الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس التاسع عشر
(رد شبهات المستشرقين ودفع افتراءاتهم تجاه السنة)
رد شبهة: أن الأحاديث وُضعت نتيجة لتطور المسلمين
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد:
فنتكلم عن بعض شبه المستشرقين تجاه السنة:
هناك شبه كثيرة أثارها المستشرقون تجاه السنة، ونقلها عنهم كثيرٌ من الذين تأثروا بالدراسات الاستشراقية حول الإسلام بشكل عام، وحول السنة بشكل خاص.
من الشبه التي وضعوها في ذلك: قولهم: إن الأحاديث وُضعت في القرنين الأول والثاني نتيجة لتطور المسلمين، هذه شبهة.
شبهة أخرى تقول: إن الأمراء الأمويين والعباسيين بدءًا من معاوية -رضي الله تعالى عنه- واستمرارًا مع الدولة الأموية ومع الدولة العباسية، استغلوا بعض علماء المسلمين لوضع الأحاديث؛ مساندة لهم، وإعانة لهم على تثبيت ملكهم، والرد على مناوئيهم وعلى خصومهم، وما إلى ذلك.
شبهة ثالثة تقول: إن حملة الإسلام من الصحابة ومن التابعين، كانوا جنودًا للأمراء في ذلك؛ يعني: استعانوا بالعلماء الكبار المتخصصين الذين يحبهم الناس ويستمعون إليهم، استعان الأمراء بهم في تحقيق هذه الغاية من وضع الأحاديث في تثبيت ملكهم وإعانتهم على خصومهم ونحو ذلك.
يقولون أيضًا: إن بعض علماء المسلمين استجادوا الكذب؛ تأكيدًا لهذه الأمور، أو إثباتًا لها.
ثم أيضًا من شبههم: يسوقون بعض الأدلة التي يرونها تؤكد هذا الاتهام؛ من أن العلماء المسلمين أرادوا أن يوفروا للأمراء والحكام مستنداتٍ شرعيةً تعينهم على إقامة الحجج على مناوئيهم، وعلى تدعيم ملكهم، وتثبيت أركان حكمهم، وما إلى ذلك.
هذه بعض الشبه، وإذا اتسع الوقت للرد على شبهٍ أخرى نرد عليها بإذن الله، ونرد على الشبه واحدةً واحدةً.
من المعلوم أن الذي تولى كبر هذا الأمر هو "جولد تسيهر" في كتبه المعروفة عن الإسلام ونحوه، وفي التفسير والحديث، وما إلى ذلك، وهذه الكتب كانت مصدرًا لكثير ممن كتبوا في هذه المسألة بعد ذلك ونقلوا عنه هذه الأفكار، واعتبروها أفكارًا علمية تقوم على البحث، وعلى تأكيد الأمور بالأدلة الشرعية من خلال كتب المسلمين، هو ينقل من كتب المسلمين وكأنه يوهمنا أنه يعتمد أو أنه لم يأتِ بهذه الأقوال التي يعتمدها فرية على المسلمين، وإنما هي تعتمد على نقول أو نصوص منقولة من كتبهم ومنسوبة إليهم.
يقول "جولد تسيهر" -نحن لا ننقل الكلام بالنص-: إن القسم الأول من السنة أو الأكبر من السنة ليس إلا نتيجة للتطور الديني والسياسي والاجتماعي للإسلام في القرنين الأول والثاني الهجريين؛ يعني: كلما حدث تطور سياسي اجتماعي ديني في حياة المسلمين وضعوا له الأحاديث، بإيحاء من الخلفاء أو بأمر منهم، أو بأي ظروف تدعو إلى هذا الوضع الذي ينسجم مع هذا التطور الذي حدث في حياة الأمم؛ يعني مثلًا: حدث خلاف بين سيدنا علي وسيدنا معاوية رضي الله عنهما الأمراء والحكام استعانوا ببعض العلماء لوضع أحاديث تؤيد موقف الأمويين مثلًا، وتنتقد موقف الذين ساندوا عليًّا رضي الله عنه إذا حدث تطور اقتصادي وضعوا أحاديث تُواكب هذا التطور الاقتصادي ليقننوه وليشرّعوه -على حد زعم الزاعمين من هؤلاء المفترين-.
هذه الفِرية، كيف نرد عليها؟ نقول: يكذبها واقع المسلمين، كيف ذلك؟
أولًا: النبي صلى الله عليه وسلم حين انتقل إلى الرفيق الأعلى، كانت قد تمت معالم الدين وكمل
بنيانه، فلا مجال لإضافة أو حذف بعد ذلك أيضًا لا من خلال القرآن الكريم ولا من خلال السنة المطهرة، الله عز وجل سجل ملته على عباده باكتمال هذا الدين وبتمامه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3) فالقول بأن العلماء المسلمين أو الأمراء أو أي شخص، قد وضع حديثًا أو نصًّا يساعد أو يتوافق مع التطور الذي حدث في حياة الأمة، هذا قول زائف، لا نجد عليه أدلةً أبدًا، وسنرد على ما زعموه أنه أدلة وبعض شبهات هذا الأمر.
لكن أردنا أن نوضح أن النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة بدأ بتأسيس الدولة الإسلامية، وضع لها القواعد والأسس التي بنى عليها المسلمون بعد ذلك وأسسوا عليها دولة الإسلام، وكل بلد يفتحه الله تعالى على المسلمين يتّبع الصحابة ويتبع المسلمين فيه المنهج الذي أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إقامة الشرع وإقامة الحدود ومن بناء المساجد ومن الفصل بين الرجال والنساء ومن العفة والطهارة والاستقامة، دولة قد تحددت معالمها وتبينت أسسها، والله عز وجل هو الذي وضع تلك الأسس والنبي صلى الله عليه وسلم قام بتنفيذها؛ ولذلك نقول نحن: إن مجتمع المسلمين صنعة إلهية، يعني: حدد الله للأمة الإسلامية كيف تصوغ مجتمعها وتبنيه، ولا دخلَ لأحد أبدًا في هذا البناء إلا من حيث أن يفهم النصوص، وأن يطبقها على الوجه يرضي الله عز وجل.
إذن، الإسلام تم وكمل، هذا الإسلام تضمنه القرآن الكريم وتضمنته السنة المطهرة، هذا الإسلام لا مجال فيه للزيادة ولا للنقصان، هناك شرحٌ لبعض النصوص، نعم، هناك استنباط للأحكام منها، نعم، هناك اجتهاد في ضَوْء النصوص التي كملت وتمت، وليس بمعزل عنها ولا زائد عليها، نرجو أن نكون واضحين في ذلك.
الاجتهاد الذي تم والذي يتم والذي سيظل إلى يوم القيامة، هو اجتهاد في فهم النصوص وتطبيقها على ما يُستحدث في حياة الناس من وقائع، كان ذلك قديمًا وسيظل ذلك إلى يوم القيامة، إن تطور الحياة لا يتوقف، لكن هذا التطور أبدًا، لا يصطدم مع الأدلة الشرعية، بل ينبغي أن يكون خاضعًا لها ومحكومًا بها ومندرجًا تحتها.
الأمر استقر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتحددت معالم المجتمع وصار الخلفاء والحكام من بعد ذلك على هذا النهج الذي أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذن لم يكن هناك مجال لئن تُوضع لَبَنات جديدة في بناء الإسلام؛ نتيجة لتطور الدين أو الاقتصادي أو السياسي كما يزعم الزاعمون.
إنما كانوا يأتون بالنصوص -وأنا ألح على هذه النقطة؛ لأنها تدحض فريتهم من أولها لآخرها- كانوا يأتون بنصوص يفهمونها ليطبقوها على المستحدثات في حياة الأمة، من الوقائع التي جاءت جديدة، وهذه مهمة أهل العلم؛ أن يدخلوا هذه الأمور المستحدثة تحت قواعدها الشرعية العامة الكلية المنظمة لها، وهذه النصوص جاءت وهذه القواعد جاءت في القرآن الكريم وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا مجال إذًا لإضافة نصوص جديدة، لا من القرآن الكريم ولا من السنة المطهرة، كلا وحاشا.
ولكي أزيد المسألة توضيحًا أضرب بعض الأمثلة:
مثلًا في زماننا هذا وفي كل عصر تستحدث القضايا؛ من التبرع بالأعضاء، من أعمال البنوك، من نظام البورصة والمضاربة فيها، من بعض النظم الاجتماعية التي تأتي من شرق أو من غرب، من أنواع الأطعمة التي تأتي مستوردة من الخارج.
أمور كثيرة جدًّا تستحدث في حياة الناس، ماذا يحدث من أهل العلم؟ هل يضعون لها أحاديث لكي تتواءم مع الشرع؟ أم يجتهدون في محاولة إدخالها تحت النصوص الشرعية القائمة الثابتة التي أجمعت عليها الأمة من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة؟
هذا مثال واضح جدًّا حين يقولون مثلًا: مَن يجيز تعامل البنوك؟ يقول: الأدلة كذا وكذا، من يحرّمها؟ الأدلة كذا وكذا، والاختلاف في فهم النصوص أمرٌ وارد؛ لأن هذا ما هو تعبدنا الله تعالى به؛ أن نجتهد في فهم النصوص، ليس مع النص، هناك فَرْق في الاجتهاد في النص والاجتهاد مع النص، الاجتهاد مع النص أن يقول النص كلامًا ويقول المجتهد كلامًا آخر:{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (النساء: 11) يقول: نساوي بين المرأة والرجل، لا، أما أن نفهم الحكمة ومن وراء النص أو أن نفهم النص مثلًا: ملامسة النساء ناقضة للوضوء: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: 43) ما المراد بالملامسة؟ هذا هو الاجتهاد في النص.
إذن، لا أحد يقول: إن الملامسة غير ناقضة؛ لأن الملامسة ونقضها للوضوء ثابتان بالقرآن الكريم، لكن ما المراد بالملامسة؟ هذا اجتهاد في فهم النص، قد يصيب صاحبه وقد يخطئ وهو في كلتا الحالتين مأجور، لكنه ليس اجتهادًا مع النص، إذًا الذي صنعه العلماء قديمًا وحديثًا: أنهم لم يضعوا أحاديث؛ لتناسب وتتواكب مع التطور الذي حدث في حياة المسلمين، وإنما يجتهدون في فهم النصوص التي بين أيديهم، ومحاولة تطبيقها على واقع المسلمين.
إذن، هذه فِرية، وكلنا نعلم أن أي حديث يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الشرط الأول من شروط صحته: أن يكون الإسناد متصلًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما معنى الإسناد المتصل؟ يعني: أن يكون كل راو قد تلقى الحديث من شيخه الذي فوقه مباشرة
بدون انقطاع في السند، بدون خلل، بدون فجوة، يعني: لا بد أن يتصل الإسناد أو السند من أول الراوي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
البخاري مثلًا حين يروي الحديث في كتابه، فإنه يرويه عن شيخه، وشيخه يرويه عن شيخه، وهكذا، إذا كان بين النبي صلى الله عليه وسلم سبعة ثمانية ستة خمسة، حسب علو الإسناد ونزوله، فلا بد أن نتأكد كأبناء للمدرسة الحديثية أن كل راوٍ قد تلقى الحديث من شيخه مباشرة بدون انقطاع، بالإضافة إلى دراستنا لأحوال الرواه وصدقهم وعدالتهم وأمانتهم .. إلى آخر ما نعلمه من مصطلح الحديث ومن شروط صحة الحديث.
إذن، كيف يأتي واحد بعد قرن أو اثنين ويضع حديثًا ولا تتنبه الأمة لذلك، وتوضع في مصادرها الصحيحة؟ قد يرد عليّ الآن بعض الناس ويقول: الوضاعون يأتون بأسانيدَ وربما يأتون بسلاسلَ الذهب المعروفة عند المحدثين في أسانيدهم؛ لينسبوا إليها الأحاديث الموضوعة.
أقول: حدث هذا، لكن علماء الأمة قد انتبهوا، ولم ينطلِ عليهم أبدًا أي حديث موضوع خدعهم، وميزوا الصحيح من الموضوع.
إذن عندنا أمور كثيرة تدل على أن هذه الفرية باطلة، فمفهوم التطور لم تضطر معه الأمة إلى وضع أحاديث -كما قلت- أن النبي صلى الله عليه وسلم تركنا على المحجة البيضاء وأيضًا اتصال الأسانيد.
ثم نقول: ما هو التطور الذي فَرض على المسلمين وضع أحاديث تواكب هذا التطور في أي مجال سياسي أو اقتصادي، سبحان الله! اختلفت الأمة في عهد عثمان بعد مقتله رضي الله عنه ليس في عهده بعد مقتله، واختلفت بعد ذلك، ووصل الخلاف في بعض الأحايين إلى القتال، وما اهتزت ثوابت الأمة، ولا تغيرت
معالم المجتمع، الخلاف لم يفتح الباب لاهتزاز الثوابت، أيضًا اتسعت الدولة ودخلت أمم كثيرة في دين الله أفواجًا، غرب الصين كشرقٍ للأمة الإسلامية، أفغانستان وما بعدها، إلى المغرب إلى أواسط روسيا شمالًا، إلى جنوب أفريقيا جنوبًا .. إلى آخره. دولة واسعة جدًّا صلاتها واحدة، قِبلتها واحدة، صومها واحد، حجها واحد، قرآنها واحد، نبيها واحد، سنتها واحدة، لم يتغير شيء من ذلك أبدًا تحت وطأة التطور الذي يحدث داخل المجتمعات.
ثوابتها، في عقائدها، في أخلاقها، في عبادتها، في معاملتها، في ماليتها في أسس حلالها وحرامها، في الزواج، في الأسرة، في جمع المال، في إنفاق المال، كل ذلك ظل ثابتًا على رغم ما نشأ وطرأ على الأمة المسلمة وعلى أقطارها المتعددة من تطور كما يقول الزاعمون في كل مجالات الحياة، حدث تطور حتى في زماننا هذا؛ تبرج النساء فهل وضع العلماء أحاديث تسوّغ للناس التبرج؟ تعامل بعض الناس بالربا، فهل سمح أحد من أهل العلم أن يضع حديثًا ييسر للناس التعامل بالربا؟
هناك فرق بين أن تجتهد في أن هذه الصورة من التعاملات هي معاملات ربوية أو غير ربوية، هذا اجتهاد كما قلت، يعني: أن يقال مثلًا: معاملات البنوك ربوية أو غير ربوية، أنا لا أفتي الآن لكن أقول المسألة خلافية، لكن أحدًا من الذين قالوا بإباحتها لم يفهم أبدًا أنها ربا، ثم هو يجيزه ويسيغه للأمة لأنه ربا، اجتهاده انصب على أن هذا ليس من الربا المحرم، بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، هذه مسألة اجتهادية -كما قلت- لكن هل قال الرجل أنه ربا وأنا أسيغه اتساقًا مع تطور الأمة ولأن الظروف الاقتصادية أصبحت مضطرة إلى ذلك؟
لم يقل أحدًا بذلك أبدًا، إنما اجتهاده -كما قلت- كان منصبًّا على أنه ليس من الربا، لا العلماء المحدثون ولا الأقدمون وهم أشد من المحدثين ورعًا وتقوى
وعلمًا لا يسمحون لأنفسهم أبدًا بأن يُضيفوا شيئًا إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم اتساقًا مع بعض الظروف التي طرأت على المجتمع، كل ذلك لم يحدث أبدًا.
يقول الدكتور مصطفى السباعي -رحمه الله تعالى في هذا الصدد-: فما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد كان الإسلام ناضجًا تامًّا، لا طفلًا يافعًا، كما يدعي هذا المستشرق "جولد تسيهر" نعم، لقد كان من آثار الفتوحات الإسلامية أن واجهت المسلمين جزئيات وحوادث لم يُنص على بعضها في القرآن والسنة، فأعملوا آراءهم فيها قياسًا واستنباطًا، حتى وضعوا الأحكام المناسبة لها وهم في ذلك لم يخرجوا عن دائرة الإسلام وتعاليمه، وحسبك -لا يزال كلام الشيخ موصولًا- أن تعلم مدى نضوج الإسلام في عصره الأول، أن عمر رضي الله عنه سيطر على مملكتي كسرى وقيصر، وهما ما هما في الحضارة المدنية، فاستطاع أن يسوس أمورهم، ويحكم شعوبهم بأكمل وأعجب مما كان كسرى وقيصر يسوسان بها مملكتيهما.
أتُرى لو كان الإسلام طفلًا كيف كان يستطيع عمرُ حينئذٍ أن ينهض بهذا العلم، ويسوس ذلك المُلك الواسع، ويجعل له من النظم ما جعله ينعم بالأمن والسعادة ما لم ينعم بهما في عهد ملكيهما السابقين.
على أن الباحث المنصف يجد أن المسلمين في مختلف بقاع الأرض التي وصلوا إليها كانوا يتعبدون عبادة واحدة، ويتعاملون بأحكام واحدة، ويقيمون أسسَ بيوتهم وأسرهم على أساس واحد، وهكذا كانوا متّحدين في العبادات والمعاملات والعقيدة والعادات غالبًا، ولا يمكن أن يكون ذلك لو لم يكن لهم قبل مغادرتهم جزيرة العرب نظام تام ناضج وضع لهم أسس حياتهم في مختلف نواحيها.
ولو كان الحديث أو القسم الأكبر منه نتيجة للتطور الديني في القرنين الأولين لنجم حتمًا ألا تتحد عبادة المسلمين في شمال أفريقيا مع عبادة المسلم في جنوب
الصين، إذ إن البيئة في كل منهما مختلفة عن الأخرى تمام الاختلاف، فكيف اتحدا في العبادة والتشريع والآداب، وبينهما من البُعد ما بينهما؟ يعني: لو أن هناك أحاديثَ توضع -قطعًا الظروف التي في شرق الصين غير الذي في المغرب من ناحية المناخ وتوفر المياه وما إلى ذلك ونظام الأكل والشرب واللباس، كان ممكن على هذا الزعم توضع مناهج لمن في الشرق غير المناهج التي للذين في الغرب.
إن كل المجتمعات الإسلامية طورت حياتها بما يتوافق مع شرع الإسلام، غيروا عاداتهم وتقاليدهم، وغيروا عاداتهم الاجتماعية في نظام النكاح، قطعًا الأمم التي كانت قبل الإسلام ودخلت الإسلام كانت لها عاداتها وتقاليدها، في نكاحها في طعامها في شرابها في كل ذلك، توحدت مع الإسلام وانسجمت معه، وانقادت له وخضعت لأحكامه، سبحان الله! هو الذي أثر، الإسلام لم يتأثر ولم توضع أحاديث توافق التطور الاجتماعي، بل بالعكس، انتهى الاحتكام إلى العادات وإلى التقاليد وإلى العرف الاجتماعي، من عهد الصحابة الاحتكام إلى الإسلام، وكل الدول التي دخلت الإسلام غيّرت مناهجها؛ لتتلقاها من الإسلام.
مَن كان عندهم عُري النساء تسترت نساؤهم، من كانوا يأكلون الحرام من المذبوحات أو من أنواع الأطعمة انتهى الأمر، من كانوا يشربون الخمور، من كانوا عندهم الزنا منتشر
…
إلى آخره، كل هؤلاء تغيروا مع الإسلام. ولم يتغير الإسلام معهم ولم يضع نصوصًا تتوافق مع طبائعهم ومع عاداتهم الاجتماعية كما يزعم الزاعمون، بل إن هذه الأمم هي التي توافقت مع الإسلام، وخضعت وانقادت له، مما يدحض هذه الفرية من أساسها.
كيف تقول عن أمة مساحتها شاسعة من الصين شرقًا إلى المغرب غربًا، وكل ذلك والعادات واحدة والأخلاق واحدة والمعاملات واحدة والحلال والحرام واحد،
وكل ذلك يقوم على أسس واحدة ولا ينكره منكر منهم أبدًا، صيامهم كما قلت في رمضان حجهم في ذي الحجة، هذا التطور الذي يتحدث عنه ذلك المستشرق أو غيره لم يحدث اختلافًا أبدًا ما بين مشرق ومغرب، وكان الأحرى به لو كان هذا التطور هو الذي يحكم لكانت الأمور قد تغيرت تمامًا، خصوصًا مع اختلاف البيئات والثقافات والظروف الاقتصادية والاجتماعية وغيرها ومع اختلاف الألسنة ومع اختلاف الشعوب.
أقول: العكس هو الذي حدث، كل هؤلاء قد انصهروا في بَوتقة واحدة، لا يحدث بينها خلاف في أمر أصيل من أمور الإسلام، وإنما الخلاف الذي حدث في جزئيات تتعلق بفهم النصوص في المقام الأول، إذًا هو اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد، وتظل الأمة بمعالمها الأساسية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، كل ذلك قد كان.
أيقال بعد ذلك: إن الأحاديث أو بعضها أو القسم الأكبر منها وضعت نتيجة لتطور المسلمين الديني أو السياسي، كلما استجدت لهم أمور سياسية وضعوا لها أحاديث، وكلما طرأت عليهم عادات اجتماعية وضعوا لها أحاديث!
هذا هراء وليس هناك دليل واحد عليه من واقع الأمة، وأين التباين بين آثار الأمة؟ وهؤلاء الذين رددوا هذا الكلام من وراء هذا المستشرق، أين اجتهادهم في دراسة تاريخ أممهم، وفي معرفة أحوال عاداتهم وأخلاقهم الاجتماعية؟ لماذا خُدعوا بهذا الكلام الذي لا أساسَ له من الصحة وكل واقع الأمة يبطله؟! كان أي حاكم من الدولة الأموية أو الدولة العباسية يحكم الدولة الواسعة كما ذكرنا، هل هناك نص واحد في أنه قد أبيح للشرق ما لم يبح للغرب، أو أن ما شرّع في الجنوب غير ما شرع في الشمال؟ كل ذلك لم يكن، وإنما العكس هو الصحيح.
أقول: إن هذه الأمم قد انصهرت في بوتقة الإسلام، وأصبح الإسلام هو الحاكم لكل صغيرة وكبيرة في حياتنا.
وسيرًا مع هذا التطور مثلًا، لماذا في عصرنا هذا لا يوجد من يبيح للمسلمين الاختلاط بين الرجال والنساء؟ لماذا لم يوجد من يسمح لهم بالتبرج ويقول: إن التبرج حلال، لماذا لم يسمح التطور بأن يقال أن الظلم أصبح مستساغًا ومقبولًا؟ لماذا لم يضع أحد أحاديث كأن مثلًا الذبح بغير الطريقة الشرعية حلال ونأكله؟ لماذا ولماذا ولماذا؟ حتى في العصور المتأخرة التي لا أريد أن أقول: ضعف التمسك بالإسلام، الحمد الله هناك صحوة رشيدة وطيبة، لكن أقول: حدث تطور وبعض المسلمين تأثروا ببعض العادات التي جاءت من شرق أو من غرب، وهم يعلمون أنهم في استجابتهم هذه مخالفين للشرع.
لكن أحدًا لم يقل أبدًا: أن السفور هو الحلال والأصوات النشاز التي تصدر بين حين وآخر تحمل هذه الأفكار الرديئة، سرعان ما تنطفئ وتخبو، وتعود إلى جحورها مدحورة، ويظل الثابت هو الذي أجمعت عليه الأمة، من القرآن الكريم ومن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
المستشرقون وصولًا إلى هذه الغاية يُحاولون أن يثيروا بعض الشبهات التي رددنا إليها، يعني مثلًا: قد يستعينون على أن هناك وضعًا للأحاديث في القرن الأول والثاني ببعض الشبهات، مثل قولهم: إن السنة قد تأخر تدوينها، وهذا فتح الباب للإضافة والزيادة والنقصان، وهذه فرية عالجناها في أكثر من درس من دروسنا في هذه المادة، ورددنا بالأدلة على هذه الفرية وأن السنة قد بُدئ في تدوينها من عصر النبي صلى الله عليه وسلم وتتبعناها خلال العصور المتعددة، إلى أن وضعت رحالها -بعون من الله وتوفيقه- في رحلة تامة من الصياغة والحفظ والرعاية في بطون الكتب المعروفة لدينا الآن،
ونحيل على هذه الدروس حتى لا نكرر ما قلناه قبل ذلك.
أيضًا، هناك مَن يقول: أن هناك وضعًا في السنة، ونحن لم ننكر هذا، وهناك عوامل من الظروف الاجتماعية التي نتحدث عنها أدت إلى الوضع، مثلًا كالاختلافات السياسية والذهبية كل ذلك حق، لكن الذي يقول ذلك عليه ألا يغفل أبدًا جهود الأمة في مقاومة ذلك الوضع، هل انطلى هذا الوضع على الأمة؟ هل قبلته؟ الحكام الذين يتقولون عليهم كانوا يتقربون إلى الله بدماء الزنادقة الذين يتجرءون على دين الله، بل إن العلماء المخلصين الذين يدافعون عن السنة ويذبون عنها كان من بين أساليبهم في مقاومة الوضع والوضاعين أن يشتكوا هؤلاء الوضاعين، ويرفعوا أمرهم إلى الحكام، والحكام يعاقبونهم، لم يفرحوا بوضعهم للأحاديث، بل هناك كثير من العبارات التي تفيد أن حكام الأمة مطمئنون إلى العلماء المخلصين الذين يذبون عن حياض السنة، ويتصدون لهؤلاء بالمرصاد، فالحكام والعلماء قاموا بدَوْرهم في مقاومة الوضع والوضاعين، إلى أن انتهت موجة الوضع والآن بين أيدينا كتب كثيرة في الأحاديث الموضوعة، وبيّنت علامتها إلى آخر ما نعلمه جميعًا.
إذن، لو أن هناك وضعًا للأحاديث، فليس ذلك دليلًا على أنه التطور الاجتماعي حدث، لا، الأمة تصدت، وأنا أعجب من بعض أقلام المسلمين التي تثير الشبهات حول الوضع مثلًا أو بعض الكتابات حول السنة، ولا ترد ولا تلتفت إلى الردود عليها، يعني: اقتنع بالشبهة ولم تلتفت إلى الردود عليها، نتكلم عن أن هناك وضعًا حدث وننسى عن عمد أو نتناسى عن عمد أن الأمة قد قاومت هذا الوضع، وتصدت له، وردت الوضاعين على أعقابهم مدحورين، وصارت لدينا كتب الآن تسجل الخزي عليهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأن هؤلاء من الوضاعين وبمجرد أن نراه في سند حديث لا نقبل هذا السند أبدًا، ولا نقبل هذا المتن إذا كان ورد من طريقه هو فقط.