الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وبعد:
فإنّ الجهد العظيم الذي بذله الأئمة المتقدمون من علماء الحديث النبوي الشريف في غربلة المرويات، وتفتيش الأسانيد، وبيان أحوال الرواة في مصنفاتهم ومسانيدهم، وفي كتب العلل والتواريخ وما خلفوه لنا من تراث ضخم، يعد مفخرة لهذه الأمة المحمدية، وتتجلى العناية الربانية لها في تهيئة رجال حُفِظَت بهم السنة النبوية كالإمام مالك، وأحمد، والشافعي، والبخاري، ومسلم، وأبي حاتم، وغيرهم رحمهم الله أجمعين.
ولما كان في الأغلب من صنيعهم عدم التصريح بالأسباب التي ارتأوا من خلال ترجيح رواية راوٍ على آخر أو تضعيف حديث فلان في مكان، وتصحيحه في مكان أخر، إذ لم يبينوا لنا أسباب ذلك إلا في بعض الأحاديث التي تعد قليلة الى جنب ما سكتوا عنه، وإنما كانت تلك القرائن والأسباب قد وقرت في نفس الناقد حسب.
ولما انقضى عهد الأئمة الجهابذة المتقدمين نحو نهاية المائة الثالثة جاء المتأخرون فحاولوا استقراء صنيع الأئمة المتقدمين من خلال مصنفاتهم، وحاولوا وضع قواعد في علم مصطلح الحديث يسيرون عليها، فظهر أول كتاب في مصطلح الحديث هو كتاب:"المحدث الفاصل" للرامهرمزي (ت360هـ)، ثم كتاب "معرفة علوم الحديث " لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري (ت405هـ)،ثم تلاه كتاب "الكفاية في علم الرواية "للخطيب البغدادي (ت 463هـ)، وهلمّ جراً.
ولما كان منهج الأئمة المتقدمين منهج عملياً تطبيقياً، إذ لم يصرحوا دائماً بمنهجهم في اختيار الأحاديث أو في انتقاء الأسانيد، ولم يبينوا لنا الأسس التي بموجبها اختاروا أحاديث مصنفاتهم كان استقراء الأئمة المتأخرين ظنياً اجتهادياً في الأعم الأغلب؛ ودلالة ذلك هو اختلافهم في كثير من أبواب المصطلح وتعريفاته، كاختلافهم في تعريف
الحديث الحسن حتى قال ابن الصلاح معقباً على أقوال أهل العلم:
" كل هذه مُستبهم لا يشفي الغليل، وليس فيما ذكره الترمذي والخطابي ما يفصل الحسن عن الصحيح "(1).
وكاختلافهم في تعريف المنكر والشاذ، فبعضهم سوى بينهما، وبعضهم غَفّلَ من سوى بينهما.
وكاختلافهم في قبول زيادة الثقة، أو ردها، فبعضهم قبلها مطلقاً، وبعضهم ردها مطلقاً، وبعضهم فصل في ذلك، وهلمّ جرا.
وهذا الاختلاف يدلل على كون الاستقراء لم يكن تاماً، وأنه كان اجتهادياً تختلف فيه مناظير العلماء وآراؤهم، ولو كان تاماً ثابتاً قائماً على أسسٍ بينةٍ واضحةٍ لا تقبل الشك والجدل لما اختلفت الأقوال إلى هذا الحد فنرى واحداً يثبت والأخر ينفي، من نحو تعارض الوصل والإرسال مثلاً، فبعضهم قدم الوصل مطلقاً والآخر قدم الإرسال مطلقاً فأيهما هو صنيع الأئمة المتقدمين؟!
إذن: "القواعد المقررة في مصطلح الحديث منها ما يذكر فيه خلاف، ولا يحقق الحق فيه تحقيقاً واضحاً، وكثيراً ما يختلف الترجيح باختلاف العوارض التي تختلف في الجزئيات كثيراً، وإدراك الحق في ذلك يحتاج إلى ممارسة طويلة لكتب الحديث والرجال والعلل مع حسن الفهم وصلاح النية "(2).
ولما كانت الحقيقة واحدة لا تتجزأ، ثم تختلف فيها الآراء فهذا يعني أن يكون أحد هذه الآراء صواباً، أو تكون كلها خطأً لان الحقيقة لا تكون اثنين!!
فإذا كانت كتب المصطلح قد كُتبت على وفق استقراء ظني اجتهادي ثم ما برحت أن تحولت تلك الآراء الظنية إلى قواعد يُحاكم عليها الأئمة المتقدمون، فنجد حينئذٍ من يقول: إن الإمام أحمد يُسوّي بين الفرد المطلق والمنكر؟! وكذا الحافظ أبي بكر البرديجي؟! وهو - عندهم - يناقض صنيع الأئمة الآخرين من أقرانه كالإمام البخاري وأبي حاتم، وغيرهما الذين يفرقون بينهم!! ثم أسهبوا في هذا الأمر وطولوا.
(1) مقدمة ابن صلاح ص29، وللمزيد: انظر شرح علل الترمذي، ابن رجب 2/ 574، والنكت على ابن الصلاح، ابن حجر 1/ 424 - 429.
(2)
المعلمي اليماني، مقدمة تحقيق الفوائد المجموعة للإمام الشوكاني ص9.
ولما كان هذا المنهج استقرائياً ظنياً اجتهادياً تجد - مثلاً- في الكتاب المتأخر من كتب المصطلح زيادة أبواب أو مصطلحات على ما تقدمه، من ذلك مثلاً: مصطلح "منكر": فالحاكم لم يبوبه في كتاب "معرفة علوم الحديث"؟ أو الخطيب البغدادي وإنما أول من عده نوعاً مستقلاً هو "ابن الصلاح".
ومصطلح "شاذ" تجد أن أبا عبد الله الحاكم قد بوب له باباً، وعده نوعاً من أنواع علوم الحديث، وعرّفه، في حين لا تجد ذلك عند من سبقه كالحافظ الرامهرمزي.
ثم من يتأمل في تعريفه يجده يختلف تماماً عن تعريفه عند علماء المصطلح من بعده.
ولا أريد أن ألج في تفصيلات هذه المسائل، وإنما قصدي: أنّ كتب مصطلح الحديث ُبنيت على الاستقراء الظني الاجتهادي، وليست هي قواعد متفق عليها يعد مخالفها شاذاً مخالفاً، إذ الاختلاف بين علماء المصطلح يدلل على ذلك.
يقول الشيخان الفاضلان الدكتور بشار عواد وشعيب الأرنؤوط: " إن القواعد التي وضعها مؤلفو كتب المصطلح اجتهادية، منها ما هو مبني على استقراء تام، ومنها - وهو في أغلبها - ما هو مبني على استقراء غير تام.
وكذلك الحكم على الرواة في الغالب، لم يبن على الاستقراء التام، فالأحكام الصادرة عن الأئمة النقاد تختلف باختلاف ثقافاتهم، وقدراتهم العلمية والذهنية، والمؤثرات التي أحاطت بهم، وبحسب ما يتراءى لهم من حال الراوي تبعاً لمعرفتهم بأحاديثه ونقدهم مروياته، وتبيّنهم فيه قوة العدالة أو الضبط أو الضعف فيهما، وقد رأينا منهم من ضعف محدثاً بسب غلط يسير وقع فيه لا وزن له بجانب العدد الكثير من الأحاديث الصحيحة التي رواها، ووجدنا منهم من يوثق محدثاً مع كثرة أوهامه وأخطائه، قال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني صاحب " سبل السلام " في رسالته:" إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد ": " قد يختلف كلام إمامين من أئمة الحديث في الراوي الواحد، وفي الحديث الواحد، فيضعف هذا حديثاً، وهذا يصححه، ويرمي هذا رجلاً من الرواة بالجرح، وآخر يعدّله، وذلك مما يشعر أن التصحيح ونحوه من مسائل الاجتهاد التي اختلفت فيها الآراء "(1).
(1) تحرير التقريب 1/ 25.
ومن هنا تأتي أهمية البحوث الحديثة فكل شيء فيه اختلاف ينبغي أن تعاد دراسته بموجب مناهج البحث العلمي الحديثة، التي وفرتها الوسائل الحديثة، والتي لم تكن دائما متوفرة عندهم؛ كالطباعة، والفهارس، ووسائل الاتصال المتطورة، والحاسوب الذي بإمكانه اختصار الزمن على الباحث فهو قد يدلك، او يعينك على الوصول الى طريق يكلفك شهراً دونه!
وهذه البحوث التي تقوم على الاستقراء التام لصنيع أئمة النقد لا تعني بداهة إنكار جهود العلماء من المتأخرين، إنما هو استمرار في خدمة هذا العلم الشريف؛ فلو قدر للحافظ ابن حجر العسقلاني أو السخاوي مثلا الحياة في مثل هذه الظروف وأتيحت لهم مثل هذه الوسائل فإنهم بالتأكيد سيتعلمونها ويستخدمونها في خدمة علم الحديث أعظم استعمال، ويخرجون بنتائج عظيمة؛ وإلا فانهم رغم صعوبة الوسائل آنذاك وعسرها كانوا يتناقشون الآراء ويرجحون ما يرونه صواباً على وفق القرائن التي بين أيديهم، ويخالفون سالفيهم.
وهذا كله ليس بمقدور أي أحد الخوض فيه ألا من سلك جادة العلم الشرعي، وشمر عن ساعديه، وأفنى عمره في خدمة هذا العلم الشريف ومارسه، وتعرف على طرائق الأئمة المتقدمين وعلى أقوالهم وصنيعهم في كتب الراوية والعلل.
ثم ارتأيت بعد استخارة الله تعالى أن اختار أهم هذه الموضوعات في نظري، وهو "الشاذ والمنكر وزيادة الثقة موازنة بين المتقدمين والمتأخرين "، وهو دراسة لتطور مفهوم هذه المصطلحات الثلاثة ثم تغير معانيها عند المتأخرين، موازناً بها مع أقوال الأئمة المتقدمين وتطبيقاتهم في مصنفاتهم.
وضم الكتاب بابين وتمهيد لكل باب.
جعلت الباب الأول: في مفهوم الحديث الشاذ والمنكر وزيادة الثقة في مصطلح الحديث، وقارنته بصنيع الأئمة المتقدمين وخرجت بنتيجة تلك الموازنة، وتضمن الباب فصولاً ثلاثة:
أفردت الفصل الأول منها إلى مفهوم الحديث المنكر، وقسمته إلى مباحث ثلاثة، خصصت المبحث الأول منها لتعريف الحديث المنكر لغةً واصطلاحاً، وجعلت الثاني: لتقسيم آرائهم إلى مفاهيم.
أما المبحث الثالث: فقد استعرضت فيه صنيع بعض الأئمة المتقدمين في مفهومهم
للحديث المنكر، ثم خرجنا بنتيجة مفادها: أن المتقدمين لم يطلقوا تلك العبارات إطلاقاً اصطلاحياً وإنما أرادوا بها المعاني اللغوية.
وتناولت في الفصل الثاني مفهوم الحديث الشاذ عند علماء المصطلح موازناً مع مفاهيم الأئمة المتقدمين، وجعلته في أربعة مباحث، ففي المبحث الأول عرفنا بالحديث الشاذ لغةً واصطلاحاً، وفي المبحث الثاني استعرضت مفاهيم المتأخرين.
أما المبحث الثالث: فقد استعرضنا فيه صنيع بعض الأئمة المتقدمين وخرجنا بنتيجة مهمة، وتحقق عندنا أن المتقدمين استعملوا مصطلح الشاذ استعمالاً لغوياً حسب.
وأما المبحث الرابع: فقد خصصناه لعلاقة الشاذ بالمنكر، وهي دراسة قادتنا إلى: أن الحديث الشاذ والمنكر عند الأئمة المتقدمين وجمهور المتأخرين بمعنىً واحد وان الأئمة المتقدمين إنما أطلقوا هذه الألفاظ (شاذ، منكر، غير محفوظ، غير معروف)،وغيرها إطلاقاً لغوياً إذ قصدوا به الحديث الخطأ.
ثم أفردت الفصل الثالث إلى الكلام على مفهوم زيادة الثقة عند أهل المصطلح، واقتضت طبيعة الدراسة أن يكون هذا الفصل في خمسة مباحث، حيث عَرّفت في المبحث الأول الزيادة لغةً واصطلاحاً. واستعرضت في المبحث الثاني مفهوم الزيادة عند الأئمة من المتأخرين.
وناقشت في المبحث الثالث الأمثلة التي استدل بها أهل المصطلح على قبول الزيادة، وبينّا أنها أمثلة غير دقيقة في الأغلب الأعم، فإن أكثرها من قبيل اختلاف الرواة في الحديث الواحد.
وأما المبحث الرابع: فقد استعرضت فيه أقوال الأئمة المتقدمين في مفهوم زيادة الثقة.
كما تناولت في المبحث الخامس آراء بعض علماء أصول الفقه في هذه المسألة، لأن كُتّاب المصطلح تطرقوا في مباحثهم إلى أقوال الأصوليين في هذه المسألة.
وكانت خلاصة هذا الفصل: أن علماء المصطلح خلطوا بين زيادة الثقة وبين الشاذ والمنكر، وأن زيادة الثقة مقبولة عند أئمة الحديث من المتقدمين ولكن بمفهوم يختلف عما اصطلح عليه كثير من المتأخرين.
وأما الباب الثاني: فقد أفردته لمعرفة مذهب الأئمة المتقدمين في قبول الزيادة أو ردها بالرجوع إلى صنيعهم في كتبهم الحديثية أو في كتبهم التي ألفوها لبيان علل الحديث،
فاقتضت الدراسة أن يكون هذا الباب على فصلين.
أولهما: استقرأت فيه صنيعهم من كتب الرواية واخترنا أبرز مصنفاتهم: كالموطأ للإمام مالك ابن أنس، وصحيح الإمام البخاري، وصحيح الإمام مسلم، وسنن أبي داود، وجامع الترمذي، وسنن النسائي، وصحيح ابن خزيمة.
أما في الفصل الثاني: فقد استقرأت صنيعهم في كتب العلل واخترنا أبرز كتب العلل: ككتاب علل ابن أبي حاتم، وعلل الترمذي، والتمييز للإمام مسلم، واخترنا من كتب المتأخرين أبرز كتاب في العلل وهو كتاب علل الحديث للإمام الدارقطني.
ومما يجدر التنبيه عليه أننا أولينا مفهوم زيادة الثقة اهتماماً أكثر من الشاذ والمنكر وذلك لما حصل فيه من الخلط ولما له من صلة وطيدة بينه وبين الشذوذ والنكارة، ولما رأينا من صنيع بعض المعاصرين من تصحيح مئات الأحاديث الشاذة والمنكرة بحجة أنها زيادة ثقة والزيادة من الثقة مقبولة، كما فعل الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في كتابه " سلسلة الأحاديث الصحيحة " حيث صحح على هذه القاعدة عشرات الأحاديث الضعيفة مما أخطأ فيه الرواة. والحق أنّ أسّ دراستنا هذه تتعلق بهذا الموضوع الخطير، فنحن حينما فصلّنا القول في هذا الباب ليس لكونه مبحثاً أو قضية تتعلق بزيادة الثقة حسب، ولكنه يتصل في حقيقته اتصالاً وثيقاً بالشذوذ والنكارة أيضاً.
وأخيراً أقول: من خلال دراستي في هذا الموضوع استفدت فوائد عظيمة، إذ قد اطلعت على كتب ومصنفات شتى، يعلم الله بعَدَدَها وعُدَدِها، وعرفت علماً بعد جهل، أن الأئمة المتقدمين هبة الله لهذه الأمة حفظ بهم الدين؛ قال الخطيب في كفايته:" ولولا عناية أصحاب الحديث بضبط السنن وجمعها واستنباطها من معادنها والنظر في طرقها لبطلت الشريعة وتعطلت أحكامها إذ كانت مستخرجة من الآثار المحفوظة ومستفادة من
السنن المنقولة " (1)،وتبين لي أن بعض المتأخرين ولا سيما المعاصرين نأوا بعيداً عن منهج الأئمة المتقدمين، وكل التناقضات التي يتهم المغرضون بها الحديث وأهله هو جريرة هذا البعد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم.
(1) الكفاية ص 5 - 7.