الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني عشر
حديث الآحاد (3)
شبهة: أن العمل بخبر الآحاد إنما هو عمل بالظن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ثم أما بعد:
فقلنا: إن الحديث المتواتر يفيد العلم الضروي أي: بمجرد ثبوت التواتر لا يحتاج الخبر بعد ذلك إلى مزيد من الأدلة، بل يصبح العلم به مقطوعًا بشكل ضروري.
وأما خبر الآحاد فقد تعددت آراء العلماء فيه إلى فريقين رئيسين:
الفريق الأول: يرى أن خبر الآحاد يفيد الظن بمعنى أن نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم مظنونة لا نقطع يقينًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
والفريق الثاني: يرى أن الخبر الآحاد أو خبر الآحاد يفيد العلم القطعي، يعني نقطع بنسبته للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله، لكن القطع هذا بعد نظر واستدلال أي: بعد دراستنا لأحوال السند والمتن وسلامة كل منهما في ضوء المعايير المعتبر عند العلماء؛ نقطع بعد هذا إن سلم لنا الإسناد والمتن أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال هذا الحديث.
وقلنا إن أغلب علماء المدرسة الحديثية على هذا الرأي على تفاوت بينهم في إعطاء هذا الحكم لكل أخبار الآحاد قصر ذلك على أحاديث الصحيحين، كما قال ابن الصلاح مثلا، أو أن نضيف إلى أحاديث الصحيحين أحاديث أخرى احتفت بها قرائن أكسبتها مزيدا من القوة كما قال ابن حجر، أو نعطي هذا الحكم لكل أخبار الآحاد، كما ذهب إلى ذلك: ابن حزم، والشيخ شاكر، والشيخ الألباني، وكثير من علماء الأمة.
أيًاما كان الأمر فهذه مناقشة لقضية الثبوت، لكن الوجوب العمل بحديث الآحاد لم يختلف عليه أحد من سلف الأمة رضي الله عنهم أجمعين- يعني قضية أن النبي صلى الله عليه وسلم يعني قاله بشكل قطعي، أو يغلب على ظننا أنه قاله هذه قضية تتعلق بدرجة ثبوت الحديث وليست بقضية العمل به؛ ولذلك فإن الفريقين معا الذي يقول بالظن، والذي يقول بالقطع قد اتفقا على وجوب العمل بخبر الآحاد.
اليوم نتكلم عن قضية جديدة وهي الشبهات التي أثارها من أثارها حول حجية خبر الآحاد وثبوته، أثاروا شبهًا سنستعرضها ونرد عليها.
مثلا يقولون: إن العمل بخبر الآحاد إنما هو عمل بالظن، وقد ذم الله تبارك وتعالى في كثير من آيات القرآن الكريم الارتكان والاحتكام إلى الظن في كثير من الآيات، من ذلك مثلا قول الله تبارك وتعالى:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (النجم: 28)، وفي غير ذلك من الآيات التي تدل على أن الظن مذموم، وأنه لا يجب العمل بما يفيد الظن، هذه شبهة.
وأيضًا في نفس سورة النجم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} (النجم: 23) وفي الحديث الصحيح: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) وهذا حديث رواه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الأدب باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12) ورواه الإمام مسلم أيضا في كتاب: البر والصلة باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش وغيرها، وهذا الحديث من رواية أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- هذه شبهة: أن عملنا بخبر الآحاد يقتضي العمل بالظن والقرآن الكريم ذم الظن، وهنا في الرد عليهم أمران:
الأمر الأول: أن القول بأن خبر الآحاد يفيد الظن ليس مجمعًا عليه إنما معظم علماء الأمة على أن، وهذا الحصر لا نبالغ فيه، إذا قلنا: إن معظم علماء الأمة على العمل، أو على أن خبر الآحاد يفيد القطع لا نبالغ وخصوصًا من أبناء المدرسة الحديثية المباركة، بل إننا قلنا في الدرس الماضي: إن مبحث التواتر والآحاد أصلًا ليس مبحثًا حديثيًّا، فالمحدثون معنيون بثبوت صحة الخبر، ومتى ثبتت صحته في ضوء معاييرهم من دراسة الإسناد، ومن دراسة المتن يقطعون بنسبته
للنبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فإنا سنقف وقفة أخرى مع قضية الظن والعمل به، لكننا نرد على القول بأن العمل بخبر الآحاد إنما هو عمل بالظن، والظن مذموم.
نقول: إن هذه المقدمة الأولى، وهي أن بخبر الآحاد يقتضي العمل بالظن ليست مسلمة؛ لأن كثيرا من علماء الأمة لم يقولوا بظنية خبر الآحاد في الثبوت، وإنما قالوا بقطعية ثبوته للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن قد استعرضنا هذه الآراء بإيجاز في الدرس الماضي، هذا جانب.
والجانب الآخر:
أن الظن قسمان: إذا جاز التعبير هناك ظن مذموم، وهناك ظن غير مذموم أيضا بدلالة الآيات القرآنية.
الظن المذموم هو: الظن غير المبني على أدلة كأننا نتوهم، فنستطيع أن نقول إن الظن المذموم في هذه الحالة إنما هو الظن المرادف للوهم أي: الذي لا يعتمد على أدلة، وأيضًا القرآن الكريم اعتبر الظن، ونحن في الدرس الماضي عرفنا الظن، وقلنا في تعريفاته: تعريفات متعددة قالها العلماء منها: أن الظن التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد غير الجازم، وهذا قاله: الفيروزآبادي في (القاموس المحيط) وكأنه تعريف لغوي، وليس تعريفا اصطلاحيًا، الجرجاني في (التعريفات) يقول: إن الظن هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض، يعني ترجيح أحد الاحتمالين كما يقول الأصوليون.
إذن الظن هو ترجيح أحد الاحتمالين بناء على قرائن يعني: محمد مسافر أو غير مسافر إذا قلت: إنه مسافر على غلبة الظن، يعني ترجح لدي بقرائن أنه مسافر ليست عندي أدلة أنه قد سافر، فأنا أقولها على سبيل الظن، يعني ترجيح أحد
الاحتمالين على الآخر مع احتمال الرأي الآخر أيضًا، هذا تعريفه، أو ترجيح أحد الاحتمالين أو العمل بالقول الراجح إلى آخر التعريفات التي قالها أهل الأصول.
قلنا: إن الأمة يجب عليها العمل بما غلب على ظنها، هذا مع أننا لم نسلم -نكررها كثيرا؛ لأننا أبناء المدرسة الحديثية، ومادتنا هذه لأبناء التخصص الحديثي- لا نسلم أبدا بأن خبر الآحاد يفيد الظن، ولكن مع التسليم الجدلي مجاراة لمن يقول بذلك نوضح أن الظن في كل الأحوال ليس مذمومًا، يعني هم اعتمدوا مثلا على الآية التي ذكرناها في سورة النجم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ} (النجم: 23) {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (النجم: 28) وعلى مثلها من الآيات وعلى حديث: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) إلى آخره هناك آيات كثيرة اعتمدت الظن كدرجة من درجات العلم من ذلك مثلا قول الله تبارك وتعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 249).
وقبل ذلك في سورة البقرة: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 44 - 46) وفي سورة المطففين {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} (المطففين:1 - 4) وفي سورة ص قول الله تبارك وتعالى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (ص: 24).
إذن هنا الظن كثير من العلماء يقولون أنه استعمل بمعنى: اليقين يعني هو مرادف لليقين بأنه اعتمد على أدلة قطعية، وحتى لو أبقيناه على ظاهره من ترجيح أحد الاحتمالين، فالآيات تدل على أن الظن الراجح الذي اعتمد على القرائن إنما يعمل به {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} (ص: 24) {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ} إلى آخر ما ذكرنا من الآيات.
إذن الظن على مراتب منها ما يرادف اليقين كما معنا، ومنها ما هو دون ذلك بناء على الأدلة التي يعتمد عليها الخبر لو أنني قلت إن خبر الآحاد ظني بمعنى: احتمال الخطأ والوهم على الراوي، فإن هذا الاحتمال يجوز بعد التثبت والتأكد من عدالة الراوي، ومقابلة روايته بروايات أقرانه من المحدثين ومن طلاب العلم الذين يتلقون عن المشايخ إذن يصبح الاحتمال بخطئه ووهمه بعد هذا البحث والاستدلال، هذا الاحتمال يصبح ضعيفًا، وبالتالي ينتقل خبر الآحاد من إفادته بالظن إلى إفادة العلم اليقيني ولا سيما إذا احتفت به قرائن تكسبه مزيدا من القوة كما ذكرنا قبل ذلك مثل أن يكون في الصحيحين أو في أحدهما مع العلم بأن الأمة قد تلقت الصحيحين بالقبول كما نعلم جميعًا.
أيضًا الظن يستند إلى أدلة قطعية من القرآن الكريم أقصد العمل بالظن يستند إلى أدلة قطعية من القرآن الكريم مثل ماذا مثلا حرمة الدماء وحرمة الأموال مقطوع بهما؛ لأنها ثابتة بالقرآن الكريم وثابتة أيضًا بالأحاديث، لكن الآن أعتمد على القرآن الكريم؛ لأن الجميع مجمع على أنه يفيد القطع في ثبوته نحن نعلم ذلك جيدا، فكل القرآن ثبت بالتواتر، فحين يقول الله تبارك وتعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (الأنعام: 151) في أكثر من آية والآيات التي توعدت {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} (النساء: 93) إلى آخره كل هذه الآيات بالإضافة إلى الأحاديث أفادت بشكل قطعي أن الدماء محرمة، ومع ذلك حين نقيم الحد على القاتل، فإننا نقيمه بخبر الآحاد بمعنى: أن اثنين من الشهود العدول يشهدان بأن هذا القاتل قد قتل فلانًا، وبالتالي متى ثبتت عدالتهم عند القاضي أو عند الحاكم، فإنه يقتص من الجاني امتثالًا للقرآن الكريم:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 179) إلى آخر ما نعلم من أدلة.
إذن هذا الذي يقولونه من أن الظن وهم، وأنه لا يعمل به رددنا عليه، وأن العمل بخبر الآحاد معناه العمل بالوهم رددنا عليه بالقرآن الكريم بالإضافة إلى السنة المطهرة بمعنى أن الظن حتى مع القول بأنه ترجيح أحد الاحتمالين، فإنه يجب العمل به.
كما قلنا قبل ذلك: إن الأمة يجب عليها العمل بما غلب على ظنها بل كما قلنا: إن القرآن الكريم قد أثبت أمورًا مقطوعًا بها بأدلة ظنية، كما قلنا في تحريم القتل، وفي الاعتداء على الأموال، وفي الاعتداء على الأعراض ونحو ذلك، ولذلك أجمع علماء الأمة على أن الأمة يجب عليها العمل بما غلب على ظنها، وهذا أمر ذكرناه، نحن هنا فقط نناقش أن الظن ليس معناه الوهم - كما يعني- ينتزعون آية من القرآن الكريم يحاولون أن يحملوا عليها كل معاني الظن الواردة في القرآن الكريم، وفي السنة ثم يقولون: إن خبر الآحاد إذا عملنا به فقد عملنا بالظن، والعمل بالظن مذموم بنص القرآن الكريم.
فإننا نرد عليهم بأن الظن المذموم هو المرادف للوهم، وهو الخالي من الأدلة أو حتى من القرائن الترجيحية، وأثبتنا بالأدلة من خلال القرآن الكريم أن هناك آيات كثيرة اعتبرت الظن درجة من درجات العلم، وبنت عليه أحكامًا، وقد ذكرنا هذه الآيات، بل قلنا: إن القرآن الكريم أسس عقوبات بأدلة ظنية على أمور قطع بتحريمها -كما أشرنا.
إذن هذا الظن الذي يتكلم عنه المتكلمون هو غير الظن الذي يقوله أهل العلم من أن الظن معناه: أن نسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يغلب على ظننا أنها ليست قاطعة، ومع ذلك نقول: إنها ليست مسلمة على الأقل عند معظم أهل المدرسة الحديثية.