الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا العقل ولا الطب في شيء مما سنذكره فيما بعد، لكن نحن أشرنا إلى المسألة الأولى وهي أنه قد ورد في دواوين السنة وبطرق صحيحة، ومن طرق الصحابة الأربعة وأن أبا هريرة رضي الله عنه لم ينفرد بروايته.
الشيخ الألباني أيضًا في دراسته لهذا الحديث في (سلسلة الأحاديث الصحيحة)، تكلم عن هذا الحديث، وذكر له ثلاثة طرق، وهي من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وأنس رضي الله عنهم ولم يشر لحديث علي بن أبي طالب، الذي أضافه الشيخ ملا خاطر -رحمه الله تعالى-.
وفي بعض روايات الحديث عن الزيادات: ((وإنه ليتقي بجناحيه الذي فيه الداء، فليغمسه كله)) ماذا يتقي؟ يعني: هو حين ينزل في السائل ينزل بجناحه الذي فيه الداء، ثم عليك أن تغمسه؛ لتَحدث المعادلة.
إذن الحديث في أعلى درجات الصحة، ونفعل ذلك لأنه -كما قلت- ينزل بالجناح الذي فيه الداء، فإذا غمستَه كله في الإناء قوبل الداء بالدواء أو بالترياق، فتحققت المعادلة، وتحقق الغرض الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
المعجزة النبوية في حديث الذباب، ودفع شبهة تعارضه مع الطب
يقول الشيخ محمد أبو شهبة رحمه الله في كتابه الطيب (الدفاع عن السنة) وضع له عنوانًا من ضمن العناوين في دراسة الكتاب، بين أنه معجزة نبوية ليس حديثًا عاديًّا فقط، وإنما هو معجزة نبوية.
يشير الشيخ ملا خاطر إلى قضية جميلة طريفة كأسلوب من أساليب الرد على الشبه، هناك أمر مستغرب وهناك أمر مستحيل؛ المستحيل هو الذي يستحيل وقوعُه، أما المستغرب فيعود إلى ضعف المتصور نفسه وعدم إدراكه؛ يعني:
الأمر مستغرب بالنسبة لي، أنا لا أستطيع أن أفهمه، كثير من الناس يخلطون بين المستحيل وبين المستغرب، وحتى في غير التشريعات، لو أن أحدنا جاءنا يحدثنا عن أمر مستغرب؛ كنا نستغرب الطائرات في أول الأمر، كنا نستغرب النزول على سطح القمر، كنا نستغرب أمور كثيرة، كنا نستغرب أن ينتقل البث التلفازي في أي مكان في الأرض إلى كل أرجاء الأرض في وقت واحد، كل ذلك لو تحدثتَ به منذ خمسين سنة أو منذ مائة سنة أو مائتي عام لكان ضربًا من الجنون. الآن أصبح أمرًا واقعًا يعيشه الناس، ويدركونه، فهناك أمر مستغرب لكنه مستحيل.
يوضح الشيخ المثل يقول: لو جئت مثلًا برجل عامي وكلمته عن الأوزون، وعن اختراقه، وعن هبوط الإنسان على سطح القمر، ربما استبعد ذلك جدًّا، بل في استبعاده ربما رأى أنه مستحيل، لكن الذين تمرّسوا في المسائل العلمية لا يستبعدون هذا، فهناك فرقٌ بين أن تستبعد وتقول له: مستحيل، وبين الاستغراب.
الإسلام -بفضل من الله تعالى- ليس فيه أبدًا ما يخالف العقلَ، ولا ما يرفضه الواقع، ولا يحكم باستحالته، إسلامنا -بفضل الله عز وجل بريء من كل هذا، بل أنا دائمًا أقول في مناسبات كثيرة: إننا نفخر بإسلامنا، ليس في إسلامنا ما نخجل منه، ولا نحاول أن نداريه ولا نتمنى أنه لو لم يكن، لا، كل ذلك غير وارد بالنسبة للإسلام.
إسلامنا نأخذه من المصادر الصحيحة من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة.
إذن، قد يُقبل استغراب البعض لهذا الحديث لكنه لا يقبل منه أبدًا أن ينكره، أو أن يحكم باستحالته، وعلاج الاستغراب واضح، الاستحالة نوع من العناد إنما
الاستغراب المعالجة له بمزيد من العلم، الأمر الذي تستغربه أدرسه علميًّا وشاور فيه أهل الاختصاص، وانظر مدى إمكانية وقوعه، أو هل العلم يؤيده؟ هل الواقع يؤيده أو هل العقول تقبله؟ أما أن تبني رفضك له على استغرابك له، فهذا ما لم يقل به أحد من قبل.
ولذلك ننتهي إلى أن الحديث صحيح، وأن الأمة قد أجمعت عليه، وأن أحدًا من علمائنا الأثبات القدامى الذين نظروا في السنة ومَنحوا الإجماع لـ (صحيح البخاري) و (مسلم) لم يتوقفوا مع هذا الحديث، بل تلقوه بالقبول، ولا تجد رواية واحدة أعلت هذا الحديث بأي نوع من أنواع العلل.
يقولون: كيف ألهم الله الذباب من وجوه قولهم: أنه يتعارض مع العقل، كيف الهم الله الذباب أن ينزل بالجناح الذي فيه الداء؟! هل له إدراك وأنه يحمل في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء؟! وكيف ينزل بالجناح الذي فيه الداء؟ وهل الذباب عاقل حتى يدرك ذلك كله؟!
نقول: ما دام الكلام بالعقل -كما يقولون-: هناك مخلوقات كثيرة فيها نفس القضية أو غيرها، مثلًا الحية مليئة بالسم وفيها الترياق أيضًا، النحل فيه السم وفيه العسل، كل ذلك يعرفه أهل العلم، النملة تحمل الحَبّة وهي تحملها تخرقها، لكي لا تنبت؛ حتى تستطيع أن تحتفظ بها، يعني: عشرات المخلوقات التي ليست من أصحاب العقول بالمستوى الذي نتصوره في العقل تصدرُ عنها أفعال عاقلة، بل في قمة النضج، بل مليئة بالحكمة.
فهذا كله ثابت بالأدلة، ثابت بالواقع العملي الذي نراه، كل الحيوانات التي تتقي الخطر عن نفسها؛ لأن هناك فطرة فطر الله المخلوقات كلها عليها، ليس شرطًا أن يدرس المخلوق من الحيوانات في جامعة علمية، أو أن يدخل إلى المعامل التجريبية، إنما هناك فطرة فطَر الله تعالى الخلق جميعًا عليها، ومن هؤلاء الخلق
كل المخلوقات، وكل صنف من المخلوقات أمة من الأمم:{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 38).
النحلة تخرج العسل والسم، الحية فيها السم وفيها الترياق، ويستفيد أهل الصيدلة جدًّا من سمها ومن ترياقها أيضًا، الهدهد الذي تكلم في:{أَلَاّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (النمل: 25) النملة التي قالت: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} (النمل: 18) كل هذه المخلوقات التي تبحث لنفسها عن مأوى عن مهرب، بمجرد أن ترى الخطر أو حتى تلمحه ولو من بعيد، حين يرى حيوانٌ ضعيف حيوانًا مفترسًا فإنه يهرع بالفرار وبالهروب حتى لا يتعرض لأذاه، ما الذي حرك كل ذلك؟ هذه المخلوقات بالفطرة، فاستبعاد أن يدرك الذباب أن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء، رددنا عليها بالمخلوقات نفسها، ولم نذكر عشرات، وأعتقد أن كل واحدًا يعني يرى ذلك جيدًا جدًّا في كل الحيوانات المحيطة به.
ائتِ أي حيوان مثلًا وألقي به في النار، واترك له الحرية في أن يبتعد عنها، قطعًا لن يدخل، كيف عرف هذا؟ هل هناك عقل كما يقولون؟ هذا أمر فطري فطره الله عليه، لماذا يفر الفأر حين يرى القط مثلًا؟ ولماذا يهرب القط حين يرى الكلب؟ أسئلة تبين في وضوح وجلاء أن الفطرة عرفت الذباب هذا الأمر، ثم إن الذي خلق فيه الدواء والداء هو الذي ألهمه بذلك، لماذا نستبعد هذا:{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا مما في بطونه من بين فرث ودمًا لبنًا خالصًا} (النحل: 66)، سبحان الله! استبعدت أن يلتقي الترياق مع الداء في كائن واحد ها هو القرآن يتحدث:{مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِين} (النحل: 66) دم وفرث وكلاهما متعب يخرج من بينهم شراب خالص سائغ للشاربين، وهو اللبن الطيب الذي نشربه بفضل الله عز وجل نعلمه جميعًا.
إذن، أي عقل يستبعد أن يدرك الذباب هذا الأمر، وقد ضربنا له أمثلة كثيرة.
إذن، هذا ليس مخالفًا للعقل، إنما الأدلة عليه أتكلم من ناحية إدراك الذباب لما فيه من أمور الخلق، وأنه ينزل بالجناح الذي فيه الداء ليتقيَ ثم علينا أن نغمسه.
ننتقل إلى رد آخر: الحديث هل فيه أمر بضرورة فعل ذلك؟
لم يفهم أحدٌ من العلماء أبدًا بالقول بوجوب ذلك، وهم يشرحون الحديث، وأنا هنا أحيل على شرّاح الحديث من كتب السنة، في (فتح الباري) وفي غيره من كتب شروح البخاري وشروح السنة كلها، ومن كتب الطب التي تعرضت له ومن غيرها -غيرها كثير- أحيل عليها؛ لأبين أن أحدًا من علماء الأمة لم يقل بالوجوب، ماذا يعني هذا الكلام في الرد عليهم؟ يعني: إذا طابت نفسك بالاستفادة من هذا المشروب أو السائل الذي في الإناء، إذا وقع فيه الذباب فافعل ذلك، وإن لم تفعل فاطرحه، إذا لم تقبل، فاطرحه، لكن لا تعترض على الحديث، لمجرد أنك تستبعده أو تستغربه.
وقد ضربنا له الصلة بما يشابهه وبما هو أقوى، بما لا يقل عنه في الغرابة إذا أردت أن نستغرب، لكن في ليس في الاستحالة، واستدللنا بالقرآن، هم في السنة يجترءون ويقولون: هذا حديث آحاد وربما أخطأ الراوي، وما إلى ذلك، فماذا سيقولون في القرآن:{مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِين} ، وحينما أثبت الإدراك للهدهد وللنملة وللسماء والأرض:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين} (فصلت: 11).
هذه أدلة كثيرة تدل على الإدراك عند هذه المخلوقات، الإدراك الذي خلقه الله تعالى بما يريد وكيف يريد بالفطرة، وليس شرطًا أن تكون لها عقول كما يتوهم الواهمون، حتى تدرك هذه الأشياء.
أقول في الاستدلال الآخر: ما الذي في الحديث من غريب؟
إذا لم تطب نفسك باستعماله فأرِقْه، لكن -كما قلت- لا تعترض على الحديث، بل إني سأنتقل إلى النقطة الأخرى، وأقول: إن في هذا الحديث سبقًا اقتصاديًّا عظيمًا؛ إنه سبق اقتصادي يتناسب مع المجتمعات المتوسطة والفقيرة.
لو أن الذباب وقع مثلًا في إناء من العسل فيه جملة من الكيلوات، لو وقع في إناء من اللبن، لو وقع في إناء من السمن، أنلقي ذلك كله ونرميه؟ نقابل ربنا بأي وجه، وهب أنك ستقول: إنك رجل غني تستطيع أن تعوض ما ألقيته من هذا، فماذا يفعل الفقراء؟
دائمًا أقول: هاتِ أي سيدة من سيداتنا الحريصات على البيوت وعلى المعاش كما نعرفها جميعًا، واطلب إليها إذا وقعت ذبابة في إناء من العسل أو من اللبن أو من السمن أو من غير ذلك مما له قيمة وقل لها: ألقيه في اليم أو في الأرض ولا تستعمليه! ستستغرب ذلك جدًا، وستحاول بفطرتها أيضًا وبعقلها أن تتغلب على ما قد يقال: إنه من الضرر، مثل: أن تدخله النار مثلًا، أن تغليه في النار أو أن تقدحه في السمن حتى تموت الميكروبات، حتى من غير أن ترى أن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء، لكنها بفطرتها بحرصها سيشق عليها جدًّا أن تهدر هذا الأمر الذي يتكلف مع غلاء الزمان الذي نعيش فيه.
أقول: إن هذا الحديث سبق اقتصادي، وتفوق في التجاوب مع الظروف الاقتصادية التي تطرأ، وتصبح هذه الأشياء غالية، مع أننا يمكننا أن نستفيد بها من غير ضرر -بإذن الله رب العالمين-.
وقد لا يروق للبعض هذا الرد -التفوق أو السبق الاقتصادي- أقول: ليس في الحديث إجبار على أن تستعمله، لكن لا تنكر عن الذين تستعملونه، الآفة أنهم
لا يقبلون غير رأيهم، حتى لو قلنا: المسألة اجتهادية، هي ليست اجتهادية؛ لأنه حديث، لكن ليست واردة بأدلة غير الحديث حتى نجتهد فيها، إنما نجتهد في فهمها، والعجب أنهم لا يكتفون بجرأتهم على الحديث، بل الشيطان يسول لهم ويملي لهم ويزين لهم أنهم يدافعون عن إسلامهم، وأننا الذين نتمسك بهذه الأحاديث نحن الذين نأتي بالاتهام للسنة المطهرة.
إذن، فيه سبق اقتصادي، ليس فيه أمر بضرورة الاستفادة بهذا الأمر، بل كما قلت خلاصته: أنك إذا طابت نفسك باستعماله فعلى الرحب والسعة، وإذا لم تطب من الممكن أن تريقه، لكن في كل الأحوال ليس من المسموح لك أن تعترض على الحديث الذي أجمعت الأمة على تلقيه بالقبول.
أيضًا، قضية أن الحديث يتعارض مع الطب في أن الذباب يحمل الجراثيم، اقرءوا الحديث جيدًا، وليأتِ أحدنا بأي نص أو بأي جملة في الحديث تقول: إن الذباب لا يحمل الجراثيم، هم يحمّلون للحديث؛ لأنهم أصلًا لم ينظروا فيه وفي دراسته، ولم يقرءوا أقوال العلماء، إنما يسارعون بالهجوم من غير تبدر وتأمل وتفكير ورويّة. بل بالعكس، هو يقرّ إن في أحد جناحيه داء، هذا هو الضرر، وهو يدلنا على كيفية اتقاء هذا الضرر بأن نغمسه فيه.
إذن، ليس في نص الحديث أبدًا ما يجعلهم يقولون: إن هذا يتعارض مع الطب؛ لأن الذبابة حاملٌ للجرثومات أو للأمراض، بل أقول: إن هذا الحديث يؤكد هذه الحقيقة؛ لأنه بين لنا أنه يحمل في أحد جناحيه داء، والله عز وجل بفضله وبمنه وبكرمه وضع ترياقًا مقابلًا لهذا الداء في الجناح الآخر، وكل المطلوب منك إذا أردت أن تستفيد من هذه المادة التي وقع فيها الذباب، أن تغمسه فيه، ثم تنزعه وتطرحه بعيدًا عن الإناء، ثم استفِدْ بهذا الذي في الإناء إن قبلت وإن أردت.
إذن، الحديث لم يُنكر أن في الذباب جراثيم وبلاء، بل هو يدلنا على اتقاء هذه البلاءات التي في الذباب نفسه، ثم -في فهمي- الحديث يحمل رحمةً من الله تعالى للناس جميعًا، وليس للمسلمين فحسب، كيف؟ الذباب لا نستطيع أن نتقيه، هو يملأ حياتنا، صحيح نقاومه بوسائل متعددة، لكننا لا نقضي عليه تمامًا، يعني هو في حياتنا إن شئنا أو أَبينا، يدخل علينا حجرات نومنا، ويلقي بنفسه على طعامنا ونحن نتناوله، رغم أخذنا بالأسباب الاحتياطية، فالله تعالى من رحمته ومن كرمه ومن فضله ومن إحسانه على هذه الأمة، أنه يعلم بعلمه الكشفي الإحاطي، أنهم لن يستطيعوا أن يدرءوا الذباب عن أنفسهم مهما حاولوا، فأوجد لهم هذه الطريقة التي تدفع ضرر الذباب عنهم.
بما أنك لن تستطيع أن تدفع الذباب فاستعمل هذه الفائدة الإلهية، بأن تطرحه في الإناء إذا وقع فيه، إذا لم يقع فيه فلا مشكلة، أين المشكلة! أما إذا وقع فيه وأردت أن تستفيد به فافعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فالحديث سبق أيضًا، وفضل، وكيف يخفى ذلك.
يقول الشيخ ناصر الألباني رحمه الله: والحقيقة أن الحديث لا يخالف الأطباء في ذلك -أي: في أن الذباب يحوي الجراثيم- بل هو يؤيده؛ إذ أخبر أن في أحد جناحيه داء، ولكنه يزيد عليهم -أي: على أهل الطب- وفي الآخر شفاء، فهذا مما لم يحيطوا بعلمه، فوجب عليهم الإيمان به إن كانوا مسلمين، وإلا فالتوقفُ إذا كانوا من غير المسلمين إن كانوا عقلاء؛ لأن العلم الصحيح يشهد بأن عدم العلم بالشيء لا يستلزم عدمه، يعني: أنا لا أعلم أن محمدًا قد سافر، فهذا لا ينفي أنه قد سافر، فالذي ينفي الشيء؛ لأنه لا يعلم به -يقول: هو غير موجود- هو يتصادم مع بدهيات العقول، هو رتّب نتيجةً على مقدمة لا
تُؤيده في ذلك، أنا لا أعلم بهذا الشيء يكون غير موجود، هذا ما لم يقل به أحد من العقلاء ولا من العلماء.
وننتقل الآن إلى جانب آخر من جوانب الرد على الشبهات وهو أخطر مشكلة من المشاكل التي أثاروها، وهو أن الطب الحديث أثبت أن الذباب ضار وليس في أحد جناحيه وفي الآخر دواء:
هذه الفرية يرد عليها أيضًا العلماء الذين تكلموا في هذا، الشيخ ناصر الألباني يقول: وقد قرأت قديمًا -يشير إلى مجلةٍ علمية قرأها قبل ذلك-: لا مانع من أن أنقل إلى القراء خلاصة محاضرة ألقاها أحد الأطباء في جمعية الهداية الإسلامية في مصر حول هذا الحديث، فيقول هذا الطبيب: يقع الذباب على المواد القذرة المملوءة بالجراثيم التي تنشأ منها الأمراض المختلفة، فينقل بعضها بأطرافه ويأكل بعضها، ويتكون في جسمه من ذلك مادة سامة يسميها علماء الطب مبعد البكتيريا، وهي تقتل كثيرًا من جراثيم الأمراض، ولا يمكن لتلك الجراثيم أن تبقى حيةً أو يكون لها تأثير في جسم الإنسان في حالة وجود مبعد البكتيريا هذا، وأن هناك خاصية في أحد جناحي الذباب هو أنه يحول البكتيريا إلى ناحيته.
وعلى هذا، فإذا سقط الذباب في شراب أو طعام وألقَى الجراثيم العالقة بأطرافه في ذلك الشراب، فإن أقرب مبيد لتلك الجراثيم وأول واقٍ منها هو مبعد البكتيريا الذي يحمله الذباب في جوفه قريبًا من أحد جناحيه، فإذا كان هناك داء فدواؤه قريب منه، وغَمْس الذباب كله وطرحه كافٍ لقتل الجراثيم التي كانت عالقةً، وكافٍ في إبطال عملها.
هذا كلام الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- نقلًا عن أحد الأطباء.
ويتكلم أيضًا الشيخ محمد أبو شهبة -رحمه الله تعالى- في كتابه (الدفاع عن السنة): وقد شاء ربك العالم بما كان وبما يكون أن يظهر سر هذا الحديث، وأن
يتوصل الأطباء إلى أن في الذباب مادة قاتلة للميكروب، فيغمسه في الإناء، تكون هذه المادة سببًا في إبادة ما يحمله الذباب من الجراثيم، التي ربما تكون عالقةً به.
وبذلك أصبح ما قال العلماء الأقدمون تجويزًا حقيقةً مقررةً.
وينقل الشيخ أبو شبهة نقلًا آخرَ، يقول: وفي "مجلة التجارب الطبية" الإنجليزية، عدد 1307 - 1927 ما ترجمته: لقد أُطعم الذباب من زرع ميكروبات بعض الأمراض، وبعد حينٍ من الزمن ماتت تلك الجراثيم، واختفَى أثرها، وتكون في الذباب مادة سامة تسمى بـ"كتريوفاج"، ولو عُملت خلاصة من الذباب لمحلول الملح لاحتوت على هذه المادة التي يمكنها إبادة أربعة أنواع من الجراثيم المولدة للأمراض.
على كلٍّ، النقول الطبية في هذا الأمر كثيرة، وهناك طبيبان أشار إليهما الشيخ محمد أبو شهبة كتب في "مجلة الأزهر" في عدد رجب سنة 1378: أشار إلى كثير من البحوث التي قام بها كثير من علماء البلاد الغربية، هذه البحوث في بلادهم، وأشار أيضًا الطبيبان اللذان كتبا هذا المقال إلى المصادر التي ذكرت تلك المعلومات، ذكروا العلماء بالاسم، وذكروا بحوثهم والمجلات التي نشرتها في آخر هذا البحث، يعني: استعملوا أساليب التوثيق العلمي الدقيقة؛ ليردوا على هذه الفرية.
والخلاصة:
أن هذا الحديث من الناحية الحديثية ثابت وفي أعلى درجات الصحة، في عدم مخالفته للفطرة، وضربنا نظائر لهذا، حتى أكبر شبهة أثاروها وهي مخالفته للطب فيما يزعمون، كثيرٌ من أبحاث الطب تُثبت صدقه، وحتى ولو لم تثبت فيكفينا أنه كلام سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
ويشير الشيخ مُلا خاطر رحمه الله إلى أشياء أخرى، أفادها الحديث غير ما ذكرناه، أفاد أن الحديث ناقل للأمراض ونحترز منه ما أمكن، أفاد أنه يقدم سمه ويؤخر الشفاء، وقال العلماء بعضهم: وجدناه يتقي بجناحه الأيسر فعُلم أن الأيمن الذي فيه الشفاء، وأيضًا علم أن الجناح الذي فيه الشفاء يقضي على المرض الذي في جناحه الممرض -والعياذ بالله-.
وهذا الحديث من دلائل نبوته، الذي يخبر بذلك في زمن لم تكن فيه معامل ولا أبحاث
…
إلى آخره، كل ذلك ذكره العلماء، ولو لم يكن في هذا الحديث إلا أنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم فعلى عيننا ورأسنا، بل إن الشيخ ملا خاطر يقول: إن هذا الحديث فيه معجزات: معجزة إثبات الداء والمرض في الذباب قبل أن يتوصل العلم إلى ذلك بقرون، معجزة إثبات الشفاء في الذباب، أو قل إثبات عنصر الشفاء والدواء والمضاد له؛ يعني: الداء والدواء في كيان واحد، والعقل والفطرة والأدلة العلمية والأدلة الحديثية، كل ذلك يُثبت صحة الحديث.
وفي النهاية فإن الذي لا تطيب نفسه به فلا يعترض على الحديث، ولكن إذا أراد أن لا يستفيد به فإنه ليس في الحديث ما يفيد الإجبار.
وهذا الحديث أُنموذج -كما قلت- لافتراءاتهم في الأحاديث الأخرى، ولنرجع إلى علمائنا المتخصصين، الذين دافعوا عن السنة قديمًا وحديثًا لنستفيد من علمهم.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.