الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأن السنة جزء مما أمر النبي -صلى الله عليه وسل م- بتبليغه، إذا لم نعتقد ذلك، فكأننا نقول بأن النبي -صلى الله عليه وسل م- يحدثنا بشيء لم يؤمر بتبليغه؛ أي يقوله من عند نفسه، وهذه طامة كبرى على من يتردى فيها، والعياذ بالله رب العالمين.
هنا نقطة سأوضحها بسرعة، وستكون لها تتمة في مبحث آخر يأتي بعد قليل ما هي هذه النقطة؟ هل معنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول شيئًا باجتهاده أبدًا؟ هل لا بد أن ينتظر الوحي في كل صغيرة وكبيرة قبل أن ينطق؟ أرجو أن نكون على ذكر من السؤال الآن لأن الإجابة ستأتي بعد قليل.
السنة وحي من عند الله
من الأدلة أيضًا على ضرورة اتباع السنة أنها وحي من عند الله، وما دامت وحيًا فقد وجب اتباعه:
أما أن السنة وحي من عند الله تبارك وتعالى فهذا أمر قامت عليه أدلة كثيرة من القرآن الكريم، ومن السنة المطهرة:
فمن القرآن الكريم قول الله تبارك وتعالى في سورة النجم {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} (النجم: 1 - 6) هنا الآيات في مطلع سورة النجم تبين أن النبي -صلى الله عليه وسل م- لا ينطق عن الهوى، وإن هو إلا وحي يوحى، الضمير في "هو" يعود على كل ما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (النجم: 1 - 3) إذا خصصت كما يحاول البعض في محاولة يائسة لزعم بأن السنة قد لا تكون وحيًا، هو هنا يريد أن يقول:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 4) يعود على القرآن الكريم.
لو قلنا ذلك، هذا تخصيص بدون مخصص، لم يسبق ذكر للقرآن الكريم في الآيات من مطلع السورة حتى يقال: إن الضمير يعود عليه وحده {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} بل إن الآيات في سياقها العام تؤكد أنها دفاع عن النبي -صلى الله عليه وسل م- الله تعالى يقسم بالنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم صلى الله عليه وسلم.
والتعبير القرآني البليغ العظيم آثر التعبير بقوله تعالى {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} ولم يقل: "ما ضل محمد" التعبير بالصحبة التي تعني الملازمة، وتعني الدراية الكاملة بكل أحواله، القرآن يؤكد أنكم تعرفونه، فقد صحبتموه، وعاش بينكم قبل النبوة أربعين سنة، وجربتم أخلاقه وصدقه وأمانته، ولا يستطيع أحد فيكم أن يزعم أنه كذب في يوم ما، ولو كذبة صغيرة أو بيضاء أو سوداء كما يحاول البعض أن يلون الكذب الآن بألوان متعددة؛ ليجيز بعضها ويمنع بعضها.
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} الدفاع عن النبي -صلى الله عليه وسل م- يقتضي بأن يكون السياق مقصودًا به القرآن الكريم والسنة المطهرة، وإلا لو قصرناه على القرآن الكريم ما ضل صاحبكم في القرآن، وما شأنه في السنة، لو أراد أحدهم أن يقصر الكلام أو السياق على القرآن الكريم {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ
…
} لو قلنا القرآن فقط إذن السنة أو ما قاله النبي -صلى الله عليه وسل م- من غير القرآن جاء به في ضل وغوى والعياذ بالله، نسأل الله السلامة من هذه الأفهام التي تتعارض مع الإيمان بوضوح.
إذن {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ} أي الذي ينطق به قرآنًا كان أو السنة المطهرة.
إذن هذا دليل، ونلاحظ أن الآية في مطلع سورة النجم جاءت بأسلوب القصر،
أسلوب القصر معروف عند البلاغيين، هو قصر شيء على شيء، ونفيه عمن عاداه، إذا قلت أنا مثلًا: محمد فاهم. هذه الجملة أثبتت الفهم لمحمد، لكنها لم تنفه عن غيره، فنقول: محمد فاهم وغيره أيضًا فاهم، لكن إذا أردت استعمالًا يثبت الفهم لمحمد، وينفيه عما سوى محمد، فلا بد أن آتي بالكلام في أحد أساليب القصر.
القصر أو الحصر كما قلنا: إثبات شيء لشيء، لو قلت في تعريفه إثبات شيء لشيء، وسكت، فهذا ليس بحصر أو ليس بقصر، كل إثبات شيء لشيء يدخل في هذا التعريف، لكن أنا أريد أن أصف شيئًا ما، أو أمرًا ما أو رجلًا ما، أو أي شيء واحد قابل للوصف أصفه بصفة توجد فيه، ولا توجد عند غيره. أنا أريد أن أقول أن هذا الشيء ليس موجودًا عند غيره، فأستعمل أسلوب القصر.
أسلوب القصر له أساليب متعددة، يعني كيف آتي بالكلام في أسلوب القصر؟ عن طريق تقديم ما حقه التأخير، يعني أن يأتي المبتدأ مثلًا متأخرًا، والخبر أولًا، ترتيب الجملة نحويًّا أن يأتي المبتدأ أولًا ثم يأتي الخبر ثانيًا، أو أن يأتي المفعول مقدمًا على الفعل والفاعل، أو أن يأتي الفاعل مقدمًا على الفعل، كل هذه من أساليب القصر.
إذا لم يكن المانع الذي يمنع من ترتيب الجملة نحويًّا مانعًا آخر فإنها حينئذ تفيد القصر، مثلًا حين يقول الله تعالى:{وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الجاثية: 37) أصل الجملة: الكبرياء له. الكبرياء: مبتدأ. وله: جر ومجرور متعلق بمحذوف خبر، لو قلت أنا: الكبرياء له. من الممكن أن يقول قائل: ولغيره أيضًا. لكننا أردنا أن نحصر صفة الكبرياء لله عز وجل وأن نقصرها عليه -جل في علاه- فقال القرآن: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ} أي أن صفة الكبرياء مقصورة على الله عز وجل ولا يحق لأحد من الخلق أن يتخلق بها أو أن يتصف بها، وإلا نازع الله تعالى في صفة من أخص صفاته التي لا يجوز لأحد من خلقه أن يتصف بها.
في قوله تعالى فيما نقرأه كل يوم عدة مرات في سورة الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) إياك: ضمير مفعول مقدم. والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن، ونعبد الفعل. وأصل الجمل نعبدك. لو قلنا: نعبدك. يقول قائل: ونعبد غيرك، فأراد الله عز وجل أن ينفي هذا المعنى، فأتى بالآية في أسلوب القصر.
أرجو أن يكون معنى القصر وضح من خلال هذه الأمثلة، كيف نقصر كما قلت عن طريق تقديم ما حقه التأخير، عن طريق أسلوب النفي والاستثناء الذي هو معنا الآن: لا فاهم إلا محمد، لا إله إلا الله، {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِير} (فاطر: 23) {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (الشورى: 48) هذه كلها أساليب قصر عن طريق النفي والاستثناء.
تقديم ما حقه التأخير، والنفي والاستثناء، أيضًا "إنما" إذا تقدمت الجملة تفيد القصر ((إنما الأعمال بالنيات)) أي الأعمال مقصورة على نياتها، لا عمل يقبل من غير نية، إنما الفاهم محمد، حصرت الفهم فيه.
وأيضًا من طرق إثبات القصر الجملة معرفة الطرفين يعني أن يكون المبتدأ والخبر كلاهما معرفة "الفاهم محمد" إذا أعربناها ممكن أن نقول: الفاهم: مبتدأ. ومحمد: خبر. إذن هذه جملة معرفة الطرفين، بعكس ما لو قلنا محمد فاهم. الخبر هنا نكرة، فلا تفيد القصر.
أنا لا أشرح أسلوب القصر لأنه في مادة البلاغة موضوع يدرس، إنما أنا الآن أوضح وأقرب المعنى لكي تتضح دلالة آية النجم على أن كل ما ينطق به النبي -صلى الله عليه وسل م- وحي {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ} يعني: قصر الله تعالى ما ينطق به النبي -صلى الله عليه وسل م- على كونه وحيًا، فلا يوجد في كلامه أبدًا شيء غير وحي، هذا معنى القصر {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} لم يقل مثلًا هذا وحي يوحى، قد يقول هذا وحي عن بعض كلامه، وبعض كلامه ليس وحيًا، لا، {إِنْ هُوَ} ما دام قلنا إن الضمير في هو يعود على كل ما ينطق به النبي -صلى الله عليه وسل م- أي كل ما نطق به مقصور على كونه وحيًا من عند الله، فهو لا يقول شيئًا غير الوحي.
هذه من الآيات الدالة على أن السنة وحي من عند الله تبارك وتعالى نحن نثبت أن السنة وحي؛ لكي نثبت وجوب اتباعها، فنحن ما زلنا مع الأدلة على حجية السنة.
أيضًا من الأدلة على كون السنة النبوية وحيًا من عند الله تبارك وتعالى ما ورد في أكثر من آية في القرآن الكريم عن الكتاب والحكمة، هذا المعنى ورد في سورة "البقرة {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} (البقرة: 129) وفي سورة آل عمران {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (آل عمران: 164) وورد في الأحزاب {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (الأحزاب: 34) وورد في سورة الجمعة.
إذن الحكمة ذكرت مع الكتاب وعطفت عليه، الكتاب والحكمة في الآيات هذه التي أشرنا إليها، هذا يقتضي أن الحكمة غير الكتاب، لماذا؟ لأنها معطوفة عليه، والعطف يقتضي المغايرة عند أهل النحو، أمر بدهي وواضح وجلي أن العطف يقتضي المغايرة، لا يصلح أن أقول: جاء محمد ومحمد، وأقصد أن محمدًا الثاني هو عين محمد الأول، لا يصلح، ولا يستقيم في الأذهان شيء أبدًا إذا قلنا بهذا الكلام، جاء أحمد وعلي، وعلي هو أحمد، ما هذا؟ هذا عبث في الفهم وفي النطق، ولو كان الأمر كذلك كل واحد يفهم الكلام على ما يريده وعلى ما يقوله، وهذا لا يؤدي إلى ثبات حقيقة من الحقائق أبدًا، وتلك هي السفسطة بعينها، كما عرفوها في تعريفاتهم.
إذن ما دام الله تعالى قد عطف الحكمة على الكتاب، فإن الحكمة غير الكتاب {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (الأحزاب: 34) الحكمة غير الكتاب، إذن هذا يقتضي أن نؤكد أن الحكمة ليست هي القرآن
الكريم، إذن هي شيء غير القرآن الكريم بدلالة العطف، ثم هذه الآيات التي أشرنا إليها يكمل معناها بآية أخرى، ولذلك هذا الدليل الذي هو إثبات أن السنة وحي من خلال هذه الآيات إنما أيضًا يكمل بعضها بعضًا، أشرنا إلى أربع آيات في البقرة وآل عمران والأحزاب والجمعة، كلها تبين أن من مهام النبي -صلى الله عليه وسل م- أن يعلم الأمة الكتاب والحكمة، وأن الحكمة بالضرورة هي غير الكتاب لأنها عطفت على الكتاب، والعطف يقتضي المغايرة.
ننتقل إلى آية النساء {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} (النساء: 113) ثم قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (النساء: 113) فالحكمة والكتاب كلاهما نازل من عند الله تعالى.
الآيات التي قرأناها: في البقرة، وفي آل عمران، وفي الأحزاب، وفي الجمعة أثبتنا من خلالها أن الحكمة غير الكتاب بدلالة العطف الذي يقتضي المغايرة، ثم أضفنا آية النساء التي أضافت معنى جديدًا، وقد بينت أن الحكمة نازلة من عند الله تبارك وتعالى كالكتاب تمامًا الذي هو القرآن.
لو اقتصرنا على الآيات الأربع التي أشرنا إليها من غير آية النساء ربما قال قائل: الحكمة غير الكتاب، لا بأس، لكنها ليست من عند الله تعالى، تأتي آية النساء لتوضح في جلاء لا يقبل الجدل أن الحكمة وحي من عند الله تبارك وتعالى لأن الله -وتعالى- قال {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (النساء: 113) إذن مجموع هذه الآيات أثبت أن الحكمة غير الكتاب، وأن الحكمة نازلة من عند الله تبارك وتعالى كما نزل الكتاب الكريم، أي كما جاء القرآن الكريم تمامًا.
بقي أن نقول: إن الحكمة هي السنة؛ يعني يقول قائل صدقنا أن الحكمة غير الكتاب، وأن الحكمة نازلة من عند الله تبارك وتعالى فهل معنى ذلك أن الحكمة هي السنة؟ نعم، بعدة دلالات، أولًا أفهم الأمة، الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- يقول في (الرسالة) وفي غيرها من الكتب، يقول:"فسمعت من أرضى من أهل العلم يقول إن الحكمة هي السنة" يعني: الذي يرضاه الإمام الشافعي من أهل العلم أجمعوا على أن الحكمة هي السنة.
وهناك دليل عقلي في هذه المسألة، لو لم نقل بأن الحكمة هي السنة فبماذا نقول عنها؟ أو بماذا نعرفها؟ أو ما هي؟ لا بد بالضرورة أن تكون الحكمة هي السنة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسل م- لم يأتنا بغير القرآن والسنة.
النبي -صلى الله عليه وسل م- جاءنا بالقرآن الكريم فقط، وبالسنة المطهرة فقط، وما دام لم يأتنا بغير هذين فإن الكتاب معروف، ولا بد من حمل الحكمة على كونها السنة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسل م- لم يأت بغير هذين الأمرين، وإذا كان البعض سيتوقف في هذا الفهم، فليدلنا، إذا لم تكن الحكمة هي السنة فماذا تكون؟ ولذلك قلنا إن الأمر حتمي بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسل م- لم يأتنا بغير القرآن والسنة، وفي هذا الأمر نقاط أو مسائل.
المسألة الأولى: أن السنة وردت في سياقات في القرآن الكريم مضافة إلى كثير من البشر أنهم قد أتوا الحكمة مما يجعلها في هذه السياقات غير السنة، نعم، إذا قال الله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} (لقمان: 12) فلا يمكن أن نفهم أن الحكمة في هذا السياق هي سنة النبي -صلى الله عليه وسل م-. لقمان كان قبل النبي -صلى الله عليه وسل م-.
أيضًا حين يقول الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (البقرة: 269) ليكن معنى الحكمة ما يشاء، يكن معنى الحكمة ما يكون، أنا أتكلم عن الآيات التي جاءت
في سياق حديثها عن النبي -صلى الله عليه وسل م- هذا الذي يعنينا، لتكن الحكمة في غير هذه الصياغات، وفي غير هذه السياقات ما يكون، قل عنها ما شئت، هي الإلهام، هي حسن التصرف، هي كذا، كما يعرفونها في الكتب، لكن في الآيات التي قرأناها من آية سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة الأحزاب، وسورة الجمعة مع سورة النساء، كل ذلك واضح في أنه لا يمكن حمل الحكمة هنا على غير السنة المطهرة.
إذًا لا يشكل عليَّ أن الحكمة جاءت في سياقات أخرى مرادًا بها غير سنة النبي -صلى الله عليه وسل م- ليكن، والكلمة نستعملها في أكثر من معنى، والسياق هو الذي يحدد المعنى.
إذن لا يشتبه علي، ولا يشكل لي مشكلة أن الحكمة جاءت في تعبيرات كثيرة في غير سياقها مع القرآن الكريم لا بأس كل من أتى الله يعني آتاه الله تعالى الحكمة، ليكن فهم الحكمة في شأنه ما يشاء، لكن الآيات التي نزلت على نبينا -صلى الله عليه وسل م- وحفظناها، ووعيناها، وقرأناها، وأصبحت جزءًا من ديننا تقطع بأن الحكمة في هذه السياقات لا بد أن تكون هي السنة.
إذن هذه آيات من القرآن الكريم بمجموعها وصلنا إلى أن الحكمة هي السنة، وتكون السنة وحيًا من عند الله تبارك وتعالى.
عندي أيضًا جملة من الأحاديث، مثلًا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، الذي هو قد رواه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص يحكي:"كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهتني قريش عن ذلك، وقالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسل م- بشر، يتكلم في الغضب والرضا".
معنى أنهم قالوا ذلك لعبد الله بن عمرو بن العاص يعني: احذر أنت تكتب كل ما يخرج من النبي -صلى الله عليه وسل م- وقد لا يكون بعض هذا أو بعض ما يقوله ليس سنة، انتظر.
إذا كانوا قد قالوا له ذلك، فما الحل؟ هو رفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو الأستاذ، وهو المعني بالمسألة نرفعها إليه فماذا يقول؟ فرفعوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:((اكتب فوالذي نفسي بيده، فما خرج مني إلا حق)) اكتب فعل أمر يعني ما خرج مني إلا حق، يعني كل الذي أنطق به حق من عند الله تبارك وتعالى هذا واضح حق {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (يونس: 32).
فنحن أمة الإسلام ليس لنا من حق إلا ما جاءنا من عند الله عز وجل فما دام النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا بالحق، فهذا الحق له مصدر واحد، وهو الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ولذلك هذا الحديث يقتضي أن نوقن بأن السنة وحي من عند الله تبارك وتعالى.
أيضًا الحديث الذي رواه الإمام أبو داود وغيره من كلام النبي صلى الله عليه وسلم عن الحديث المقدام بن معد يكرب أو كرب ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)) أوتيت الكتاب، وهو القرآن، وأوتيت الكتاب هنا "أوتيت" فعل مبني للمجهول تدل على أن هناك من جاء بالقرآن للنبي صلى الله عليه وسلم. النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالقرآن إليه ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)) لم يقل ألا إني جئت بالكتاب مثلًا أو إني أتيت بالكتاب، إنما أوتيت الكتاب ومثله معه.
الكتاب معروف، وهو القرآن الكريم، فما هو ذلك المثل الذي معه؟ إنه السنة، وحتمًا لا بد أن تكون السنة، وإذا لم يقتنع البعض بهذا سنطرح عليهم السؤال مرة ثانية، إذا لم يكونوا مصدقين بذلك فليخبرونا ما هو هذا المثل الذي أعطاه الله تعالى لنبيه مثل القرآن الكريم تمامًا، لا شيء غير السنة ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)) هذه المثلية لا تحمل إلا على غير السنة المطهرة.
إذن هذه بعض الأدلة على أن السنة وحي من عند الله تبارك وتعالى بقي أن أجيب على السؤال الذي أثرته، ولم أجب عليه، هل حين نقول إن السنة وحي من عند
الله تبارك وتعالى فيتحتم ألا ينطق بها النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد مجيء الوحي إليه؟ بمعنى أنه لا يجتهد أبدًا، ولا يقول قولًا إلا بعد أن يأتيه الوحي في أي صورة من صور الوحي المعروفة؟
نقول: لا، الرسول -صلى الله عليه وسل م- قد يجتهد في بعض الأمور، وعندنا سياقات ومواقف كثيرة تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسل م- تكلم باجتهاده مثلًا قصة المشهورة في غزوة بدر، سواء في الأسرى أو في المكان الذي ينزلون فيه، الحباب بن المنذر، وحين شاور النبي -صلى الله عليه وسل م- أصحابه، وحين جاءته الأخبار أن أهل مكة يستعدون لقتاله قبل أحد بقليل جمع الصحابة وشاورهم.
هذا كله يدل على أنه لا يوجد وحي قبل الاستشارة، وإلا لما استشار النبي -صلى الله عليه وسل م- أصحابه في واقعة قال فيها الله تعالى ما يريده من خلقه.
نقول: نعم، هناك قسم من السنة قاله النبي -صلى الله عليه وسل م- باجتهاده، لكن هذا القسم من الوحي أيضًا كيف؟ كيف ونحن أقررنا بأنه قد يتكلم قبل مجيء الوحي؟ هو من الوحي لماذا؟
الذي قاله النبي -صلى الله عليه وسل م- باجتهاده واحد من أمرين، إما أن يكون مصيبًا، وإما أن يكون مخطئًا، فالوحي يقره، ولا يتركه، إذا احتاج الأمر إلى تصويب وتصحيح صحح له، وإن كان قد قال الصواب والحسن من أول الأمر انتهت القضية، إذا قلنا مثلًا {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} (عبس: 2) على رأي من يقولون إن الآية عتاب لرسول الله -صلى الله عليه وسل م- نقول: إذن هو اتخذ هذا الموقف قبل مجيء الوحي، فلم يتركه الوحي، وإنما صوب له.
أيضًا في قصة أسرى بدر حين شاور أصحابه جاءه الوحي، وهكذا مواقف كثيرة تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسل م- قال بادئ ذي بدء باجتهاده، لكن هذا القسم أيضًا مرده
إلى الوحي باعتبار أن الوحي؛ إما أن يوافقه فيما قاله أو يصحح له إذا كان الأمر يحتاج إلى تصحيح، وبالتالي فإن هذا القسم الاجتهادي، إن صح التعبير أو الذي قاله النبي -صلى الله عليه وسل م- مرده أيضًا إلى الوحي، إما بالإقرار، وإما بالتصحيح على حسب ما يحتاجه الموقف.
ونخلص في نهاية هذه النقطة إلى أن السنة كلها وحي من عند الله تبارك وتعالى ونعود إلى كلامنا الأول، وهو الكلام عن حجية السنة فنقول: ما دمنا قد أثبتنا أن السنة وحي من عند الله تبارك وتعالى فالوحي يتحتم على المتبعين له والمؤمنين به أن ينفذوه، وأن يمتثلوا له، وإلا فلن يكونوا قد آمنوا بما جاء به هذا الرسول الكريم -صلى الله عليه وسل م-.
أيضًا من أدلة حجية السنة كما قالها العلماء، فهم الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- كل الأدلة الواردة عن الصحابة -رضوان الله عليهم- تبين في جلاء ووضوح لا يقبل أدنى مناقشة في أن السنة يجب اتباعها.
مواقف كثيرة جدًّا، سأل فيها الصحابة النبي -صلى الله عليه وسل م- عن حكم من الأحكام الشرعية لماذا اتجهوا إليه، ولم يبحثوا عنه في القرآن الكريم، وينتهي الأمر بعد ذلك؟ كل الأحاديث التي نستشهد بها هنا في الصحيحين أو في أحدهما، حين تأتي أم سليم إلى النبي -صلى الله عليه وسل م-:"يا رسول الله لا حياء في الدين هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت" هذا حديث مروي عن البخاري ومسلم في كتاب الطهارة، وكتاب الغسل؛ يعني المرأة إذا احتملت يجب عليها الغسل؟ لماذا اتجهت أم سليم بالسؤال إلى النبي -صلى الله عليه وسل م-؟
الأمر ليس موجودًا في القرآن {إِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ؟ (المائدة: 6) لكن ليس بهذا الوضوح أن الاحتلام أو غير احتلام، ربما يتصور الرجل أو المرأة أنها
إذا احتملت فهي غير جنب، فلا يجب عليها الغسل، لذلك سألت النبي -صلى الله عليه وسل م- عن ذلك، وأجابها النبي -صلى الله عليه وسل م- وبين لها أنها إذا رأت الماء فعليها أن تغتسل أي: إذا تأكدت من الاحتلام بنزول المني فعليها أن تغتسل.
أيضًا مثلًا علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين يرسل رجلًا للنبي -صلى الله عليه وسل م- يسأله عن المذي يقول: "كنت رجلًا مذاء، وكنت أستحي من النبي -صلى الله عليه وسل م- لمكانة ابنته عنده" يعني هو زوج ابنته، فيستحيي أن يأخذ النبي -صلى الله عليه وسل م- انطباعًا غير جيد أو غير صحيح، فبالتالي كلف من يسأل مكانه عن حكم المذي، وماذا يفعل صاحبه فيه؟
وهناك مواقف أخرى للصحابة تؤكد هذا الأمر أن الصحابة جميعًا قد فهموا أن السنة حجة، وأنه يجب العمل بها، والرجوع إليها في كل شأن من شئون المسلمين.
هذا وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم بارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.