل إن الكفر بالطاغوت هو جزء من الإيمان بالله، أن نتبرأ من الطاغوت مع إيماننا بالله {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (البقرة: 256)، بل نقول: إنها قضية الرسل {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36)، والنبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة عند البخاري ومسلم في كتاب الإيمان، وهو يعلم معاذ بن جبل رضي الله عنه الإيمان؛
يقول: ((أن يعبد الله ويكفر بما سواه))، لا نعبد الله فقط، بل لابد أن نكفر بما سواه، فهؤلاء قالوا، والقرآن الكريم سماه زعما؛ لأن الزعم مطية الكذب، وإن كان يستعمل في الصدق كما يقون سيبويه، لكن هذا السياق في القرآن نسير معه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} (النساء: 60)، تحاكمهم إلى الطاغوت معارض لقولهم: آمنا بك وبما أنزل إليك، بل العلاقة الصحيحة بالطاغوت هو الكفر به، وننظر إلى الآية {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (النساء: 60).
نحن بمقتضى إيماننا، وبمقتضى حرصنا على هداية الخلق جميعا سنفترض فيمن يقول ذلك أو يفعل هذا يزعم الإيمان، ثم يحتكم إلى غير منهج الله تعالى، ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم سنقول: إنه يفعل ذلك عن جهل ليس عن قصد، فستكون المهمة الأولى أن نعلمه قبل أن نحكم عليه بإيمان أو كفر؛ ولذلك انظر إلى القرآن الكريم وعظمته في التربية:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} (النساء: 61) يعني: افترضنا فيهم أنه قد غابت عنهم هذا الحقيقة الإيمانية، وإن الأمرين متعارضان، وهما قضية أن تقول: نؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل إليه، ثم تحتكم إلى الطاغوت هذا لا يجوز إيمانا ولا عقيدة.
لكن سنفترض أنهم لا يعلمون ذلك سنعلمهم على لسان من قال الله تعالى عنهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} سواء كان العلماء، أو الأمراء أو ما شاكل ذلك {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} بماذا سماهم الله تعالى؟ {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (النساء: 61)، سماهم منافقين رغم زعمهم كما ذكر القرآن الكريم أنهم أمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبل، هذا
الزعم لم يشفع لهم حين وضع على محك الاختبار العملي، حين امتحنوا في هذا الكلام الذي قالوه: إنهم آمنوا بالله، وآمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمنوا بما أنزل إليه، مقتضى هذا الإيمان: أن يستجيبوا لما جاء به، وأن يتمثلوا لحكمه وأوامره ونواهيه، لكنهم أردوا أن يحتكموا إلى الطاغوت، ولم يستجيبوا لمن حاول أن يبصرهم ويبين لهم خطورة المسألة، وأن ذلك متعارض مع الإيمان؛ ولذلك في نهاية الأمر سماهم القرآن الكريم منافقين، خلع عنهم وصف الإيمان، وكما قلنا: لم يشفع لهم زعمهم بأنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبل.
ونستمر مع الآيات في سورة النساء، وبعد هذه الآية بآيات قليلة {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإذا اللَّهِ} (النساء: 64) قضية خطيرة جدًّا؛ الأصل في الرسل أن يطاعوا وهي هنا قضية أو صياغة خبرية، الله تعالى يخبر أن الأصل في الرسل أن يطاعوا، لكن المراد بها الإنشاء، يعني: هي أمر من الله تعالى أن نطيع الرسل، ليس في حق نبينا صلى الله عليه وسلم فحسب، بل هي قضية في شأن الأنبياء جميعًا، كل الرسل لابد أن يطاعوا؛ لأنهم إنما جاءوا لخير البشر، ولهداية البشر، ولإنقاذ البشر من الهلكة، فلابد أن يطاعوا، أو يجب أن يطاعوا، الذين يخالفون سيتحملون نتيجة مخالفتهم.
إذا هي قاعدة إيمانية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإذا اللَّهِ} (النساء: 64) جاء القرآن الكريم بها في صيغة الخبر رغم أن الأمر بها أو أن المراد بها إنشاء، بمعنى: أنها صيغة خبرية؛ ليبين الله لنا كأن الخلق عرفوا مهمة الأنبياء، وأنهم جاءوا لهدايتهم ولصالحهم فاستجابوا لهم، لكنا المراد هو الإنشاء، يعني: استجيبوا لكل الرسل إذا جاءوكم؛ لأنهم إنما جاءوا لخيركم، ومصلحتكم في الدنيا والآخرة.
ثم بعد ذلك {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (النساء: 64)، النبي صلى الله عليه وسلم يطلب لهم المغفرة؛ لأنهم استجابوا لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك آية تنخلع لها القلوب حقيقة، وهي من أهم وأخطر الآيات في القرآن الكريم؛ في الدلالة على وجوب التمسك بالسنة المطهرة، وذلك في قوله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65).
ووجه الخطورة في هذه المسألة، أو في هذه الآية: أنها فيها جملة من الأمور الهامة جدًّا التي جعلت طاعة النبي أساسًا رئيسًا من أسس الإيمان، هنا أسلوب قسم {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} ، أسلوب القسم في اللغة العربية مكون من أربعة أركان: مقسم، ومقسم به، ومقسم عليه، وهي القضية التي يقسم عليها المقسم، وأداة القسم.
أطبق الأركان الأربعة على هذه الآية {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} الله تعالى هو المقسم، وهذه في حد ذاتها من وجوه الخطورة في الآية كيف؟ الله تعالى يقسم إذا الأمر خطير، والأخطر أن يقسم بذاته؛ للدلالة على أهمية الأمر أكثر وأكثر؛ لأن الله تبارك وتعالى أقسم بكثير من مخلوقاته في القرآن الكريم، والله عز وجل يقسم بما يشاء في القرآن الكريم، لكننا نحن كبشر لا نقسم بغير الله، لا نحلف بغير الله، والأحاديث:((من كان حالفا فيحلف بالله أو فليصمت))، ((ومن حلف بغير الله فقد أشرك))، وهذه فائدة استطرادية، لكن أنا مع دلالة الآية في دلالتها على وجوب أهمية اتباع السنة، وأنها قضية إيمانية، الله تعالى يقسم، ويقسم بذاته الشريفة.
قلت: إن الله تعالى يقسم بما يشاء من مخلوقاته، ومرات قليلة ينتقل فيها الله تعالى من القسم بمخلوقاته إلى القسم بذاته؛ حين تكون القضية خطيرة، بل إنه الأندر
والأندر أن الله تعالى هو الذي يتولى القسم بنفسه، يعني مثلًا: هناك في آيات الله تعالى قال لنبيه: {زَع َمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} (التغابن: 7) الخ، هنا قسم بالله لكن المقسم يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم:{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} يطلب منه أن يحلف لهم، وأن يؤكد لهم البعث، وأنه أمر حتمي سيقع قطعًا، لكن الله تعالى هو المقسم، وهو المقسم به، وهذا من وجوه الخطورة في المسألة، أو في الآية، ومن أعظم الدلالات على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: الله تعالى يقول لكم: أنا أقسم، وأقسم بذاتي الشريفة.
ما هي القضية المقسم عليها في الآية {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} (النساء: 65)؟ ينفي الإٍيمان هنا، لا هنا نافية، ولا تصلح أن تكون ناهية، لا من حيث المعنى، ولا من حيث الإعراب، من حيث المعنى عن أي شيئا ينهانا هنا لا تصلح، ومن حيث الإعراب: لا هنا جاء الفعل بعدها مرفوعا بثبوت النون، {لَا يُؤْمِنُونَ} ؛ لأنه من الأفعال الخمسة، إذا فـ"لا" هنا نافية، وليست ناهية؛ لأنها لو كانت ناهية لجزم الفعل بعدها بحذف النون كانت "لا يؤمنوا"، إنما هنا الله عز وجل ينفي الإيمان إذن قضية أقسم الله تعالى عليها، وأقسم بذاته الشريفة، فالمقسم هو الله تعالى، والمقسم به أيضا هو الله تعالى.
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} (النساء: 65) القضية المقسم عليها نفي الإيمان إلى أن يتحقق فيهم ما يطلبه الله تعالى منهم. {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} إذا لن يكون هناك إيمان إلا إذا حكمنا الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما شجر بيننا من مسائل، وقام بيننا من أمور، حتى يحكموك يا محمد صلى الله عليه وسلم يا رسول الله {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ، بل إن الله تبارك وتعالى في هذه الآية لم يكتفِ بمجرد التحكيم، بل اشترط علينا
الرضا بحكم النبي صلى الله عليه وسلم {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا}
وهذا من جملة المطلوب، يعني ليس المطلوب أن نحكم فحسب، بل المطلوب أن نحكم وأن نرضى {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا} (النساء: 65) ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقًا ولا رفضًا ولا إيباء، ولا تمنعا، هذا لا يجوز، أي معنى من هذه المعاني لا يجوز مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع حكمه صلى الله عليه وسلم. {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65)، عليهم أن يرضوا به، وأن يخضعوا له خضوعا كاملًا، وأن يستلموا له استلاما تاما، ولن يكون هناك إيمانا بغير ذلك، هذا مضمون الآية، الله تعالى يقسم أن إيمان المؤمنين لن يكون إلا إذا حكموا النبي صلى الله عليه وسلم وليس المطلوب تحكيمه فحسب، بل المطلوب أيضا أن يرضوا بهذا الحكم النبوي، وأن يخضعوا له في استسلام كامل.
قد يسأل سائل هنا: ولماذا اشترط الله تعالى علينا الرضا بالحكم، ولم يكتف منا بمجرد التطبيق فحسب؟ لأن عدم الرضا بأي حكم، إنما هو فرع عن اعتقادك بأنه حكم جائر مثلا، يعني: متى لا يرضى الإنسان بالحكم؟ حين يتصور أنه حكم جائر أو ظالم، وحين يتخيل أن هناك حكما أعدل منه، وأفضل منه، وأكثر خيرا منه، هذه المعاني لا تجوز مع حكم الله تعالى، ومع حكم رسوله صلى الله عليه وسلم لماذا؟ لأن من جملة إيماننا أن نعتقد بأن حكم الله تعالى، وحكم نبيه صلى الله عليه وسلم هما أعدل الأحكام، وهما خير الأحكام، وهما أرشد الأحكام، وهما أفضل الأحكام
…
الخ.
ولو أنني تركت قضيتي التي أتكلم عليها وهي حجية السنة من خلال القرآن، ثم انتقلت إلى امتثال الصحابة إلى الحكم النبوي، ورضاهم به؛ لطال بنا المقام،
والكلام مثل هذا له أمور أخرى في الدروس الدعوية أو ما شاكل ذلك، لكننا مرتبطون بموضوعنا الذي نتكلم عنه، لكن فقط نشير إلى دلالة الآية، الآية فيها قسم بالله تعالى، والمقسم هو الله تعالى، والقضية المقسم عليها هي نفي الإيمان عن من لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم، ومن لم يرض بحكمه، ويطلب الأمرين معا، وهي الامتثال للحكم، والرضا به في آن واحد.
لا يوجد مؤمن يؤمن بالله تعالى، وبالنبي صلى الله عليه وسلم إلا ومن جملة إيمانه أن يعتقد أن أحكامهما هي خير الأحكام، وأعدل الأحكام، وسيد الأحكام على الإطلاق، في الحديث عند البخاري مسلم في ظهير بن أسيد يقول: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كنا نراه خيرا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأرشد.
انظر إلى كلام الصحابي، جاء نهانا عن بعض المعاملات التي كنا نتعامل بها في المدينة، نهانا عنها، نحن كنا نتصور أن هذه المعاملات معاملات طيبة ولا ضرر فيها، ولكنه يقول:"وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأرشد" هكذا ينبغي أن يعتقد كل مسلم في أحكام الله تعالى، وفي أحكام نبيه صلى الله عليه وسلم.
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65). وبعدها بآيات قليلة أيضا يقول الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (النساء: 69)، الذي يطيع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فنعم الرفقة التي ينبغي أن يسعى إليها كل مؤمن {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (النساء: 69)، {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} (النساء: 70).
ومن لم يسع إلى مرافقة هؤلاء في الجنة فيسعى إلى مرافقة من إذا؟ يعني: قضية
واضحة جدا بمقاييس الإيمان، وبمقاييس الفطرة السليمة، وبمقاييس العقل الراشد الذي يفكر بتسديد وتوفيق، أترك هذه الرفقة وأرافق من إذا، والعياذ بالله {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (النساء: 69).
{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: 74) آية {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) هذه الآية تجعل طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي طاعة لله، ولا يوجد مسلم، أو لا ينبغي أن يتصور مسلم أن يعصي رسول الله، ثم يتصور أنه مطيع لله، هذا خلل في الفهم، لا ينبغي أن يتورط فيه مسلم، ننصح هؤلاء الذين يزعمون بالاكتفاء بالقرآن لا يمكن أبدًا {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80)، التلازم بين الطاعتين واضح جلي، لا نقاش فيه، لا انفصام بينهما أبدا، فلن يستقيم الإيمان، ولن يستقيم الأمر إذا تصور البعض أنه من الممكن أن يعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنه في نفس الوقت مطيع لله تعالى، هذا عبث، ومجون، وخلل في الفكر ينبغي ألا يتردى فيه مسلم أبدًا {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (النساء: 80).
إذا انتقلنا إلى سورة المائدة، وعندي آيات تتحدث عن الخمر وضررها، والنهي عنها:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة: 90 - 91).
بعد هذه الآيات التي نهت عن الخمر، وعن كل ما يتعلق بها قال الله تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُو} (المائدة: 92)، احذروا المخالفة، احذروا البعد
عن المنهج، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول َ} أمر بطاعة الله تبارك وتعالى، وأمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وتحذير من المخالفة، وتكرار للفعل "أطيعوا" مع الله تعالى ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، يعني عدة دلالات في الآية مع أنها جملة قصيرة {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (المائدة: 92).
هذا في سورة المائدة، إذا انتقلت إلى سورة الأنعام:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (الأنعام: 153) الله تعالى يوصينا بذلك، يوصينا بأن نتبع سبيل رسول صلى الله عليه وسلم ونسير على صراطه، وعلى نهجه، وعلى طريقه، وأن هذا هو الصراط المستقيم، والذي يوصل إلى أشرف الغايات، وأنبل الأهداف. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 153).
والنبي صلى الله عليه وسلم في رسم توضيحي كما رواه الحاكم وغيره للصحابة؛ لكي يوضح لهم هذا المعنى، يرسم لهم على الأرض خطًّا مستقيمًا، ومن هذا الخط المستقيم تخرج خطوط فتفرع عنه يمينًا وشمالًا، لك أن ترسم هذا الرسم التوضيحي.
بعد أن رسم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخط التوضيحي قال لهم: الخط المستقيم هو خط الله تعالى، هو صراط الله، المتمثل في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وهذه الخطوط الفرعية التي تخرج عنه يمينًا ويسارًا، إنما على رأس كل منها شيطان، يحاول أن يبتعد بالمسلم عن الخط الرئيس الذي هو صراط الله تعالى المستقيم، الذي هو القرآن الكريم والسنة المطهرة {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 153).
ثم ننتقل إلى سورة الأعراف، وبها جملة من الآيات التي أيضا تحث على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157).
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم، إلى آخر الآية، فالذين آمنوا به وبما جاء به من القرآن والسنة، وعزروه، ووقروه، واحترموه، وبجلوه، وقدروه، وأنزلوه منزلته اللائقة به، كل هذا من معاني "وعزروه"، ونصروه نصرة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة، ومن أوضح صور نصرته صلى الله عليه وسلم أن نستجيب لحكمه، الذي لا يستجيب لحكمه هو خذلان، لكن الذي يبوء بالخذلان هو المخالف، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمقامه رفيع، والله عز وجل جعل له المنزلة السامقة العالية.
ونلاحظ أن الله عز وجل علق الفلاح على ذلك: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157)، "وأولئك هم المفلحون" جملة من مبتدأ وخبر، أولئك: مبتدأ، وهذا أحد أنواع المعارف؛ لأنه اسم إشارة. والمفلحون: خبر، وهم: ضمير فصل للتأكيد، حين تكون الجملة معرفة الطرفين، فإنها تفيد القصر، يعني: الفلاح مقصور على هؤلاء الناس الذين استجابوا لله وللرسول، وآمنوا به وعزروه ونصروه.
وفي الآية التي بعدها: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158). "اتبعوه" الضمير في اتبعوه هنا مفعول به، يعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم {اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158). وقلنا قبل ذلك: "لعلكم تفلحون" رجاء من الله، والرجاء محقق، إذا حقق فينا ما علق الله عليه تعالى هذا الرجاء، وقد علقه الله تعالى على طاعة رسول صلى الله عليه وسلم {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157).
هذا في الآية السابقة، وفي هذه الآية أمر من الله {فَآ مِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158).
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.