الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد تكون الرواية منقطعة إذا حدث خلل في الإسناد ما بين الراوي الأخير وما بين مصدر الخبر من أعلى، كأن يكون سقط واحد من أول الإسناد، أو من وسط الإسناد، أو سقط اثنان، بالنسبة للحديث سقط الصحابي وهو الذي يسميه العلماء المرسل، فالتابعي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه رواية منقطعة، وأنواع الروايات المنقطعة أنواع كثيرة، نرجع إليها في علوم الحديث، وخلاصتها أن الرواية إما أن تكون متصلة وإما أن تكون منقطعة.
مميزات وخصائص الرواية
إن للرواية في الإسلام مميزات وخصائص تنفرد بها عن كل أنواع الروايات قديمًا وحديثًا، خصائص الرواية التي تميزت بها في الإسلام لا توجد عند أمة من الأمم، لا من قبل ولا من بعدُ؛ فهي خصائص غير مسبوقة وغير ملحوقة، ونقول ذلك بكل الثقة وبكل التواضع وبكل اليقين.
وهذه المميزات للرواية في الإسلام نشير إلى بعضها؛ فنقول مثلًا: الإسلام حرم الكذب في حديث الناس، وأي كاذب ينقل الأخبار مخالفة للواقع فهو آثِم، والكذب من الكبائر الفاحشة:((ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا)) إلى آخر ما نعلمه من تكذيب الحديث دينيًّا. ليس من تحريم الكذب في الحديث دينيًّا، كلمة "دينيًّا" تضيف إليه بعدًا هامًّا، الذين يشمئزون من الكذب لمجرد أنه نقيصة أخلاقية، هذا غير كافٍ في الابتعاد عنه، فقد تضطره الظروف أحيانًا إلى الكذب، أما أن يكون الأمر عقيدةً وعبادةً ويتوقف عليها وتحصل على حسنات، أو تكتسب سيئات -والعياذ بالله- فالمسألة تأخذ بعدًا آخر.
قد يقول قائل: إن الإنسانية كلها تشترك في ذم الكذب، نعم، لكن هناك فرق بين أن يصدر هذا الذم عن عقيدة تحرمه، أو عن فلسفة اجتماعية مثلًا تدعو للصدق
وتنهى عن الكذب، وإلى أنه مجرد فضيلة خلقية إذا تحلى بها صاحبها فقد اكتسب صفة طيبة، وإذا انتهى أو امتنع عنها أو لم توجد فيه فالأمر ليس خطيرًا؛ لأنه ليس عبادة وليس عقيدة، ولا شيء من هذا القبيل، ولا الأمر يتعلق بالجنة أو النار لا من قريب ولا من بعيد، عندنا في الإسلام الرواية أول سمة من سماتها: أن الإسلام حرم الكذب، حرم الكذب في حديث الناس بشكل عام، أن تنقل عني كلامًا لم أقله، وأن تنسب إليَّ ما لم أفعله مثلًا إلى آخره.
والذي يتهم فلانًا بأي نوع من أنواع الاتهامات كذبًا، هناك عقوبات مقررة في الإسلام شرعًا، يعني: المسألة ليست هينة، حين يتهم فلانٌ فلانًا بالزنا مثلًا -والعياذ بالله- إذا لم يأتِ بالدليل على ذلك سنقيم عليه حد القذف إلى آخره.
تفصيلات كثيرة جدًّا تؤكد هذا السمو الذي لا يوجد إلا في الإسلام.
ويشتد الكذب ويفحش إذا كان متعلقًا برسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: الكذب بشكل عام فاحشة كبيرة لكنه يكون أشد فحشًا وأعظم خطرًا وأنكى على صاحبه إذا كان هذا الكذب متعلقًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديثين من حديث أبي هريرة وغيره من جملة من الصحابة: ((مَن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)) والحديث الآخر عند مسلم في مقدمته: ((إنَّ كذبًا علي ليس ككذب على أحد)) نعم، الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ليس مثل الكذب على أي أحد من الناس؛ لأن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم كذب في التشريع -في الدين- إما بالزيادة منه وإما بالنقص منه، وكلا الأمرين على خطر عظيم.
لذلك اهتم المسلمون جدًّا بالرواية، بقوانينها المتسعة وتفصيلاتها الكثيرة التي تعطينا في النهاية روايةً صادقةً، فالمسلمون عندهم الكذب محرم، ومحرم تدينًا وعبادةً، وليس مجرد انحدار خلقي فحسب، والكذّاب يكتب عند الله كذّابًا،
يعني: يكفي عند الإمام الترمذي في سننه وحسنه: ((إذا كذب العبد ابتعد الملك عنه ميلًا من نتن ما جاء به)) والعياذ بالله، يعني: كأن الكذب تنتج عنه رائحة كريهة، تخرج من فم الكاذب، فيتأذى بها الملك الموكل به، فيبتعد عنه بمسافة ميل، والمسافة هنا ليس المراد منها التقدير الدقيق بالمسافة، وإنما المراد أن الملك يشمئز منه، فيبتعد عنه مسافة كبيرة، قد لا يكون التحديد بالميل مقصودًا لذاته، إنما المقصود أنه يشمئز ويتقزز فينصرف بعيدًا عنه؛ لنتن ما جاء به من الكذب.
هذه الأحاديث والأدلة تبين خطورة الكذب، وكما قلت يشتد الأمر إذا كان الكذب متعلقًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك كان الاهتمام البالغ بتصحيح الأخبار وتصديقها ومطابقتها إلى الواقع.
أيضًا من خصائص الرواية في الإسلام: البحث عن مطابقتها للواقع من عدمه حتى يتبين صدقها من كذبها، ونحن نعلم أن آفة الأخبار هي رواتها، يعني: الخبر في حد ذاته قولٌ يحتمل الصدق والكذب، محمد سافر هذا خبر، أنت تخبر بأنه قد سافر، فمجرد مضمون الخبر مسائلة عادية، لكن ما يترتب على الصدق والكذب أبني حساباتي على أنه مسافر أو على أنه غير مسافر إلى آخره، وأيضًا هل كلامك هذا مطابق للواقع وللاعتقاد، أو ليس مطابقًا للواقع والاعتقاد؟
إذًا لا بد من مطابقة الرواية مع الواقع حتى نتأكد من صدقها أو من كذبها.
أيضًا عندنا الاهتمام بأحوال النقلة، وهذا أمر هام في الإسلام لم يوجد وأظنه لن يوجد عند أمة من الأمم، أحوال النقلة الذين نقلوا لنا الأخبار، وخصوصًا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الاهتمام الذي بذلته الأمة في معرفة أحوالهم لنتأكد من صدقهم في نقل ما أخبرونا به من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم هذا جهد أكاد أقول بلا مبالغة فوق طاقة البشر، وإنما هيأ الله الطائفة الجليلة العظيمة من العلماء الذين
قاموا به؛ لأن الله أراد أن ينصر دينه، وأن يعلي رايته، وأن يصون سنة نبيه صلى الله عليه وسلم من أي تحريف، أو تغيير، أو تبديل؛ فهيأ هؤلاء العظام ليقوموا بتمحيص الرواية، ومن بينها الاهتمام الشديد بأحوال النقلة.
وهذا الاهتمام إنما هو أمر شرعي، الله تعالى في القرآن الكريم طلب منا أن نتثبت في الرواية وفي قبولها؛ فقال -عز من قائل-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحُجُرات: 6) في قراءة: "فتثبتوا"، فاسق ماذا ننتظر من خبره؟ ربما ترتب على هذا الخبر حرب تقوم، يعني: يصل الأمر بالنسبة للأخبار إلى خطورة شديدة جدًّا كما في هذه الآية وفي سبب نزولها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين} فالآية دلت على أننا نتوقف في قبول خبر الفاسق لفسقه.
وهذا فتح الباب أمام العلماء ليبحثوا عن شروط الراوي الذي تقبل روايته بتفصيلات لا يتسع المقام لذكرها، غير أننا نسجل هنا ما نحن بصدده من أن الاهتمام بأحوال النقلة سَبْق إسلامي لم ولن -لم لنفي الماضي، ولن لنفي المستقبل- لم تسبق الأمة إليه ولن تلحق فيه؛ لأن الباعث أصلًا إليه كان تدينًا، كان الغرض من الجهد الفائق هذا هو صيانة الشرع والحفاظ على السنة؛ لأن السنة أحد مصادر التشريع، أو ثاني مصادر التشريع، ثم إنها تبين القرآن الكريم.
أيضًا العلماء وضعوا قواعدَ مقررة اصطلحوا عليها لدراسة السند والمتن، فهذا جعل تمحيص الروايات خصيصة من خصائص الرواية في الإسلام، يعني: حين نقول هذه الرواية صادقة، أو هذه الرواية كاذبة، أو هذه الرواية مطابقة للواقع، أو مخالفة للواقع؛ فإن ذلك يتم ليس بهوى أنفسنا، وليس بما نتذوقه من الأخبار فنقبل ما يريحنا ونرفض -مثلًا- ما يؤلمنا، أو نقبل ما يوافق هوانا إلى آخره كل
ذلك لا، إنما هناك قواعد مقررة هي أيضًا مستنبطة من أدلتها الشرعية، يعني: هذه القواعد حين وضعها العلماء استدلوا على كل قاعدة بالأدلة الشرعية، وفي النهاية أصبح لدينا منهج ضم مجموعة من القواعد لدراسة المتن ولدراسة الإسناد، فإذا سلم لنا الإسناد وسلم لنا المتن، نستطيع أن نقول: إن الرواية صحيحة بإذن الله.
أيضًا من خصائص الرواية: أنها تعلم أن مرجع الأحكام الشرعية في الإسلام هي إلى القرآن الكريم وإلى السنة المطهرة، فاشتدت العناية بهما اشتدادًا -كما قلت- لم يسبقوا به ولم يُلحقوا فيه؛ فهي جهد، وأكرر السبب في ذلك أنه نبع من حب للدين وحرص عليه وصيانة له، وهو حرص متصل إلى أن أدوا لنا الأمانة ناقية خالصة بإذن الله رب العالمين.
إذًا معرفة الأمة بأن مرجع الأحكام هي إلى القرآن وإلى السنة، جعل الأمة تشتد في العناية بهما، وفي الإسناد المتصل بهما الموصل إليهما حتى يصل الأمر لنا نقيًّا.
أيضًا الإسناد المتصل من أول الراوي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا من خصائص أمة الإسلام، لا يوجد عند أمة غيرنا، بل أنا أقول في كثير من الأحيان بعد أن شرفني الله بالتعمق في دراسة السنة وما يتصل بها في كثير من الأحيان، أتصور أن الهجوم على الصحابة -رضوان الله عليهم- إنما هو نوع من الحسد لهذه الأمة، فلم يوجد عند نبي من الأنبياء جيل اهتم بنقل ما تحمله عن هذا النبي، كما اجتهد الصحابة في ذلك؛ لذلك حسدونا على نعمة الصحابة من بين ما حسدونا عليه، وكان التعبير عن هذا الحدث هو أن يهاجموا الصحابة وأن يشككوا فيهم -بكل أسف- وهيهات أن يصلوا إلى غرضهم، وأمة الإسلام تعرف قدر الصحابة.
لكن على كل حال هذه مسألة استطردت إليها؛ لأبين أن اتصال السند من النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى إلى رواة الحديث الآخرين الذين وضعوها في الكتب، هذا من خصائص هذه الأمة انفردت بها.
يقول ابن حزم -رحمه الله تعالى-: نَقْل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم مع الاتصال. ولننتبه لكلام ابن حزم "مع الاتصال" لأننا ممكن نقول: قال صلى الله عليه وسلم يعني: نحن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أقف على المنبر أو في أي مناسبة أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا هنا رفعت الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكن أين إسنادي إليه؟ ولذلك هذا أمر آخر يتعلق بكيفية رواية الحديث الآن، وهذا يدرس أيضًا في مادة المصطلح، أنا فقط أنبه، يعني: نقل الثقة عن الثقة، يعني: الذين يقولون لنا لا بد أن يكونوا ثقات، يصل الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم متصلًا من غير انقطاع في السند خص الله به المسلمين دون سائر الملل.
وأما مع الإرسال والإعضال والطرق المشتملة على كذاب أو مجهول الحال، فكثير في نقل اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الملل الأخرى وأهل البدع والأهواء.
هذا نقل بتصرف من كتاب (الفصل في الملل والنحل) لابن حزم، وقول ابن حزم قول مشهور ونقله كثير من العلماء الذين يعرفون أن الرواية بالإسناد المتصل الذي لا خلل فيه ولا انقطاع بأي صورة من صور الانقطاع لا إرسال ولا أداء ولا انقطاع إلى آخره ولا تعليق، كل ذلك لا يوجد إلا عند النبي صلى الله عليه وسلم وفي تتمة قول ابن حزم تكاد تكون هناك أجيال منقطعة ليس جيلًا واحدًا ما بين كثير من الأنبياء وما بين أتباعهم الذين نقلوا لنا أخبارهم بعد ذلك.
وفي هذا الصدد نتحدى أن يأتي الآخرون بحديث متصل الإسناد في كتاب من كتبهم إلى نبيهم الذي يؤمنون به، بدون استثناء لأهل الملل والأديان جميعًا أن يأتوا بأسانيد متصلة من أول صاحب الكتاب الذي بين أيديهم الآن إلى نبيهم الذي يؤمنون به، وينقلون عنه ما ينقلون، هذا لا يوجد إلا في شريعة الإسلام ولنبينا صلى الله عليه وسلم ولديننا ولسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
إذن، هذه بعض خصائص الرواية في الإسلام الاهتمام بتصحيح الأخبار، وتحريم الكذب تدينًا، التأكد من مطابقة الخبر للواقع وللاعتقاد الاثنين معًا،