الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الخامس عشر
الرواية بالمعنى
تعريف الرواية بالمعنى، وبيان شروط ها وما يُستثني من جوازها
الرواية بالمعنى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد:
تعريفها: هي أن يؤدي الراوي الحديث بألفاظ من عنده، كلًّا أو بعضًا، مع المحافظة على المعنى بحيث لا يزيد فيه شيئًا ولا ينقص منه شيئًا، ولا يحرِّف ولا يبدل ولا يغير.
إذا نظرنا إلى هذا التعريف نجده قد احتوى على مجموعة من الأمور جدير بنا أن نعرفها:
1 -
أن يؤدي الراوي الحديث بألفاظ من عنده.
2 -
إما بعض الحديث إما كل الحديث.
3 -
مع المحافظة على المعنى. وهذا أمر مهم جدًّا.
4 -
بحيث لا يزيد فيه شيئًا ولا ينقص منه شيئًا، قد لا تحدث الزيادة ولا يحدث النقصان، لكن يحدث تغيير وتبديل، ولذلك يأتي أيضًا "ولا يحرف ولا يبدل ولا يغير".
هذا تعريفها، وقد تضمنت التعريف جملةً من الأمور التي ينبغي على الراوي بالمعنى أن يلاحظها، وسنبحثها في نقاط مستقلة بإذن الله.
أقوله إن هذه المناقشة للرواية بالمعنى كانت قبل عصر التدوين، أما بعد عصر التدوين فقد انتهت الحاجة إليها؛ لأن الرواية قبل التدوين كانت تعتمد على المشافهة بنسبة كبيرة في الأخذ والرد والتلقي والتحمل والأداء بين الرواة من شيوخ وتلاميذ في كل مكان وفي كل زمان، أما بعد تدوين السنة وأصبحت
السنة الآن معروفة بمصادرها الصحيحة، وعلى درجات متفاوتة في الصحة وفي غيرها، هذا أمر مقرر عند العلماء، لكن السنة الآن مدونة في بطون الكتب بفضل الله عز وجل.
فلا يجوز لأحد أن يروي الآن بالمعنى ما دام يمكن الرجوع إلى المصدر الذي تأخذ منه فلا بد من العودة إليه.
وهذا يجرني إلى أن أسمح لنفسي بأن أقول رأيًا في حكم الرواية بالمعنى الآن، أنا حين ذكرت آراء العلماء في الرواية بالمعنى لم أشأ أن أضع لنفسي رأيًا ولا يجوز، فأنا طالب علم وأنقل عن المشايخ العلم، إنما بالنسبة لهذه النقطة بالذات بدأت الكلام حتى أصل إليها؛ لأن هذا النقاش فعلًا في الرواية بالمعنى كان قبل التدوين، الآن هل يجوز لنا أن نروي بالمعنى؟
أقول: لا، هذه القضية الآن لا ينبغي أن تكون مثارة، إنما هي أثيرت لأن جزءًا من السنة نقل لنا بالمعنى، ولكنها دونت وأصبحت موجودة في بطون الكتب، لماذا لا ينبغي أن تكون مثارة؟ لأن السنة قد دُونت، مثلًا: أنا خطيب أخطب الجمعة، أو أنا أؤلف كتابًا، أو أكتب مقالًا، أو أي شيء يقتضي أن أستدل بأحاديث، ما هي الصعوبة في أن أعود إلى المصادر لأنقل منها الحديث بنصه وفصه ولفظه بدون زيادة أو نقصان؟ كان من الممكن أن نناقش قضية الرواية بالمعنى -كما قلنا- لو كنا في عصر المشافهة قبل عصر التدوين التام، أما الآن فالذي يريد حديثًا يرجع إلى بطون الكتب ويأخذ الحديث.
وما أيسر الحصول الآن على الأحاديث، يعني: التذييلات والاسطوانات والفهارس، يعني: في محاضرات سابقة ودروس سابقة قلنا: إن الحافظ من علماء أمتنا القدامى رحمهم الله حين كان يقول مثلًا عن حديث رواه البخاري لا بد أن يكون حافظًا للبخاري، رواه
الإمام أحمد يكون حافظًا لـ (مسند الإمام أحمد) وهكذا، وإلا فكيف يحصل عليه لم تكن هناك اسطوانات للحاسب الآلي كما هي موجودة الآن، لم تكن هناك فهارس للكتب إلى آخره، كان الحافظ يعتمد على ذاكرته.
أما الآن -الحمد لله- يسر الله على أبناء العصر بتيسيرات لا حصر لها، كل المطلوب بعض الهمة اليسيرة في البحث عن الحديث بلفظه؛ حتى لا تقع تحت طائلة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأنا أرجو أن أنقل هذا الإحساس لإخواني وأبنائي من أهل الدعوة ومن أهل العلم حين نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا دين يجب اتباعه، وما حاجتك الآن إلى الرواية بالمعنى، كما قلت الكتب في مصادرها الآن.
أيضًا هناك شرط اشترطوه وهي: البراعة في النحو، وفي البلاغة، وفي الفصاحة، وهذا يكاد يكون مفقودًا عند كثير من أبناء العصر، فأنا لا أبيح الرواية بالمعنى لقوم لم يتقووا جيدًا ولم يدرسوا اللغة جيدًا بفصاحتها وبلاغتها وتركيباتها ومفرداتها إلى آخره، ولم يدرسوا النحو لكي يضبطوا الكلمات من ناحية الإعراب ضبطًا دقيقًا، فلا أفتح الباب خصوصًا مع سهولة الحصول على الأحاديث بنصها.
كانت هذه استطرادة.
لكن نرجع لنلخص الشروط التي وضعوها للرواية بالمعنى للجمهور الذي أجازها: أن لا تجوز إلا لعالم بالألفاظ ومقاصدها، أن يكون بارعًا في النحو والصرف والأدب والبلاغة، أن يكون قادرًا على أن يؤدي الحديث خاليًا من اللحن ومن الركاكة ومن الضعف، أن يكون خبيرًا بما يحيل المعاني، وأن يكون بصيرًا بمقدار التفاوت بينها، وأن يوضح ما يدل على أنه قد روى الحديث بالمعنى، حتى لا يخدع
السامع، وحتى لا يظن السامع أنه قد أداه بلفظه فيأخذ من ورائه بدون تردد خصوصًا إذا كان الذي ألقى الحديث أحد الشيوخ، أو عالمًا كبيرًا، أو كذا، يعني ربما يخدع في البعض.
أيضًا قلنا: إن هذا الأمر كان قبل عصر التدوين، أما بعد عصر التدوين فقد انتهى الأمر، أو أغلق الباب.
مسألة جديدة الذين أجازوا الرواية بالمعنى استثنوا منها أمورًا وأحوالًا:
أولًا: الأحاديث المتعلقة بأسماء الله تعالى وصفاته لا تجوز روايتها بالمعنى؛ لأنها توقيفية، ولا يجوز التغيير فيها ولا التبديل، يعني: مثلًا بعض الكتاب حتى لو لم نشق عن قلب صادق ومخلص ويحب ربه ويحب نبيه صلى الله عليه وسلم ويحب الدين ويدافع عنه في بعض كتاباتهم مثلًا وهو يتكلم عن إتقان الله الصانع في كونه كله يقول: المهندس الأعظم، المخطط البارع، لا، هذا لا يجوز إطلاق هذا على الله عز وجل فما بالك لو استعملتها في أحاديث بالمعنى وغيرت أو استعملت وأنت تظن أنك على حق لا، هذه أسماء وصفات توقيفية لا يجوز لنا أن نصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه في القرآن الكريم أو في أحاديث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
أيضًا من الأحاديث المستثناة من جواز الرواية بالمعنى أحاديث العبادات كأحاديث التشهد مثلًا، وكأحاديث الأذكار، وكأحاديث الآداب، يعني: مثلًا أذكار الصباح، أذكار المساء، آداب الطعام، آداب اللباس، آداب النوم، الأذكار التي تقال عند كل هذه المواقف والمناسبات، التشهد في العبادة، هل يجوز لي أن آتي بتشهد من عندي مثلًا، حتى لو احتوى على أصدق الألفاظ وأقواها في الثناء على الله تعالى وعلى النبي صلى الله عليه وسلم لا؛ لأنها عبادات قصدت بذاتها وبألفاظها، فلا يجوز لنا أن نغير فيها أو أن نبدل، وإنما نأتي بها على ألفاظها.
أيضًا من الأحاديث التي لم يسمح العلماء بأن تروَى بالمعنى: أحاديث جوامع الكلمة منه صلى الله عليه وسلم أي: التي وصفت بأنها من جوامع كلمه، وهذه أشار إليها كثير من
العلماء وضربوا لنا أمثلةً مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة))، ((كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد))، ((كل شرط ليس في كتاب الله؛ فهو باطل))، ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) عبارات تكتب بماء الذهب احتوت على فوائد جميلة ودروس عظيمة، وهي مقصودة بذاتها وبحروفها وبألفاظها، فلا يجوز لنا أن نغير أو أن نبدل، ولنفترض أن أحدنا إذا نسي صيغة من الصيغ التي يتعبد بها فليتوقف عن استعمال النص، لكن لا تجوز له الرواية بالمعنى.
أيضًا الأحاديث المتواترة المشهورة: ((مَن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار))، ((بشِر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) إلى آخره، هذه أيضًا أحاديث فيها تواتر، وفيها جوامع كلم ولا تروَى إلا بألفاظها.
أيضًا كُتُب النبي صلى الله عليه وسلم التي أرسلها إلى أي جهة إلى الملوك إلى الرؤساء إلى غيرهم يدعوهم إلى الإسلام، لا يجوز لأحد أبدًا أن يروي بالمعنى؛ لأن هذه الألفاظ مقصودة فيه العبادات، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابًا في الصدقات وأرسله اليمن، لو أحدنا غير بعض الألفاظ ربما غير المعنى، ربما غير المقادير، حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم رسائل إلى ملوك الأرض ورؤسائها يدعوهم إلى الإسلام، فلا يجوز لنا أن نغير من هذه الكتب التي أرسلها، حين وقع النبي صلى الله عليه وسلم معاهدات مع اليهود الذين كانوا يساكنونه في المدينة، يعني: وضع فيها القواعد المنظمة لأمر المجتمع هل يجوز لنا أن نغير أو نبدل؛ لأن هذا التغيير وهذا التبديل قد يؤدي إلى فساد المعنى، أو اختلال الشروط، أو تطبيقها بطريقة خطأ أو فهمها بطريقة خطأ، كل ذلك لا بد من أدائه باللفظ.
أيضًا الأحاديث التي فيها مخاطبة كل قوم بلغتهم، مثل الحديث الذي عند مسلم مثلًا:((ليس امبر امصيام في سفر)) هل يجوز لي وأنا أرويه أن أقول: ((ليس من البر الصيام في السفر)) لا، لماذا؟ لأن من ضمن الدروس المستفادة من الحديث أن