المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌استكمال الأدلة من القرآن على حجية السنة - الدفاع عن السنة - جامعة المدينة (ماجستير)

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 السنة عند أهل الاختصاص

- ‌معنى " السنة " و"الحديث " في اللغة والاصطلاح

- ‌تعريف الإقرار لغة واصطلاحًا

- ‌الدرس: 2 علاقة السنة بالقرآن الكريم

- ‌دور السنة مع القرآن الكريم

- ‌تخصيص العام

- ‌تقييد المطلق

- ‌توضيح المبهم

- ‌الدرس: 3 السنة هي المصدر الثاني للتشريع - حجية السنة (1)

- ‌معنى كون السنة هي المصدر الثاني للتشريع

- ‌الأدلة من القرآن على حجية السنة

- ‌الدرس: 4 حجية السنة (2)

- ‌استكمال الأدلة من القرآن على حجية السنة

- ‌الآيات التي نهت عن مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الأدلة من السنة على وجوب اتباع السنة

- ‌الدرس: 5 حجية السنة (3)

- ‌استكمال الأدلة من السنة على وجوب اتباع السنة

- ‌السنة وحي من عند الله

- ‌الدرس: 6 حجية السنة (4) - دوافع الهجوم على السنة

- ‌فهم الصحابة لمكانة السنة النبوية في التشريع

- ‌إجماع الأمة على حجية السنة

- ‌دوافع الهجوم على السنة وإثارة الشبه حولها

- ‌الدرس: 7 شبهة حول تدوين السنة (1)

- ‌ميدان المعركة مع السنة، ومواطن الهجوم عليها

- ‌معنى كلمة "شبهة" ومدلولاتها

- ‌شبهة حول تدوين السنة

- ‌الدرس: 8 شبهة حول تدوين السنة (2)

- ‌الأحاديث الدالة على الإذن بتدوين الحديث والحث عليه

- ‌الصحابة الكاتبون، وصحف تم تدوينها في عهد الرسول

- ‌الدرس: 9 شبهة حول تدوين السنة (3) - الحديث المتواتر

- ‌استكمال الأدلة على تدوين السنة في عصر النبوة

- ‌مراحل كتابة الحديث

- ‌الحديث المتواتر

- ‌الدرس: 10 تابع: الحديث المتواتر - حديث الآحاد (1)

- ‌شروط الحديث المتواتر، وأقسامه، ومؤلفات العلماء فيه

- ‌حديث الآحاد: أقسامه، وشروطه

- ‌الدرس: 11 حديث الآحاد (2)

- ‌الدرجة التي يفيدها خبر الآحاد من العلم

- ‌مسألة وجوب العمل بخبر الآحاد

- ‌الدرس: 12 حديث الآحاد (3)

- ‌شبهة: أن العمل بخبر الآحاد إنما هو عمل بالظن

- ‌شبهة: أن العمل بخبر الآحاد يقتضي العمل بما ليس لنا به علم

- ‌شبهة: أن خبر الآحاد لا يُعمل به في العقائد

- ‌الدرس: 13 حديث الآحاد (4)

- ‌الدليل علي حجية خبر الآحاد من العقائد والعبادات

- ‌الدليل علي حجية خبر الواحد من عمل الصحابة

- ‌قصة تحريم شرب الخمر دليل على حجية خبر الواحد

- ‌الدرس: 14 الرواية باللفظ

- ‌التعريف بالرواية، وأركانها

- ‌أهمية الرواية، وأقسامها

- ‌مميزات وخصائص الرواية

- ‌الأصل في الرواية هو الرواية باللفظ

- ‌الدرس: 15 الرواية بالمعنى

- ‌تعريف الرواية بالمعنى، وبيان شروط ها وما يُستثني من جوازها

- ‌الشبهات التي أثيرت حول الرواية بالمعنى

- ‌الدرس: 16 الرد على دعوى اهتمام المحدثين بنقد السند دون المتن

- ‌تعريف النقد لغةً واصطلاحًا

- ‌الضرورات التي تحتم على أهل العلم توجيه العناية إلى نقلة الأخبار

- ‌هل اهتمام العلماء بالسند كان على حساب عنايتهم بالمتن

- ‌نقد المتن، والقواعد الضابطة لنقده

- ‌الدرس: 17 تابع: الرد على دعوى اهتمام المحدثين بنقد السند دون المتن

- ‌القواعد الدالة على عناية المحدثين بالمتن

- ‌من القواعد التي وضعوها لدراسة المتن: قانون الاعتبار

- ‌الضوابط التي وضعها ابن القيم لمعرفة كون الحديث موضوعًا

- ‌الدرس: 18 الاستشراق ومنهجه وموقفه من السنة المطهرة

- ‌تعريف الاستشراق ومنطلقه، وأغراضه الأساسية في الدراسة

- ‌منهج المستشرقين وقواعدهم الجائرة في دراسة الإسلام

- ‌الدرس: 19 رد شبهات المستشرقين ودفع افتراءاتهم تجاه السنة

- ‌رد شبهة: أن الأحاديث وُضعت نتيجة لتطور المسلمين

- ‌رد شبهة: أن الاختلاف بين المذاهب كان من أسباب الوضع

- ‌اتهام الإمام ابن شهاب الزهري بوضع الأحاديث التي تخدم مصالح أمراء وحكام بني أمية

- ‌الدرس: 20 حديث الذباب والرد على الشبهات التي أثاروها حوله

- ‌رد الشبه المثارة حول حديث الذباب

- ‌المعجزة النبوية في حديث الذباب، ودفع شبهة تعارضه مع الطب

- ‌الدرس: 21 الرد على كتاب (الأضواء القرآنية) للشيخ سيد صالح

- ‌التعريف بكتاب (الأضواء القرآنية)، وبيان شُبهه ومصادره

- ‌بتر استخدام النصوص فيما يوافق أغراضهم

الفصل: ‌استكمال الأدلة من القرآن على حجية السنة

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الرابع

(حجية السنة (2))

‌استكمال الأدلة من القرآن على حجية السنة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى أله وأحبابه وأصحابه، وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ثم أما بعد:

فنتمم كلامنا عن الأدلة من القرآن الكريم على حجية السنة المطهرة:

في سورة الأنفال أيضًا نجد آيات كثيرة تحدثت عن ضرورة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بل في مطلع السورة يطلب الله تعالى منها طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1) هنا أيضًا تعليق للإيمان على هذه الأمور، ومنها طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .

ومع سورة الأنفال نسير فنجد بعد ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} (الأنفال: 20)، ويلفت النظر أن بعض الآيات عطفت طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على طاعة الله تعالى، وحينئذ في هذه الحالة كأنها نظرت إليهما على أنهما طاعة واحدة، كل منها تكمل الأخرى ولا نستطيع أن نعزل إحداهما عن الأخرى.

{أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يعني: هذه متممة لتلك، وكأنهما معا أصبحتا طاعة واحدة، ينبغي على كل مؤمن أن يقوم بها، وحين يقر فعل "أطيعوا" فإنما ورد ذلك في النساء، وورد في المائدة؛ ليبين أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلوبة تماما مثل طاعتنا لله تبارك وتعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} (الأنفال: 20)، وفي سورة الأنفال أيضًا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال: 24) استجيبوا لمن؟ لله ورسوله. "إذا دعاكم لما يحييكم"

ص: 69

يعني: الآية تقول لنا: أن الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يطلبان منا شيئا إلا إذا كان فيه الحياة لنا، الحياة الطيبة، الحياة المستقيمة، الحياة الآمنة والمطمئنة، الحياة التي ينبغي أن تكون.

{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وكأنه لا حياة أبدًا في أي تعليمات أخرى تأتي من أي جهة كانت بعيدة عن طاعة الله تبارك وتعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وفي سورة الأنفال أيضًا، والله عز وجل يحدثنا عما يمكن أن نسميه: بأسباب النصر في القرآن الكريم، يقول الله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 45 - 46)، فمن بين الأوامر الإلهية التي تأتي بالنصر -بإذن الله- للفئة المؤمنة أن تكون على طاعة لله تعالى، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.

في سورة التوبة، والله تعالى يتكلم عن المجتمع المؤمن، وعن بعض خصائصه، خصوصًا بعد أن حدثنا قبل ذلك عن المنافقين:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (التوبة: 67)، والعياذ بالله مجتمع النفاق مجتمع سيئ رديء، يقابله المجتمع المؤمن، فما هو المجتمع المؤمن وما هي خصائصه؟ الله تعالى يقول:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ} (التوبة: 71) ماذا يفعلون؟ {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71).

ص: 70

ذكرت الآيات طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طاعة الله، وضمتهما إلى ما ذكر معهما من أحكام {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ، وكلها من ثوابت الإيمان، ومن أركانه، من المأمورات التي يؤمر بها المؤمنون أن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، وأن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة ركنان من أركان الإيمان يعني: لم يكن هناك إيمان من غيرهما أبدًا.

إذا، طاعة الله ورسوله قرنت مع إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ لتبين لنا أنها أمر مهم جدًّا من أمور الإيمان التي لن يكون الإيمان إلا بها.

وفي سورة التوبة أيضًا يعني: ليس لأحد أن يرغب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أن يبتعد عنه، ولا أن ينأى بنفسه عن طريقه، إلى آخره. {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} (التوبة: 120) هذا ليس من حق أحد مؤمن أبدًا، أن يتخلفوا عن رسول الله، ولا يحاولوا أن ينجوا بأنفسهم بعيدا عنه، كل ذلك ليس من مقتضيات الإيمان، بل هو مخالف لمقتضيات الإيمان ومتطلباته، {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} (التوبة: 120)، هذا ليس في مجال النصرة العسكرية فحسب، بل في كل الأمور على المؤمنين أن يطيعوا الله ورسوله في كل شأن من شئونهم.

في سورة التوبة آخر آياتها: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128) هذا الرسول الكريم العظيم صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله نعمة لنا وعلينا، وامتن به {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} (آل عمران: 164) .... الخ.

ص: 71

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} هو من أنفسكم منا، {عزيز عليه} أي عنت أو مشقة نتعرض لها، حريص علينا، وعلى نجاتنا، وعلى فلاحنا، وعلى فوزنا، وعلى أن نفوز بالجنة، وأن ننجو من النار، حريص عليكم وقلبه صلى الله عليه وسلم يمتلئ بالرحمة، والرأفة على الفئة المؤمنة، بل هو رحمة للعالمين جميعًا، كما ورد في سورة الأنبياء، والآيات يكمل بعضها بعضًا.

إذا كان هذا شأن النبي صلى الله عليه وسلم، ودوره معنا أنه حريص علينا، رؤوف رحيم بنا، عزيز عليه ما يصيبنا من مشقة، ماذا يستحقه منا، أو ما علاقتنا به؟ هي أن نتبعه، جاء لهدايتنا، حريص علينا، إذا من متطلبات ذلك أن نستجيب له في كل ما يأمر بها، وأن نبتعد عن كل ما ينهى عنه {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التوبة: 128 - 129).

في سورة يونس: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} (يونس: 108) مادام قد جاءنا بالحق فعلينا أن نتبعه، لكن قد يقول البعض: إن هذا الحق هو القرآن الكريم، فأنا لا أريد أن أفتح باب الجدًّال الذي لا يفضي إلى خير، وإنما يضيع الوقت في غير منفعة، فآتي بالآيات الصريحة أو القاطعة الدلالة على السنة، ولا يجادل فيها أحد إلا إذا كان يريد أن يجادل بالباطل، والعياذ بالله تعالى، يعني: لم أقف مثلًا مع سورة يونس {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} (يونس: 108)

الخ، وإنما كما قلت: سأتوقف مع الآيات الواضحة الدلالة.

ص: 72

سأنتقل إلى سورة النور، وبها أيضًا مجموعة من الآيات، وسياقات تحرك القلب المؤمن تجاه هذه القضية، يحدثنا الله تبارك وتعالى كما حدثنا في سورة النساء يحدثنا عن قوم قالوا: إنهم آمنوا بالله والرسول، وأطعنا أيضًا، يعني: لم نؤمن فقط إنما قالوا: أمنا وأطعنا، ويقولون: آمنا بالله وبالرسول وأطعنا. ما موقفهم بعد ذلك؟ هذا القول الذي يقتضي التسليم، والإذعان، والخضوع لكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولون: آمنا بالله وبالرسول وأطعنا، لم نؤمن بالله فقط، وإنما أمنا بالرسول، ولم يتوقف أمرنا عند الإيمان فقط، وبل وأطعنا، امتثلنا وأجبنا.

{ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} (النور: 47) أعرضوا وابتعدوا، رغم قولهم: آمنا بالله وبالرسول، بماذا تسميهم يا رب؟ {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (النور: 47)، نفى الله عنهم الإيمان، كما وسمهم في سورة النساء:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (النساء: 61)، سماهم في النساء بالمنافقين، وسماهم في النور، أو نفى عنهم في النور الإيمان، رغم قولهم في السورتين بأنهم قد آمنوا، آمنوا بما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا القول لم يشفع لهم حين لم ينهض بهم عملهم؛ لأن قضية الإيمان ليست قضية كلام، نعم ننطق بلسانها، وتعتقد قلوبنا، ثم يصدق كل ذلك، أو الجوارح تصدق كل ذلك، أو تكذبه، فالتطبيق العلمي هو الاختبار الحقيقي لمن يزعم الإيمان، أو من يدعي الإيمان، بل إن الفرق بين المؤمن القوي والمؤمن الضعيف إنما هو في استجابة كل منهم للإيمان، فالمؤمن القوي أكثر التزامًا واستجابة لكل أوامر الشرع ونواهيه، ولا يتفلت منه إلا القليل جدًّا، أما الآخر فأحيانا وأحيانا.

{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} (النور: 47 - 48)

ص: 73

لماذا أعرضتم وقد قلتم أنكم أمنتم بالله وبالرسول، وأطعتم؟ ولماذا عند المحك العملي رسبتم ولم تنجحوا؟ طبعا لأنها قضية زعم فقط، وكما قلنا أن الإيمان ليست قضية كلام.

{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} (النور: 48) ولا يستجيبون للحق إلا إذا كان في مصحلتهم ومنفعتهم.

{وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} (النور: 49) خاضعين، مستجيبين، مستسلمين، فكأن ارتباطهم بقضية الإيمان إنما هو ارتباط نفعي فقط، وهذه طائفة حدثنا الله تعالى عنها في سورة الحج:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} (الحج: 11) والعياذ بالله. إذًا، هناك فئة ارتباطها بالإيمان ارتباط مصلحة، ارتباط منفعة، بمقدار ما يجنيه من الإيمان من ثمرات يكون إيمانه، وإذا لم يكسب من الإيمان ابتعد عنه، هذه طائفة قال الله عنها:{خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} ، إنما المؤمنون حقا تحدث الله عنهم بعد ذلك، لكن {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} (النور: 48 - 49)، انظروا إلى التصنيف القرآني لمثل هذا الطوائف:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} (النور: 50) مرض النفاق، مرض الكذب، والعياذ بالله، {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا} (النور: 50) شكوا، {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} (النور: 50) والعياذ بالله، اتهموا الأحكام الإلهية، والأحكام النبوية بالظلم.

في الحقيقة أي معرض عن أحكام الله تعالى، وعن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم هو واحد من هذه الأصناف. {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا} (النور: 50) إما في قلبه مرض الكفر لم يؤمن بالقضية من أساسها، أو مرض النفاق، أظهر الإيمان، وأبطن الكفر والعياذ

ص: 74

بالله، أو ارتاب شكا إما في الحكم يعني: الحكم الجزئي، أو في جزء من الإسلام، أم يتهمون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بالظلم في الأحكام، والعياذ بالله، هذا لا يمكن أن يتردى فيه أي مؤمن أبدًا.

{أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (النور: 50)؛ لأنهم لم يفهموا قضية الإيمان، ولم يفهموا أن إيمانهم يستلزم منهم الاستجابة لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم. بعد أن وضح الله تعالى موقف هذا الفريق بهذا الوضوح والجلاء الذي تكلمنا عنه ينتقل إلى موقف الفئة المؤمنة بحق التي لم تزعم الإيمان بلسانها فقط، إنما طبقته بقولها، قال الله عنهم وعن سلوكهم:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور: 51 - 52).

أيضًا {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} هذه جملة معرفة الطرفين، كلتا الجملتين جملة معرفة الطرفين، في الآية الأولى، وفي الآية الثانية:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (النور: 51)، الفلاح في الاستجابة، في الطاعة، في الامتثال، في الانقياد لحكم الله تبارك وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الفوز، ومن يطع الله ورسوله، ويضم إلى ذلك أن يخش الله ويتقه، فأولئك هم الفائزون، لا فوز ولا فلاح بعيدًا عن هذه الدائرة الإيمانية، وهي طاعة الله تبارك وتعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. بعد ذلك بآيتين:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور: 54) هدايتكم في طاعته.

يعني: أطيعوا الله أيضًا، الفعل "قلنا" هنا مرة أخرى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا} ، كل قد أدى ما عليه، هو قام بما سيحاسبه عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، أدى ما

ص: 75

حمل، أما أنتم فانظروا موقفكم، كل واحد سيتحمل نتيجته {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} ، وقد أدى الرسول ما عليه من البلاغ {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (النور: 54).

وبعد ذلك أيضًا بآية أو بآيتين: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النور: 56) عدد من الآيات المتوالية التي تتحدث عن هذه القضية، وحديثها عنها كما ترون نفي الإيمان، إثبات للفوز والفلاح للفئة المطيعة، تعليق الهداية على طاعته، أمر بطاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستقلال بتكرار الفعل، وتعليق الرحمة: هنا فوز، وهداية، وفلاح، ورحمة، {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وتنوع في الأساليب، ومقارنة بين فئة نفى الله عنها الإيمان، رغم أنها زعمت أنها أطاعت الله تعالى ورسوله، وآمنت بهما، وعن فئة استجابت لما قالت والتزمت وانسجمت، وطبقت، وأطاعت، فكان لها الفوز، ولها الفلاح، ولها الهداية، ولها الرحمة.

وسورة الأحزاب أيضًا من الآيات التي تضمنت أمرًا بطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وتحذيرا من مخالفته، في سورة الأحزاب بعد أن يتكلم الله تعالى عن المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات، الأصناف العشرة الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية، وختمها بقوله تعالى:{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 35)، جاء في الآية بعدها وقال -عز من قائل-:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36).

وأيضًا لنا وقفة مع بلاغة القرآن الكريم، ومع لسان هذا التعبير الذي جاء به القرآن الكريم بهذا الوصف:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (الأحزاب: 36). الآية

ص: 76

قالت: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} لم يقل الله تعالى مثلًا، أو لم يكن التعبير القرآني: وما كان لذكر أو أنثى، ولم يكن التعبير القرآني: وما كان لرجل أو امرأة، وما كان التعبير القرآني:"وما كان لبشر"، وكل هذه أو واحدة منها كانت ممكنة في التعبير إذا أراد الله، لكن إيثار الكلام بوصف الإيمان؛ ليدل على أن القضية قضية إيمانية؛ لأن الآية ماذا تقول؟ الآية تنفي الاختيار، أو تسقط حق الاختيار عن المؤمن إذا كان هناك حكم لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم في المسألة، حين يكون هناك حكم؛ فإن الإيمان يطلب أن تستجيب ولا تختار، لا يمكن أن يكون هناك اختيار، لماذا أسقط الله حق الاختيار هنا، وقد يقول قائل مثلًا: إن العقل يقتضي أن يترك لي الخيار في أن أختار بين الأحكام، وأن أختار ما أراه مناسبا؟ لا، هذا لا ينفع؛ لأن الاختيار من ناحية الواقع العملي يكون بين بدائل، يعني: على الأقل يوجد بديلان، فأختار بينهما، وقد يكون الاختيار بين أكثر من بديلين، مثلًا: هذه قطعة أرض، وعدة قطع، أختار هذه أو تلك لأشتريها.

مثلًا: هناك أنواع من السيارات، أي نوع أختار لكي أشتريها. عدة بنات معروضة للزواج مثلًا: أتزوج من؟ تستشير، وتستخير، وتطابق من الناحية الشرعية، ثم تختار ما يؤدي إليه اجتهادك من أن هذا أفضل الاختيارات.

هذا المعنى وهو مفهوم الاختيار وتطبيقه أن يكون بين بديلين أو أكثر، هل يصلح أن يطبق بهذا المفهوم بين حكم الله تبارك وتعالى وحكم غيره؟ هل يجوز أن تعقد مقارنة أو أن يرد على قلب مؤمن أو عقله أن يقارن بين حكم الله تعالى، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم وبين حكم غيرهما؛ لكي يختار في النهاية ما يراه مناسبا؟ ما هي معايير الاختيار التي سيختار على أساسها؟ أعوذ بالله، القضية من أساسها مرفوضة؛ لأنه عند وجود حكم الله تبارك وتعالى، وحكم رسول صلى الله عليه وسلم فهذا

ص: 77

الحكم هو سيد الأحكام وأعدلها، وقد قلنا قبل ذلك: قول الصحابي، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأرشد.

وقبل ذلك قلنا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24) الحياة الحقيقية، الآمنة، المطمئنة، المتضمنة لكل جوانب الخير. نعم ممكن تكون هناك حياة مليئة بالمتع الدنيوية بعيدة عن المنهج الإلهي، لكن أهل الإيمان لا يتصورون أبدًا أن هذه الحياة المثلى التي يتطلعون إليها لا. هذا أمر معروف عند أهل الإيمان، فلا يمكن لمسلم أبدًا أن يعقد مقارنة بين حكم الله تعالى، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، إنما المقارنة محسومة لصالح حكم الله تعالى، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يوجد أبدًا اختيار انتهى؛ ولذلك قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} (الأحزاب: 36).

والله عز وجل يبين أن أهل الإيمان لا يمكن أبدًا إلا أن يكون الاختيار واضحًا في ذهنهم، وأنه لصالح حكم الله تعالى، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم.

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36) ولذلك لم يكن التعبير القرآن: "وما كان ذكر أو أنثى"، إنما هنا يخاطب أهل الإيمان الذكر والأنثى من أي ديانة أخرى قد يشوش عليهم الأمر، وقد لا يفقهون المسألة في ضوء هذا المعنى الإيماني الرائع، فتختلط عليهم الأمور، لكن أهل الإيمان يعلمون أن حكم الله تعالى، وحكم نبيه صلى الله عليه وسلم هما خير الأحكام، وهما أعدل الأحكام، وهما سيدا الأحكام، وأصلا هذه الأحكام جاءت لخيرنا نحن، الله تعالى شرعها لإنقاذنا من الهلكة، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لفوزنا، لفلاحنا، لنجاتنا من النار، وفوزنا بالجنة، كل الأحكام جاءت لصالحنا في ديننا، وفي دنيانا، فكيف يستقيم أن نختار بين هذه الأحكام وبين غيرها مهما كانت الجهة التي صدرت عنها تلك الأحكام؟! بل {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36).

ص: 78

وانظر كلمة "أمرا" جاءت بالنكرة؛ لتشمل كل الأمور، في أمور الدنيا، في أمور الآخرة، في أمور الاعتقاد، في أمور الشريعة، في أمور العبادات، أي أمر من الأمور قضى الله فيه، وقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقضاء لله تعالى، ولنبيه صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك ختمت الآية بقول الله تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (الأحزاب: 36).

وختام الآية عجيب، ونحن نعلم من علم البلاغة أن ختام كل آية متعلق بمضمونها، مرتبط بها، وهذا هو التذييل عند علماء البلاغة، تذييل الآية يكون مرتبطا بمضمونها، فلا يمكن أن تختم الآية بختام أو تذيل بذيل لا يتناسب مع مضمون الآية، قصة الأعرابية التي سمعت القارئ يقرأ، ولم تكن تحفظ القرآن:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (المائدة: 38) والله غفور رحيم، قالت للقارئ: كذبت؛ لو رحم ما قطع. المرأة بسليقتها البلاغية، بقريحتها الأدبية فهمت أن ختام الآية لا يلتقي مع مضمونها، كيف يتكلم عن قطع، والقطع عقوبة شديدة، ثم تختم الآية بالرحمة؟ لا، إنما الآية فيها عقاب، فختمت ب ـ {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (المائدة: 38)، عزيز غالب، يفعل ما يشاء، وكل أحكامه لحكمة حتى وإن خفيت عن البعض.

إذًا، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (الأحزاب: 36) إنما جاءت لتبين أن ورود الاختيار على ذهن مؤمن هو معصية، حتى لو انتهى في نهاية الأمر إلى اختيار حكم الله تعالى، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم الأوقات حتى لو كانت لحظات، هذه اللحظات التي قضاها في التردد والاختيار أيطبق هذا أو ذاك، هي لحظات مخالفة للإيمان؛ لذلك كانت معصية شديدة، وختم الله الآية بقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (الأحزاب: 36) عصمنا الله تعالى من الضلال، ومن الزلل، ومن عدم الفهم لديننا، ومن المعصية.

ص: 79

أيضًا في سورة الأحزاب قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 70 - 71)، الفوز العظيم ليس فوزًا عاديًّا، إنما هو فوز عظيم ربطه الله تعالى بطاعة الله تعالى، وبطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

أقف مع سورة سبأ مثلًا: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158) وما دام صلى الله عليه وسلم هو رسول إلينا جميعًا، فإننا يجب علينا طاعته، وإلا لما أرسله الله لنا {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإذن اللَّهِ} (النساء: 64)، لكن أيضًا سأقف مع الآيات الصريحة، وسأنتقل إلى سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وفيها:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 33)، تكرار الفعل "أطيعوا" مع الله، ومع الرسول، والنداء بصفة الإيمان الذي أشرنا إليه قبل، وختام الآية ب {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ؛ للدلالة على أن مخالفة الله تعالى، ومخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم تبطل الأعمال وتحبطها، وتضيعها -والعياذ بالله-، وتضيع ثمرتها ونتيجتها، ويجدها صاحبها هباء منثورًا يوم القيامة، والعياذ بالله. كل ذلك من الدلالات الخطيرة التي تبين منهج القرآن في وجوب طاعة الله تبارك وتعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

إذا انتقلت إلى سورة الفتح بعدها مثلًا: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} (الفتح: 17). في سورة التغابن: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (التغابن: 12) أيضًا تكرار الفعل "أطيعوا"، والنهي عن التولي، قبل ذلك في سورة المجادلة:{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المجادلة: 13)، دعوة إلى طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ص: 80

ونصل إلى مسك الختام في الآيات التي تحث على الطاعة، وقد تركنا غيرها كثيرًا يعني: في التي لا يكاد يذكر البعض سواها، هي قول الله تبارك وتعالى في سورة الحشر:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)، الآية التي استدل بها ابن مسعود رضي الله عنه في الحديث الصحيح المشهور المروي عند البخاري ومسلم حين قال:((لعن الله النامصات والمتنمصات، والواشمات والمستوشمات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)). ابن مسعود يلعن المرأة النامصة والمتنصمة التي ترقق حواجبها، والتي تضع وشما على وجهها أو على يديها أو على جبهتها كعلامة للتجميل والتزيين، وتظهر بها أمام الناس ليس لزوجها فحسب، والتي تفلج أسنانها، تبردها بمبرد، أو ما شاكل ذلك، وتجعلها متساوية .... الخ، علامات التجميل التي يعرفها يعلمها الذين يفعلون ذلك لعنهم عبد الله بن مسعود، والحديث ورد موصولًا، مرفوعا، وهو صحيح.

المرأة لما سمعت عبد الله بن مسعود يلعن قالت: وما لك تلعن؟ يعني: أنت لست تشرع. هي تسأله يعني: هل يوجد أو يملك واحد غير الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم أن يلعن أو أن يشرع؟ ما لك تلعن، ولعنك هذا كأنه تشريع؟ لأنك تلعن من فعل كذا وكذا، فقال لها: وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة: والله لقد قرأت ما بين الدفتين، أو ما بين اللوحين تقصد: أنها قرأت المصحف كاملًا، فلم تجد لعن الله النامصة؛ هي تبحث عن هذا الحديث، وكأنها فهمت أن عبد الله بن مسعود يقصد أنه موجود بنصه وفصه في كتاب الله، فقالت: والله لقد قرأت ما بين اللوحين، أو ما بين دفتيه -تقصد: المصحف من أوله إلى آخره- فلم أجد هذا. قال لها: أما إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، ألم تقرئي قول الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الر َّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)، أمر من الله تعالى بأن كل ما يأمرنا به نقول: سمعنا وأطعنا، وأن كل ما ينهانا عنه نجتنبه في طاعة أيضًا مطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 81