الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
((لا يعلمهن كثير من الناس)) والمهم أن الكلمة هنا بالمعنى الذي نتكلم عنه، وهو معنى الاشتباه والخلط والالتباس الذي يريد البعض بالنسبة لبعض الآيات أو بعض الأحاديث أن يقع فيها.
إذن الخلاصة أن مادة شبه لها معنى المماثلة، ولها معنى الخلط أو الالتباس أو الإشكال في الفهم؛ يعني تحتاج إلى جهد في الفهم وما إلى ذلك، كل ذلك من معاني الكلمة، وهذا هو المعنى المراد الذي نتكلم عنه، معنى الشبهة.
إذن الشبه التي يثيرونها حول السنة وفقًا لما تكلمنا عن مدلول الشبه في اللغة والاصطلاح، أنه يثيرون بعض الإشكالات حول السنة؛ ليثيروا أو ليوجدوا نوعًا من الالتباس والخلط في الفهم، وكأن السنة غير واضحة وغير جلية وما ذلك إلا لما علق بها من إشكالات يريدون أن يقولوا ذلك ليزهدوا الناس في السنة؛ وليبعدوهم عنها وليمنعوهم من الاقتداء والانقياد بحكمها. هذا معنى الشبه.
شبهة حول تدوين السنة
وننتقل الآن إلى أول الشبه التي نتكلم عنها -بإذن الله تبارك وتعالى هذه الشبهة يعدها العلماء تحت عنوان تدوين السنة، ما الذي أثاره الأعداء حول قضية تدوين السنة؟ ننطلق في معالجة هذه المسألة من رواية رواها الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه تعليقًا، يعني رواية معلقة، يقول فيها:"وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا".
هذه الرواية رواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب العلم رواية معلقة، يعني من غير سند، قال: وكتب عمر بن عبد العزيز. من غير أن يذكر الإسناد إلى عمر بن عبد العزيز، وعمر بن العزيز -رحمه الله تعالى- ورضي الله تعالى عنه توفي سنة 101هـ، والبخاري ولد سنة 194هـ، فبين البخاري وعمر بن عبد العزيز قريب من خمس وتسعين سنة بين وفاة عمر بن عبد العزيز ومولد البخاري. إذن هو لم يسمع من عمر بن عبد العزيز.
إذا روى الراوي الرواية من غير إسناد يعني حذف الإسناد كله، هذه تسمى رواية معلقة، طبعًا هناك كلام للعلماء، وأعتقد أن الدارس الكريم الذي يسمعني الآن قد علم حكم المعلقات عند البخاري، هي ليست من أصول الكتاب على كل حال، حين نقول: أجمعت الأمة على تلقي البخاري بالقبول، وأن كل ما فيه صحيح، فهم يقصدون الأحاديث المسندة أي: التي لها إسناد، التي هي أصول الكتاب، أما الروايات المعلقة فيقولون: ما ورد فيه بصيغة الجزم يعني ليس بصيغة التمرير، كمثل الرواية هنا، فهي رواية صحيحة.
وابن حجر -رحمه الله تعالى- قد تكفل ببيان إسناد الروايات التي أوردها البخاري معلقة في كتاب له سماه (تغليق التعليق) لا أريد أن أبتعد عن موضوع الأصلي الذي أتكلم فيه، وإنما أردت أن أعلق على هذه الفائدة ما معنى الرواية المعلقة خصوصًا الرواية التي معنا من هذا النوع، وهي رواية معلقة يقول فيها البخاري رحمه الله هو:"كتب عمر بن عبد العزيز .. " إلى آخر الرواية.
كتب إلى أحد علماء الأمة الكبار أبو بكر بن حزم: "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه فإني خفت اندراس العلم" يعني ضياعه، اندرست الآثار يعني زالت، فإني خفت دروس العلم هناك الدرس بمعنى المذاكرة، يدرسون العلم يذاكرونه، لكن اندرس العلم أو درس العلم معناها ضياع العلم وانتهاؤه،
"ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا".
هذه الرواية وغيرها أيضًا كما سيأتي عرضا أثناء الشرح استند إليها من يريد أن يهاجم السنة، ما وجه استناده لها؟
يقولون: إن هذه الرواية تفيد أن السنة المطهرة لم تدون إلا في مطلع القرن الثاني الهجري؛ لأن أول من أمر بتدوينها هو الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رضي الله تعالى عنه- وكما ذكرنا فهو قد تولى الخلافة سنة 99 هـ وتوفي رحمه سنة 101 هـ يعني مع نهاية القرن الأول الهجري، ومعنى ذلك من وجهة نظره هؤلاء الشانئين أن السنة قد تأخر تدوينها قرنًا كاملًا أو قرابة القرن.
تعلقهم بهذه الرواية واضح؛ لأنهم يتصورن أن هذه الرواية تخدمهم في أغراضهم من الهجوم على السنة والتشكيك فيها، يطرحون سؤالًا فيقول: إن السنة إذا كانت قد تأخر تدوينها إلى مطلع القرن الثاني الهجري، فأين كانت طوال القرن الأول الهجري كله؟ أين السنة منذ أن قالها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن أمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بتدوينها؟
نقول لهم: محفوظة في الصدور مثلًا قالوا لك: إن الحفظ خوان، ونحن لا نأمن الحفظ؛ لأنه قد يطرأ عليه النسيان، وكما يقول أسلافنا رحمهم الله آفة العلم النسيان، وقد يطرأ عليها الوهم أو الخطأ، وكل ذلك يؤدي إلى احتمال الزيادة والنقصان، والتغيير والتبديل إلى آخره.
وكأنهم وقعوا على كنز ثمين يوجهون من خلاله سهامًا يعني إلى السنة، يعني نقول في الرد على هذه الشبهة، وهي تحتاج إلى رد تفصيلي، سنحاول أن نختصره بقدر الإمكان بإذن الله تبارك وتعالى.
هي لم تكن محفوظة في الصدور فقط، وإنما كانت محفوظة في الصحف أيضًا؛ يعني محفوظة في الصدور وفي السطور، في الكتابة، كيف؟
دعونا نبدأ المسألة من أولها، فنجزم أولًا بصحة هذه الرواية، بصحة رواية عمر بن عبد العزيز التي صدرنا بها كلامنا، والتي تفيد أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- هو أول من أمر بكتابة السنة، نجزم بصحتها؛ لأنها وردت في أوثق مصادرنا، وأصحها بعد كتاب الله تعالى ألا وهو (صحيح البخاري).
لكن عمر بن عبد العزيز -رضي الله تعالى عنه- حين أمر بكتابة السنة، فإنه لم يبدأ ذلك من فراغ، وإنه اعتمد على تلك الأصول المكتوبة التي نقول بلا أدنى مبالغة كانت تملأ أرجاء العالم الإسلامي كله من خلال روح علمية نشطة وثابة، أشعلها الإسلام في أتباعه من خلال القرآن الكريم الذي حث على طلب العلم وكرم العلماء، وبين أنهم الطائفة التي تخشى الله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28){قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) ومن خلال جملة وافرة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم دعت إلى العلم عمومًا، ودعت إلى الاهتمام بالسنة خصوصًا، وكانت الدافع الأول لصحابة وللأمة كلها على الاهتمام بالعلوم الشرعية وغير الشرعية، وأيضًا الاهتمام بالسنة على وجه خاص.
ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بنضارة الوجه فيما رواه الترمذي في كتاب العلم لمن روى حديثًا عنه صلى الله عليه وسلم ((نضر الله امرأ سمع منا حدي ثًا فأداه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع)) وللحديث نصوص متعددة.
وفي حجة الوداع، وهذا في الصحيحين ((ليبلغ الشاهد الغائب)) المهم هذه الروح العلمية النشطة التي أشعلها الإسلام في أتباعه من خلال مصدريه القرآن والسنة ملأت قلوب الصحابة والمؤمنين بحب العلم، فأصبحوا يتقربون إلى الله تعالى بأن
يزدادوا في كل يوم علمًا، وقطعًا فإن أشرف العلوم وخيرها ما كان متعلقًا بالقرآن الكريم وبالسنة المطهرة، ولذلك نشطوا -كما قلت- في الاهتمام بالسنة.
وحين نتكلم ونقول: إن التدوين في السنة بدأ في عصر النبي صلى الله عليه وسلم مبكرًا جدًّا، بل بإذن منه صلى الله عليه وسلم شخصيًّا، فإننا لن نعتسف الأدلة أبدًا وصولًا إلى تلك الغاية، ولكننا لا نقول أو لن نقول في هذا الشأن قولًا إلا وسنؤيده بالدليل القوي المستمد من أوثق المصادر بإذن الله، ومن آكدها وأصحها.
على كل نبدأ فنقول: أول العهد في أمر الكتابة كان هو نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الكتابة، يعني نهى المسلمين أن يكتبوا شيئًا غير القرآن، وهذا النهي ورد في قوله صلى الله عليه وسلم ((لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)) هذا حديث رواه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب الزهد والرقائق، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم.
هذا أول الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم أن نهى عن الكتابة، هذا النهي النبوي كان وراءه جملة من الأسباب، نجملها على الوجه التالي:
أولًا: نهاهم عن الكتابة مخافة اختلاط شيء بالقرآن الكريم، فالقرآن الكريم كان شديدًا عليهم، صحيح هم أهل فصاحة وبلاغة، وأهل تذوق عالٍ وراقٍ، لكن ذلك لا يمنع أن القرآن كان جديدًا لم يتعودوا بعد على أسلوبه، ولم تشربه قلوبهم بعد، صحيح يتذوقونه ويفهمونه، لكنهم لا يستطيعون أن يقتربوا من ساحته، فلذلك يحتاجون إلى أن ينفردوا بالقرآن، وأن ينفرد القرآن بهم، ولا يختلط بشيء آخر مخافة أن يختلط بالقرآن، فلو سمح النبي صلى الله عليه وسلم لهم بكتابة شيء غير القرآن مع القرآن، فربما أدى ذلك إلى نوع من الالتباس والاشتباه، فيدخل في القرآن الكريم ما ليس منه.
أيضًا لا ننسى أن القرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع، وهو لفظه ومعناه من عند الله تبارك وتعالى فلا بد أن تتوجه همة المسلمين أولًا إلى العناية به وحفظه وتدوينه؛ لذلك لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشركهم أو يشرك مع القرآن غيره حتى لا يحدث التباس كما ذكرنا في السبب الأول، وحتى لا تبتعد الهمم عن القرآن الكريم.
أيضًا قلة أدوات الكتابة، وضم إليها أيضًا قلة عدد الكاتبين في ذاك الزمان، نحن لا زلنا بيئة أمية يعني النبي عليه الصلاة والسلام يقول ((نحن أمة أمية لا تكتب ولا تحسب)) هذه البيئة الأمية أدوات الكتابة فيها قليلة، وعدد الكاتبين فيها قليل، في ذاك الزمان، هذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم يستفيد بهم في تدوين القرآن الكريم أولًا، ولم يشأ صلى الله عليه وسلم أن يوزع الجهود، وهي قليلة بين القرآن الكريم وغيره.
أنا أقول هذه الأسباب وأود أن لا نأخذ سببًا بمعزل عن الأسباب الأخرى، يعني النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن لا يختلط شيء بالقرآن، ولا يكتبوا شيئًا مع القرآن في صحيفة واحدة فيختلط هذا بذاك، أيضًا أرادهم أن تتوجه همتهم إلى القرآن الكريم في المقام الأول. أيضًا قلة أدوات الكتابة مع مع قلة عدد الكاتبين يجعلنا نستثمر هذه القلة في ميدانها الأول، وكأنه فقه الأولويات، وكأنه ترتيب الأمور حسب أهميتها، فلتتوجه الهمم أولًا إلى القرآن الكريم، ولا تتوزع الجهود وهي أصلًا قليلة، لا تتوزع على القرآن الكريم وغيره، فيضيع هذا وذاك.
أيضًا من بين الأسباب التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى في أول الأمر عن كتابة شيء غير القرآن حتى لا يركن المسلمون إلى الكتابة ويتركوا الحفظ؛ لأن البيئة بيئة أمية، لكن الله رزقها حافظة واعية يعني نادرة في قوة حفظها، وفي استيعابها رغم أنهم لا يعرفون القراءة والكتابة في الأعم الأغلب. هذا أمر عجيب في هذه الأمة، أن نتصور أن بعض مثلًا رواة الأشعار يحفظون أكثر قرأت مثلًا 18000 بيت شعر، رقم مهول،
والأنساب وغير الأنساب، هذا أمر لا يجادل فيه أحد، حبا الله هذه الأمة بملكة الحفظ التي لا يقترب من ساحتها أبدًا أحد من الأمم غير أمة العرب المباركة.
إذًا النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستثمر هذه القدرة عند الأمة، وهي ملكة الحفظ، وألا ينصرف من الحفظ إلى الكتابة حتى لا تضعف هذه الملكة، فأمر بعدم كتابة شيء غير القرآن.
هذه بإيجاز أهم أسباب النهي عن كتابة شيء غير القرآن في أول الأمر -أي في أول الإسلام- بعد الهجرة، وهناك من العلماء من أضاف أسبابًا أخرى، لكننا وقفنا عند أهمها الذي ذكره العلماء.
هذه العوامل التي أدت إلى الخوف زال الخوف بعد برهة، كيف؟ بتتابع نزول آي القرآن الكريم، وتعامل الناس معه أصبحوا يتذوقونه، وأصبحوا يدركون الفرق بين وبين أي كلام آخر يأتي على أي لسان، فالسبب الأول في النهي عن الكتابة، وهو مخافة أن يلتبس شيء من القرآن الكريم زال، وانتهى بتعود الأمة على القرآن بحفظ كثير له معايشتهم لمعانيه ولبلاغته ولفصاحته، فاكتسبوا ملكة قوية خصوصًا أنهم في الأصل أهل فصاحة وبلاغة، اكتسبوا ملكة قوية يستطيعون أن يفرقوا بها بين القرآن وبين أي كلام آخر، مهما حاول البعض أن يمتحنهم بالخلط في ذلك الأمر.
وأيضًا همة المسلمين إذا كنا نريدها أن تتوجه إلى القرآن الكريم فقد توجهت ولله الحمد والمنة، وأيضًا نريدها بعد ذلك أن تتوجه نحو السنة؛ لأننا لا نستطيع أن نفهم الإسلام إلا من خلال القرآن والسنة فلذلك أيضًا زال سبب الخوف الذي كان يعني سببًا في أن يمنع بعض المسلمين من كتابة شيء غير القرآن.
وأيضًا بمرور الوقت وتتابع الأزمان، قلة الكتابة، وقلة أدوات الكتابة انتهى، كيف؟ درب كثير من المسلمين على القراءة؛ يعني دين يدعو إلى العلم، ويتعبد
الله بأمور كثيرة في هذا الدين، ومن بينها يتعبد بالعلم؛ يعني نطلب العلم مرضاة لله تبارك وتعالى يعني ولذلك حرم علينا أن نكتم العلم، يعني قضية العلم في الإسلام لها حديث آخر، لكن أنا أريد أن أقول: إن الأمة أقبلت على العلم فزال سبب من الأسباب التي ذكرناها، وهي قلة أدوات الكتابة، وقلة الكاتبين.
ويكفي يكفي أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء الأسير من مشركي قريش في بدر أن يعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة؛ يعني هو حدد مبلغًا من المال لكل أسير، والذي لا يكون معه مال، ولكن معه القراءة والكتابة يستطيع أن يعلم عشرة من المسلمين، يعني أنا لم أقف على مصادر ذكرت عدد الكاتبين من هؤلاء الأسرى، لكن أنا أحيانًا أتخيل، هم كانوا سبعين أسيرًا لو أن عشرة منهم علموا المسلمين، وفقًا لهذا الشرط سيعلمون مائة، ثم هذه المائة بعد ذلك تنطلق لتعلم غيرها من المسلمين، وهكذا قام في المجتمع حركة علمية نشطة لا تتوقف عند حد، وثمارها نعيشها حتى اليوم.
المهم أن هذه الأسباب زالت التي أدت إلى النهي عن الكتابة في أول الأمر، ثم كان الإذن النبوي الكريم بعد ذلك بالكتابة.
إذن فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكتابة في أول الأمر للأسباب التي ذكرناها، ثم لما زالت الأسباب أذن النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة، هذا الإذن تمثل في جملة من الأدلة، يعني أنا لم أشرح الآن كيف زالت هذه الأسباب؛ لأن هذا أمر طويل وله تفصيلات كثيرة، إنما المهم أن أسباب النهي عن الكتابة زالت، فكان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم هو الإذن بالكتابة، هل هناك أدلة على الإذن بالكتابة؟
نعم، روى الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- بسنده إلى عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنهما- قال: "كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول صلى الله عليه وسلم أريد حفظه. فنهتني قريش
فقالوا: "إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا". فأمسكت عن الكتاب -يقصد الكتابة يعني، أمسكت يعني امتنعت- فامتنعت عن الكتاب أي عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:((اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق)) الحديث سنستدل به على قضية أخرى بعد أن نشرع في الغوص في المسألة، لكن الآن نستدل به على أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في الكتابة بعد النهي عنها.
ونرجو أن ننتبه أن هذا الإذن كان بعد النهي، بدليل أن عبد الله بن عمرو بن العاص صاحب هذه القصة، وهذه الرواية رواه الإمام أحمد كما قلنا في (المسند) في جزء 2 صفحة 162 ورواها أيضًا في مواطن أخرى متعددة -رحمه الله تعالى- في مسنده عبد الله بن عمرو بن العاص أسلم سنة ثمان للهجرة، إذن فهذا الأمر النبوي الكريم من الأمور المتأخرة بعد سنة 8 للهجرة.
أيضًا في فتح مكة النبي صلى الله عليه وسلم خطب، والرواية عند الإمام البخاري في كتاب العلم في باب كتابة العلم، ورواها الإمام مسلم في كتاب الحج باب تحريم مكة صيدها وشجرها، تقول الرواية: "لما فتح الله تعالى مكة للمسلمين خطب النبي صلى الله عليه وسلم قام يخطب يعني فرحًا بنعمة الله بفتح مكة ودخولها في الإسلام، وتحدثًا بنعمة الله عليه، فقام رجل من أهل اليمن اسمه أبو شاة، وقال: يا رسول الله اكتبوا لي. فقال: ((اكتبوا لأبي فلان)) يقصد أبا شاة.
هذه الرواية كما قلت موجودة عن البخاري ومسلم فيها أن أبا شاة وأيضًا في فتح مكة سنة 8 في رمضان، يعني قال: النبي صلى الله عليه وسلم خطب، واشتكى له الرجل في بعض الروايات أنه اشتكى له؛ يعني ضعف الحفظ، وكذا وطلب منه أن يكتبوا له، فالنبي صلى الله عليه وسلم أذن وقال:((اكتبوا لأبي شاة)) ضم هذا الدليل مع حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أيضًا الذي كان بعد سنة 8 لأن عبد الله أسلم سنة 8 رضي الله عنه وعن أبيه.
أيضًا عند البخاري في الرواية السابقة: ((اكتبوا لأبي شاة)) زيادة عن الوليد بن مسلم قال: قلت للأوزاعي: ما قوله اكتبوا؟ كأنه يسأل الأوزاعي ما معنى قوله ((اكتبوا لأبي شاة)) يعني ماذا يكتبون، وكيف يفهمون الأمر؟
فالأوزاعي يقول: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني سيكتبون لأبي شاة هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيضًا روى الإمام الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى- قال من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "كان رجل يشهد حديث النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحفظه، فيسألني، فأحدثه، فشكى قلة حفظه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استعن على حفظك بيمينك" هذا توجيه من النبي صلى الله عليه وسلم للرجل أن يستعين بيمينه يعني يستعين بالكتابة، وهذا درس مهم جدًّا، فتدوين العلم وكتابته من الأسباب القوية جدًّا في الحفاظ على العلم، يعني لو أنك مثلًا أي علم تعلمته عرضة أن تنساه خصوصًا في هذا الزمان، ذاكرة الحفظ قلّت وضعفت والشواغل كثيرة أن تبقي شيئًا من العلم أو حتى الذي تبقى تحفظه بحفظ الله تعالى له بالوسائل العلمية، فهذا مما يساعد على الحفظ، أقصد أن أقول الكتابة من أهم الوسائل على حفظ العلم الشريف.
النبي عليه الصلاة والسلام الرجل شكا له قلة الحفظ أو ضعف الحفظ فقال له: "استعن على حفظ بيمينك" يعني قوِّ حفظك باستعمال الكتابة؛ لأن الكتابة تثبت العلم وتحفره في أعماق الذاكرة، فلا يتفلت بإذن الله تبارك وتعالى.
هذا وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم بارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.