الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شبهة: أن العمل بخبر الآحاد يقتضي العمل بما ليس لنا به علم
أيضًا يقولون: إن العمل بخبر الآحاد يقتضي العمل بما ليس لنا به علم، وهذا مخالف لقول الله تبارك وتعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) نقول: هذا مبني على وهمهم أيضًا من أن خبر الآحاد يفيد الظن، والظن ليس درجة من درجات العلم، بل هو وهم.
رددنا على هذه، بل إننا نقول: إن العمل بخبر الآحاد هو تمسك بما لنا به علم، وإن عدم العمل بخبر الآحاد هو فعلا يدخل تحت قول الله تبارك وتعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36).
فقد انعقد إجماع من يعتد به من أهل العلم على حجية خبر الواحد، وعلى وجوب العمل به والإجماع قاطع، فاتباعه -اتباعنا للإجماع الذي انعقد على حجية خبر الآحاد إنما هو إجماع لدليل قاطع لا يكون أبدا- اتباعًا لما ليس لنا به علم، بل العكس هو الصحيح، ولذلك يقول الشوكاني -رحمه الله تعالى- في:(إرشاد الفحول) في جزء 1 ص212 يقول: "ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل بمقتضاه فإنه يفيد العلم؛ لأن الإجماع عليه قد صيره من المعلوم صدقه" وهكذا خبر الواحد أيضًا إذا تلقته الأمة بالقبول، ومن هذا القسم أحاديث صحيح البخاري ومسلم -رحمهما الله تعالى- هذا كلام الشوكاني.
يعني هو يقول: إن الإجماع قد انعقد على العمل بخبر الآحاد، وما دام الإجماع قد انعقد عليه، فإنه قد قطع بصدقهم، وأيضا إذا تلقته الأمة بالقبول كما ذكرنا قبل ذلك، كما في حديث أو أحاديث صحيحي البخاري، ومسلم -رحمهما الله تعالى- إذن العمل بخبر الآحاد ليس اقتفاء لما ليس لنا به علم كما توهموا، وإنما
هو عمل بما تأكد لدينا، وأصبح مقطوعًا به من أنه صادق بإجماع الأمة عليه، وأيضًا بالقرائن الأخرى التي ذكروها والتي أشرنا إليها، هل ينازع أحد في أن القصاص يثبت بشاهدين، هذا انعقد الإجماع عليه هل يجادل أحد؟ في الإجماع على أن الدعاوى في الأعراض تثبت بشاهدين في القذف مثلًا، وفي الزنا بأربعة شهود، وقلنا قبل ذلك: حتى إذا أخذنا بالزنا، فإن أربعة شهود لا يصيرون الخبر متواترًا، وإنما هو أيضا خبر آحاد على ما ناقشناه في قضية العدد الذي أشاروا إليه في قضية ثبوت الخبر المتواتر أو الأعداد المطلوبة في ثبوت الخبر المتواتر.
إذن الظن درجة من درجات العلم معمول بها قد يرادف اليقين أحيانا على ما ذهب إليه كثير من المفسرين في تفسير الآيات التي أشرنا إليها، وحتى مع القول بإفادته الظن الراجح، فإنه قد ثبت بالأدلة أننا يجب علينا العمل بما غلب على ظننا.
يقول الشاطبي -رحمه الله تعالى- تأكيدا لكلام، يقول: وهذه الظنون المعمول بها في الشريعة أينما وقعت؛ لأنها استندت إلى أصل معلوم فهي من قبيل المعلوم جنسه، فعلى كل تقدير خبر واحد صح سنده، فلابد من استناده إلى أصل في الشريعة القطعية، فيجب قبوله، ومن هنا قبلناه مطلقًا، كما أن ظنون الكفار غير مستند إلى شيء، فلابد من ردها.
يعني يريد أن يقول: أخبار الآحاد أيضًا استندت إلى أصل في الشريعة قطعي المسائل التي ذكرناها تحريم الدماء والأموال ثبت بأصل قطعي تحريم الربا ثبت بأصل قطعي إلى آخره، فإذن يجب العمل، حتى مع القول بهذه الظنون إذا يعني أسررنا على أنها ظنية فقط، فنقول إن العمل بها واجب، وبالتالي تنهدم حجتهم تماما في أن الآية:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) أو الآيات الواردة في الظن يعني تبعد العمل بخبر الآحاد نقول: هذا قول مردود على أصحابه.
أيضًا من الشبه التي أثاروها في هذا الصدد: الاستناد إلى أحاديث ووقائع وقعت في عصر الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- من ذلك مثلا قصة ذي اليدين في الصلاة وقصة عمر -رضي الله تعالى عنه- في استئذان أبي موسى عليه، وقصة أبي بكر في ميراث الجدة هم يزعمون أن الصحابة توقفوا في قبول خبر الآحاد.
قصة ذي اليدين مذكورة في الصحيحين ذكرها البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب: أخبار الآحاد باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام إلى آخره، ورواه أيضا الإمام مسلم في كتاب: المساجد باب السهو في الصلاة والسجود له، روى مسلم -رحمه الله تعالى- بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال:((صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر، فسلم ركعتين -يعني: إما أنه كان يصلي الظهر أو يصلي العصر فسلم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ركعتين يعني: لم يتم الصلاة أربعًا- ثم أتى جذعًا في قبلة المسجد فاستند إليه مغضبًا وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يتكلما وخرج سرعان الناس)) يعني: الذين في المقدمة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم قصرت الصلاة؟ يسألون النبي صلى الله عليه وسلم قصرت الصلاة؟ هذا سؤال لا يوجد فيه أداة الاستفهام هل الصلاة قصرت يا رسول الله بعد أن كنا نصليها أربعًا أصبحنا نصليها ركعتين فقط، فقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم وقام رجل هو اسمه ذو اليدين فقال يا رسول الله:"أقصرت الصلاة أم نسيت".
نقول الصحابة وأدبهم يعني نلفت النظر يعني يقول: "أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يعطي الاحتمال الأول؛ لأن الصلاة قصرت بتكليف شرعي، ويستبعد النسيان عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من الأدب في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ((نظر النبي صلى الله عليه وسلم يمينا وشمالا فقال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق، لم تصل إلا ركعتين. فقام النبي صلى الله عليه وسلم أتم الصلاة فصلى ركعتين وسلم، ثم سجد للسهو بعد ذلك)) إذن النبي صلى الله عليه وسلم أتم الصلاة بناء على إخبار ذي اليدين بعد أن سأل الصحابة رضي الله عنهم.
القصة كما هي واضحة أن الذين يشككون في حجية خبر الآحاد يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل خبر ذي اليدين إلا بعد أن سأل الصحابة، ذو اليدين هو: الخرباط بن عمرو السملي يقال له: ذو اليدين؛ لأنه كان في يديه طول، وفي بعض الأقوال أنه كان قصير اليدين، فسمي بذي اليدين لذلك، وهو صحابي جليل ترجم له العلماء الذين كتبوا في الصحابة منهم: ابن حجر، وابن الأثير وابن عبد البر في كتبه المشهورة في الصحابة.
نقول ردًا على حديث ذي اليدين -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يتأكد من صدق الخبر ليس شكا في كلام ذي اليدين، فمن المعلوم أن الصحابة كلهم عدول ثقات يعني: النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي مدحهم، وأثنى عليهم في الأحاديث النبوية، وأيضًا القرآن الكريم قبل ذلك مدحهم في كثير من الآيات، وهذا أمر آخر نعلمه وثابت بالأدلة، الصحابة -رضوان الله عليهم- كما في قصة ذي اليدين، وهذا منهج تعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم وكما سيأتي في الرد على قصة عمر في الاستئذان، وعلى قصة أبي بكر رضي الله عنه في ميراث الجدة، الصحابة -رضوان الله عليهم- يعني يؤسسون منهجًا في التحري والتثبت.
لكن نريد أن نوضح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك في صدق ذي اليدين -رضي الله تعالى عنه- إنما فقط يريد أن يعلم الأمة التثبت والتحوط في رواية الأخبار ما هي الدرجة التي وصل إليها الخبر بعد أن تكلم بعض الصحابة في بعض الروايات أن الذي أيد ذا اليدين هو أبو بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما- إذن أيضًا الخبر في إطار خبر الآحاد، يعني: لم يصبح بعد متواترًا إنما هو خبر آحاد بثلاثة أو بأقل من ذلك أو بأكثر من ذلك.
أيضًا قصة عمر في الاستئذان -رضي الله تعالى عنه- خلاصة الحديث أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب، والحديث من رواية أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- يقول: كنا في مجلس عند أبي بن كعب، فأتى أبو موسى الأشعري مغضبًا حتى
وقف فقال: أنشدكم الله هل سمع أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع))، قال أبي بن كعب: وما ذاك قال استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرات، فلم يؤذن لي فرجعت، ثم جئته اليوم، فدخلت عليه فأخبرته أني جئت أمس فسلمت ثلاثًا، ثم انصرفت قال: قد سمعناك، ونحن حينئذ على شغل، فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك قال استأذنت كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقال الفاروق رضي الله عنه: فو الله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتيني بمن يشهد لك على هذا، فقال أبي بن كعب: فو الله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنًا قم يا أبا سعيد، فقمت حتى أتيت عمر، فقلت قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا".
هذا الحديث رواه كما قلت البخاري ومسلم في كتاب: الاستئذان عند البخاري في كتاب الاستئذان: باب التسليم والاستئذان ثلاثا.
ورواه مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب الآداب باب الاستئذان أيضًا قصة أبي بكر رضي الله عنه حين توقف في ميراث الجدة لما سألته أو لما جاءته تسأله حقها في الميراث قال: لا أجد لك في كتاب الله شيئا، ولا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لك بشيء.
هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب: الفرائض باب في الجدة، ورواه الترمذي في كتاب الفرائض أيضا قال: باب ما جاء في ميراث الجدة وعقب عليه الترمذي -رحمه الله تعالى- فقال: هذا أحسن وأصح، والحديث ورد عند الترمذي بروايتين يقول عن الرواية الأخرى: هذا أحسن وأصح من حديث ابن عيينة يعني يرجح إحدى الروايتين على الأخرى، لكنه على كل حال حكم بالصحة عليهما معًا غير أن إحداهما أصح من الأخرى على ما يقول الترمذي.
إذن هذه بعض الأدلة النبي صلى الله عليه وسلم توقف في ذي اليدين، عمر توقف في حديث الاستئذان، أبو بكر توقف في ميراث الجدة نقول: إن الفهم غير هذا بالمرة عندنا عشرات الأدلة على أن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- اعتمدوا على أخبار الآحاد في كثير من الأمور، إنما المسألة هنا أنه كما قلنا مزيد من التحوط والتثبت، لننظر إلى القصتين:
القصة الأولى: نبدأ بها أبي بكر ميراث الجدة ليس مذكورًا في القرآن الكريم، ولا هو من الأحاديث المشهورة، وهذا أمر يتعلق بحكم شرعي، فنعطي الجدة نصيبها في الميراث لم يقل بذلك إلا صحابي واحد إذا أراد الصديق رضي الله عنه أن يدعم قول الصحابي بصحابي آخر في هذا الأمر الخطير الذي يندر وقوعه، وهذا حكم سيظل ثابتًا إلى يوم القيامة كل ذلك يعلمه أبو بكر أإذا احتاج إلى تدعيم رأي الصحابي بصحابي آخر قلنا: إنه يشك في الصحابي الأول؟ أهذا فهم؟ لا والله إن الرجل يشعر بالمسئولية تجاه الأحكام الشرعية وأن الأحكام ينبغي التحوط والتثبت منها لأنها أحكام شرعية تستمر إلى يوم القيامة، فأراد أن يدعم قول الصحابي بصحابي آخر، وأيضًا إضافة إلى أنهم يعلموننا التثبت أو التحوط في رواية الأخبار حتى لا نجترئ عليها فيقع بعضنا في الخطأ والوهم أحيانًا.
كذلك نفس القصة مع أبي موسى الاستئذان يعني أمر غريب أن تستأذن ثلاث مرات، فإن لم يؤذن لك فارجع، وقد مضت حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومضت خلافة أبي بكر ومضى جزء أيضًا من خلافة عمر كل ذلك لم يأت فيه موقف احتاجوا فيه إلى هذا الحديث، فلما استأذن أبو موسى ثلاث مرات، ولم يؤذن له رجع، فأراد عمر أن يؤكد نفس الخط الذي التزم به الصحابة، وهو أنهم ينبغي عليهم التثبت والتحوط في قبول الأخبار.
إذن لا عمر شك في خبر أبي موسى، ولا أبو بكر شك في خبر المغيرة بن شعبة الذي روى حديث ميراث الجدة إنما هو مزيد من التحوط ما الدليل على ذلك؟ الدليل على ذلك أدلة كثيرة:
أولًا: حين جاء شاهد مع أبي موسى أو مع المغيرة بن شعبة -رضي الله تعالى- عن الجميع لم يتحول الخبر إلى خبر متواتر، بل ظل كما هو كما نعلم جميعًا خبر آحاد، فاثنان خبر آحاد بإجماع أهل العلم حتى بإجماع من يثير الشبه أو من يثيرون تلك الشبه حول حجية خبر الآحاد، أو العمل به أيضا يعلمون أن رواية اثنين لا تحول الخبر إلى خبر متواتر إذن هم اعتمدوا أيضًا على خبر الآحاد.
أيضًا نحن عندنا عشرات القصص تثبت أن الصحابة رضي الله عنهم في كثير من المواقف اعتمدوا خبر الآحاد حتى لو كان الذي رواه واحدًا فقط.
عندنا مثلا يعني عمر في قصة ذهابه إلى الشام، وحين بلغوا أن هناك طاعونًا في الشام وتساءلوا أندخل أم نرجع أو نحجم عن الدخول، فلم يكن الحديث قد بلغهم فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إذا كان الطاعون بأرض قوم فلا يخرج منهم أحد ولا يدخل إليهم أحد)) معنى الحديث هكذا، الصحابة عملوا على رأسهم عمر، وهذا خبر أتى به واحد، وهو أيضًا يتعلق بحكم شرعي.
إنما أحيانا كما هو واضح من السياقات أن القصة نفسها فيها نوع من الطرافة أو من الغرابة التي تحتاج إلى مزيد من التأكيد لأن الأخبار التي نقلها الصحابة، والتي احتاجت إلى تدعيم إنما هي أخبار تتعلق بأحكام شرعية مستمرة إلى يوم القيامة.
الصحابة يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نضر الله عبدًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) هذا