المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: في المتن: - الشاذ والمنكر وزيادة الثقة - موازنة بين المتقدمين والمتأخرين

[عبد القادر المحمدي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول: مفهوم الحديث المنكر والشاذ وزيادة الثقة

- ‌تمهيد

- ‌أولاً: مفهوم مصطلح " المتقدمين " و " المتأخرين

- ‌ثانياً: منهج النقد الحديثي بين المتقدمين والمتأخرين:

- ‌أولاً: عند المتقدمين

- ‌ثانياً: عند المتأخرين:

- ‌ثالثاً: التفرد:

- ‌الفصل الأولالحديث المنكر عند أهل المصطلح

- ‌المبحث الأول: تعريف الحديث المنكر:

- ‌المبحث الثاني: مفهوم الحديث المنكر عند المتأخرين:

- ‌المطلب الأول: المنكر: هو الحديث الذي يتفرد به الراوي مطلقاً:

- ‌المطلب الثاني: المنكر: التفرد مع المخالفة (مطلقاً) - مرادف للشاذ

- ‌المطلب الثالث: المنكر: تفرد الضعيف:

- ‌المطلب الرابع: المنكر: مخالفة الضعيف للثقة أو الثقات:

- ‌المبحث الثالث: مفهوم الحديث المنكر عند المتقدمين

- ‌المطلب الأول: مذهب الإمام يحيى بن معين

- ‌المطلب الثاني: مذهب الإمام علي بن المديني

- ‌المطلب الثالث: مذهب الإمام أحمد بن حنبل:

- ‌المطلب الرابع: مذهب الإمامين أبي حاتم وأبي زرعة الرازيين:

- ‌المطلب الخامس: مذهب الإمام البخاري:

- ‌المطلب السادس: مذهب الإمام مسلم:

- ‌المطلب السابع: مذهب الإمام أبي داود:

- ‌المطلب الثامن: مذهب الإمام الترمذي:

- ‌المطلب التاسع: مذهب الإمام أبي بكر البرديجي:

- ‌المطلب العاشر: مذهب الإمام النسائي:

- ‌الفصل الثانيالحديث الشاذ

- ‌المبحث الأول: تعريف الحديث الشاذ:

- ‌المبحث الثاني: مفهوم الحديث الشاذ عند المتأخرين:

- ‌المذهب الأول: الشاذ هو تفرد الثقة مطلقاً

- ‌المذهب الثاني: الشاذ هو تفرد الراوي مطلقاً:

- ‌المذهب الثالث: الشاذ: مخالفة الثقة لمن هو أوثق أو أكثر

- ‌المذهب الرابع: الشاذ هو المخالفة، مرادفاً للمنكر " وهو الحديث الخطأ

- ‌المبحث الثالث: مفهوم الحديث الشاذ عند المتقدمين:

- ‌المطلب الأول: عند الإمام الشافعي:

- ‌المطلب الثاني: عند الإمام الترمذي:

- ‌المبحث الرابع: مصطلح " غير محفوظ

- ‌المطلب الأول: مذهب الإمام البخاري:

- ‌المطلب الثاني: مذهب الإمام مسلم:

- ‌المطلب الثالث: مذهب الإمام أبي داود:

- ‌المطلب الرابع: مذهب الإمام الترمذي:

- ‌المطلب الخامس: مذهب الإمام النسائي:

- ‌المبحث الخامس: علاقة الشاذ بالمنكر:

- ‌الفصل الثالثزيادة الثقة

- ‌المبحث الأول: تعريف زيادة الثقة لغة واصطلاحاً:

- ‌المبحث الثاني: مفهوم زيادة الثقة عند المتأخرين:

- ‌المطلب الأول: قبولها مطلقاً:

- ‌1 - الحاكم النيسابوري

- ‌2 - أبو يعلى الخليلي

- ‌3 - ابن حزم الظاهري

- ‌4 - الخطيب البغدادي

- ‌5 - أبو عمرو ابن الصلاح

- ‌ النووي

- ‌ ابن جماعة

- ‌ الحافظ العراقي

- ‌9 - الحافظ السخاوي

- ‌10 - الشيخ أحمد محمد شاكر:

- ‌مناقشة أمثلة القائلين بقبول الزيادة مطلقاً

- ‌أولاً: مناقشة أمثلة أبي عبد الله الحاكم:

- ‌ثانياً: مناقشة أمثلة الخطيب البغدادي:

- ‌ثالثاً: مناقشة أمثلة الحافظ ابن الصلاح:

- ‌المطلب الثاني: الرد مطلقاً:

- ‌المطلب الثالث: القبول وفق القرائن:

- ‌1 - ابن حبان البستي

- ‌2 - الإمام الدارقطني

- ‌3 - ابن دقيق العيد

- ‌4 - الحافظ العلائي

- ‌ الحافظ الذهبي

- ‌6 - ابن رجب الحنبلي

- ‌7 - ابن الوزير

- ‌8 - الحافظ ابن حجر العسقلاني

- ‌المطلب الرابع: قرائن قبول زيادة الثقة عند المتأخرين:

- ‌المطلب الخامس: التوقف في قبول الزيادة، أو ردها

- ‌المطلب السادس: مفهوم زيادة الثقة عند الأصوليين:

- ‌المبحث الثالث: مفهوم زيادة الثقة عند المتقدمين:

- ‌المطلب الأول: مذهب الإمام يحيى بن معين:

- ‌المطلب الثاني: مذهب الإمام الشافعي:

- ‌المطلب الثالث: مذهب الإمام أحمد بن حنبل:

- ‌المطلب الرابع: مذهب الإمام البخاري:

- ‌المطلب الخامس: مذهب الإمام مسلم

- ‌المطلب السادس: مذهب الإمام الترمذي

- ‌المطلب السابع: مذهب الحافظ ابن خزيمة

- ‌المبحث الرابع: قرائن قبول زيادة الثقة عند المتقدمين:

- ‌الباب الثاني: التطبيق العملي في كتب الأئمة المتقدمين

- ‌تمهيد

- ‌أولاً: في الإسناد:

- ‌ثانياً: في المتن:

- ‌الفصل الأولالتطبيق العملي في كتب الرواية

- ‌المبحث الأول: عند الإمام مالك بن أنس:

- ‌المبحث الثاني: عند الإمام البخاري:

- ‌المطلب الأول: ما كان ظاهره القبول وهو ليس كذلك:

- ‌المطلب الثاني: زيادات أعرض عنها البخاري:

- ‌المبحث الثالث: عند الإمام مسلم:

- ‌المطلب الأول: زيادات أعرض عنها الإمام مسلم:

- ‌المطلب الثاني: ما كان ظاهره القبول وهو ليس كذلك:

- ‌المبحث الرابع: عند الإمام أبي داود:

- ‌المبحث الخامس: عند الإمام الترمذي:

- ‌المطلب الأول: مصطلح (حسن) عند الترمذي:

- ‌المطلب الثاني: مصطلح " غريب " عند الترمذي:

- ‌المطلب الثالث: زيادات أعرض عنها الإمام الترمذي:

- ‌المبحث السادس: عند الإمام النسائي:

- ‌المبحث السابع: عند الحافظ ابن خزيمة:

- ‌الفصل الثانيالتطبيق العملي في كتب العلل

- ‌المبحث الأول: عند الإمام أبي حاتم الرازي:

- ‌المبحث الثاني: عند أبي زرعة الرازي:

- ‌المبحث الثالث: عند الإمام البخاري وتلميذه الترمذي:

- ‌المبحث الرابع: عند الإمام مسلم:

- ‌المبحث الخامس: عند الإمام الدارقطني:

- ‌قائمة المصادر والمراجع

- ‌الهمزة والألف:

- ‌حرف الباء:

- ‌حرف التاء

- ‌حرف الثاء

- ‌حرف الجيم

- ‌حرف الحاء

- ‌حرف الخاء

- ‌حرف الدال

- ‌حرف الذال

- ‌حرف الراء

- ‌حرف الزاي

- ‌حرف السين

- ‌حرف الشين

- ‌حرف الصاد

- ‌حرف الضاد

- ‌حرف الطاء

- ‌حرف الظاء

- ‌حرف العين

- ‌حرف الفاء

- ‌حرف القاف

- ‌حرف الكاف

- ‌حرف اللام

- ‌حرف الميم

- ‌حرف النون

- ‌حرف الهاء

- ‌حرف الواو

الفصل: ‌ثانيا: في المتن:

وقد حدا هذا التوسع بالطرق والروايات ببعض المتأخرين إلى تخطئة أئمة الحديث المتقدمين، ومخالفتهم، اعتماداً على تلك المرويات والطرق، كتصحيح ما أعلوه اعتماداً على طرق واهية، غريبة، وقد أجاد الحافظ ابن رجب الحنبلي بقوله:" ونجد كثيراً ممن ينتسب إلى الحديث، لا يعتني بالأصول الصحاح كالكتب الستة ونحوها، ويعتني بالأجزاء الغريبة، وبمثل مسند البزار، ومعاجم الطبراني، وأفراد الدارقطني، وهي مجمع الغرائب والمناكير "(1).

‌ثانياً: في المتن:

الصحابة الكرام باعتبارهم بشراً يتفاوتون في قابلية الحفظ، فأحدهم سريع الحافظة قويها، والآخر دون ذلك، كانوا يؤدون ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان بعضهم مكثرين من الرواية كأبي هريرة وأنس وجابر وعائشة، وبعضهم مقلين كبلال، وخالد بن الوليد، وغيرهما، رضي الله عنهم أجمعين.

وإنما أقلوا في روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إما لانشغالهم في أمور ذات بالٍ تتعلق بقيام الإسلام كالجهاد والفتوحات، أو لخوفهم من الوقوع في الخطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ما حدثوا الحديث. أو لاكتفائهم بالحفظة الضابطين الذين يحدثون الأحاديث.

وكان قسم منهم يقولون بعد تحديثه الحديث:" أو كما قال رسول صلى الله عليه وسلم "(2)، أو بعبارة مقاربة، كأن يقول:"أو قال .. "، على شك منه.

وهذا التحوط كله مندفع من عمق دينهم وتقواهم، لئلا يقعوا في الخطأ، فيقولوا على رسول الله ما لم يقل.

وهكذا كانت روايات التابعين لهم بإحسان، وتابعيهم، وهلمّ جراً من الثقات المتقنين الذين لا يشك في ثقتهم وضبطهم.

وهكذا كانت الرواية الواحدة في المجلس الواحد تأخذ أكثر من لفظ، فكل صحابي يؤديها على حسب حفظه، فبعضهم يؤديها بلفظ هو اللفظ النبوي عينه، وبعضهم يرويها بالمعنى، لذا تجدك في بعض الأحيان تقف أمام حديث واحد في حادثة واحدة تروى بأكثر

(1) شرح العلل 2/ 624.

(2)

انظر صحيح البخاري (602) و (1465)،وصحيح مسلم (191) و (285). ونظائرها كثيرة لمن يتتبع.

ص: 239

من خمسة أو ستة وجوه، أو أكثر من ذلك، فأحدهم يزيد لفظة والآخر ينقصها

وهكذا.

وهذا كله يدور في فلك الرواية بالمعنى، وهذا الاختلاف لا يقدح في أصل الحديث، وكونه من المعصوم، لأن الاختلاف إنما يكون في معنى الكلمة لا في حكم الحديث، أي فيما لا يترتب عليه آثار من حلة أو حرمة، أو ثواب أو عقاب فمثلاً قوله " يلج النار "، " دخل النار "، " هو في النار "، " مآله النار "، فإنها كلها تؤدي المعنى نفسه ولكن اللفظ متباين وسنذكر لذلك مثالاً توضيحياً:-

" جاء رجل من الأعراب فدخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه فدخل ثم رفع ثوبه في طرف المسجد فبال في طرف المسجد فغضب الصحابة فهون عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر ثم قال لا تزرموه: يعني لا تقطعوا عليه بوله ثم أريقوا عليه دلواً من الماء فأريق عليه ". هذه رواية واحدة في ساعة، واحدة لرجل واحد، رواها أكثر من صحابي فلو حاولنا جمع طرقها من بعض المواضع في مصنفات السنة لوجدنا اختلافاً في ألفاظها، فقد جاءت مثلا:- عن أنس بن مالك رضي الله عنه أخرجه البخاري (6025) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزرموه، ثم دعا بدلو من ماء فصب عليه ".

وعنه في صحيح البخاري (6138) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعوه وأهريقوا على بوله ذنوباً من ماء، أو سجلاً من ماء ".

وعنه في صحيح مسلم

1/ 236 (284): قال: " دعوه لا تزرموه. قال فلما فرغ دعا بدلو من ماء فصبه عليه ".

وعنه في صحيح مسلم أيضاً 1/ 236 (284): قال: " فصاح به الناس فقال رسول الله: دعوه فلما فرغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب فصب على بوله ".

وعنه في صحيح مسلم أيضاً 1/ 236 (285): قال: " لا تزرموه دعوه فتركوه، حتى بال ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له:" إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من

هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه ".

وفي البخاري (3633) عن أبي هريرة قال:" قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".

ص: 240

وفي البخاري (6128) عنه قال:" أن أعرابياً بال في المسجد فثار إليه الناس ليقعوا به فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه وأهريقوا على بوله ذنوباً من ماء أو سجلاً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".

وفي سنن أبي داود (380) عن أبي هريرة:" أن أعرابياً دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فصلى قال ابن عبدة ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد تحجرت واسعاً "، ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال:" إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سجلاً من ماء - أو قال - ذنوباً من ماء ".

وفي جامع الترمذي (147) عن أبي هريرة قال: " دخل أعرابي المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فصلى فلما فرغ قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " لقد تحجرت واسعاً ". فلم يلبث أن بال في المسجد فأسرع إليه الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أهريقوا عليه سجلاً من ماء أو دلواً من ماء ثم قال إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ".

هذه بعض الطرق ولو تتبعنا الطرق الأخرى لوجدناها بنحو هذه الصورة.

ففي هذا الحديث "نجد أن الرواة نقلوا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعنى ولم ينقلوا ألفاظه كما نطق بها، فهذه الروايات تذكر أنه قال: " دعوه لا تزرموه، أو: اتركوه أو: لا تزرموه، فقط، أو: دعوه، فقط، أو: لا تزرموه دعوه، فقط، ومعلوم أن الرسول لم ينطق بجميع هذه الكلمات التي وردت في الروايات في ذات اللحظة لكنه نطق بأحدها، ونقلها الرواة بالمعنى لا بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم كما نطق به ". (1)!!

وهكذا نعلم أن الرواية في عهد الصحابة ومن بعدهم كانت في الأغلب الأعم بالمعنى، وهذا القول لا ينفي أن تشمل الروايات المتعددة على كثير من الألفاظ المتفق عليها فإن وجود الألفاظ المتفق عليها أمر طبيعي، بل كان من الصحابة من يتشدد في الرواية باللفظ حتى أنه كان لا يقبل الرواية بالمعنى فقد جاء عن عبيد بن عمير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مثل المنافق كمثل الشاة الرابضة بين الغنمين ". فقال ابن عمر: " ويلكم لا تكذبوا على رسول الله إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين

(1) مقاييس نقد متون السنة ص21.

ص: 241

الغنمين"،فاعتبر تغير لفظة (العائرة) إلى (الرابضة) كذباً (1). فقال عبد الله بن عبيد بن عمير لابن عمر: " هي واحدة إذا لم تجعل الحرام حلالاً والحلال حراماً فلا يضرّك إن قدمت شيئاً أو أخرته فهو واحد ". (2)

أقول: إننا لا نعني من قولنا:" يروون بالمعنى "، أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعدلون عن اللفظة النبوية إلى لفظة أخرى؟ لا وإنما كانوا يحدثون بالألفاظ التي كانوا يعتقدون أن النبي قال بها ثم هم يتسامحون ويتساهلون في الألفاظ التي لا تغير المعنى، أما إذا حفظوا اللفظ النبوي فإنهم لا يعدلون عنه.

قيل لإبراهيم- النخعي-:" إنّا نسمع منك الحديث فلا نستطيع أن نجيء به كما سمعناه؟ قال: أرأيتك إذا سمعت تعلم انه حلال من حرام؟ قال: نعم قال فهكذا كل ما نحدث ". (3)

قال الإمام الشافعي: " وقد قال بعض التابعين لقيت أناساً من أصحاب رسول الله فاجتمعوا في المعنى واختلفوا علي في اللفظ فقلت لبعضهم ذلك فقال: لا بأس ما لم يحل المعنى، قال الشافعي: فقال ما في التشهد إلا تعظيم الله وأني لأرجو أن يكون كل هذا فيه واسعاً وأن لا يكون الاختلاف فيه إلا من حيث ذكرت ومثل هذا كما قلت يمكن في صلاة الخوف فيكون إذا جاء بكمال الصلاة على أي الوجوه روي عن النبي أجزأه إذ

خالف الله بينها وبين ما سواها من الصلوات ولكن كيف صرت إلى اختيار حديث ابن عباس عن النبي في التشهد دون غيره " (4).

وقال الإمام الترمذي في معرض الحديث عن الرواية بالمعنى:" فأما من أقام الإسناد وحفظه وغير اللفظ، فإن هذا واسع عند أهل العلم إذا لم يتغير المعنى، حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع، قال: إذا حدثناكم على المعنى فحسبكم. حدثنا يحيى بن موسى قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن

(1) انظر الكفاية، ص173، ومقاييس نقد متون السنة ص 21، وهذا لا يعني أن - ابن عمر - لم يرو بالمعنى! ولكن هذا من تشدده، وإلا فإنه يروي مثل ذلك.

(2)

مصدر سابق.

(3)

المحدث الفاصل، الرامهرمزي ص 534.

(4)

الرسالة 1/ 275.

ص: 242

محمد بن سيرين قال: كنت أسمع الحديث من عشرة، اللفظ مختلف، والمعنى واحد. حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، عن ابن عون، قال: كان إبراهيم النخعي، والحسن، والشعبي يأتون بالحديث على المعاني، وكان القاسم بن محمد، ومحمد بن سيرين ورجاء بن حيوة يعيدون الحديث على حروفه. حدثنا علي بن خشرم قال: أخبرنا حفص بن غياث، عن عاصم الأحول، قال: قلت لأبي عثمان النهدي: إنك تحدثنا بالحديث ثم تحدثنا به على غير ما حدثتنا؟ قال: عليك بالسماع الأول. حدثنا الجارود قال: حدثنا وكيع، عن الربيع بن صبيح، عن الحسن، قال: إذا أصبت المعنى أجزأ. حدثنا علي بن حجر قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن سيف -هو ابن سليمان - قال: سمعت مجاهداً يقول: أنقص من الحديث إن شئت، ولا تزد فيه. حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث قال: أخبرنا زيد ابن حباب عن رجل قال: خرج إلينا سفيان الثوري فقال: إن قلت لكم أنا أحدثكم كل ما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى. أخبرنا الحسن بن حريث قال: سمعت وكيعاً يقول: إن لم يكن المعنى واسعا، فقد هلك الناس.

قال أبو عيسى: وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان والتثبت عند السماع، مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم " (1).

وقال السيوطي: " وقال جمهور السلف والخلف من الطوائف منهم الأئمة الأربعة: يجوز بالمعنى في جميعه، إذا قطع بأداء المعنى لأن ذلك هو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسلف، ويدل عليه روايتهم القصة الواحدة بألفاظ مختلفة وقد ورد في المسألة حديث مرفوع رواه ابن مندة في معرفة الصحابة والطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن سليمان بن أكثمة الليثي، قال: قلت:

يا رسول الله إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمع منك، يزيد حرفاً أو ينقص حرفاً، فقال:" إذا لم تحلوا حراماً، ولم تحرموا حلالاً، وأصبتم المعنى فلا بأس ". فذكر ذلك للحسن فقال: لولا هذا ما حدثنا. واستدل لذلك الشافعي بحديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه". قال: وإذا كان الله برأفته بخلقه أنزل كتابه على سبعة أحرف علمنا منه بأن الكتاب قد نزل لتحل لهم قراءته، وإن اختلف لفظهم فيه مالم يكن اختلافهم إحالة معنى كان ما سوى كتاب الله سبحانه أولى أن يجوز

(1) العلل آخر الجامع 5/ 701.

ص: 243

فيه اختلاف اللفظ ما لم يحل معناه، وروى البيهقي عن مكحول قال: دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة بن الأسقع فقلنا له: يا أبا الأسقع حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه وهم ولا مزيد ولا نسيان فقال: هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئاً؟ فقلنا: نعم، وما نحن له بحافظين جداً إنا لنزيد الواو والألف وننقص قال: فهذا القرآن مكتوب بين أظهركم، لا تألونه حفظاً، وأنتم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم عسى أن لا نكون سمعناها منه إلا مرة واحدة، حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى ". (1)

وقال الحافظ ابن حجر:" فالمقطوع به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذه الألفاظ كلها في مرة واحدة تلك الساعة، فلم يبق إلا أن يقال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفظاً منها، وعبّر عنه بقية الرواة بالمعنى "(2).

ومثلما قبل العلماء رواية الحديث بالمعنى من الصحابة قبلوه من التابعين فمن دونهم ما دام اللفظ يعطي المعنى ذاته ولا يؤثر على حكم شرعي في الحديث.

وبالتأكيد إذا قبلت رواية الحديث بالمعنى فإن مباني المعاني قد تتغير في الصورة وعدد الكلمات زيادة ونقصاً، فإذا قلنا مثلاً:" دخلت " هي أقل مما أقول: " دخلت أنا وزيد "، فحينما يروى مثلاً:" جاء رسول الله فدخل المسجد وصلى "، وأخر يرويه:" بينا رسول الله يصلي في المسجد "، هي أقل بعدد الحروف أو الكلمات، ولكنها لا تعطي حكماً جديداً، أو تحل حراماً أو تحرم حلالاً؟

فالرواية بالمعنى مقبولة، شريطة أن تكون اللفظة لا تؤثر على الحكم فإن أثرت فهذا الذي نتوقف فيه ونختبره، وبصورة عامة: اختلاف ألفاظ الحديث وزيادة الرواة بعضهم على بعض تدور في أمور:

أولاً - الرواية بالمعنى: كما فصلنا القول فيها سلفاً.

ثانياً - الإدراج: وهو أن يدخل الراوي كلامه على أصل كلام المروي عنه، متصلاً به غير منفصل بذكر قائله، بحيث يلتبس على من لم يعرف الحال، فيتوهم أن

(1) تدريب الراوي 2/ 99.

(2)

النكت على ابن الصلاح 2/ 809 - 810.

ص: 244

الجميع من ذلك الأصل المروي (1).

فالتحديث عادة يكون في مجلس علم فيه شيخ وتلميذ أو تلاميذ، فيحدث الراوي (الشيخ) الحديث على طلابه فيحاول أن يفهمهم لفظه فيفسرها لهم أثناء الحديث فيقول مثلاً في معرض كلامه عن (الأقط): وهو اللبن المجفف (2)، فيظن السامع أن عبارة "وهو اللبن المجفف" من كلام النبوة، فيكتبه الطلاب نحو ما سمعوا ويحفظونه بهذا الإدراج.

ثم يرويها السامعون، والتلامذة نحو ما سمعوها أمانة، وينتقل الأدراج من طبقة إلى طبقة، وقد يروي الشيخ حديثاً لطلابه، وفي معرض كلامه يقول: فقال رسول الله، ثم يدخل رجل فيقول له الشيخ: اجلس، فيظن الطلاب أنه من كلام النبوة فيكتبون: اجلس وينتقل الوهم هكذا.

ومثّله الحاكم فقال: " ومثال ذلك ما حدثناه أبو بكر بن إسحاق الفقيه قال: انبأنا عمر بن حفص السدوسي قال: حدثنا عاصم بن علي قال: حدثنا زهير بن معاوية، عن الحسن بن الحر، عن القاسم بن مخيمرة، قال: أخذ علقمة بيدي، وحدثني أن عبد الله أخذ بيده وأن

رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد الله فعلمه التشهد في الصلاة وقال: " قل التحيات لله والصلوات فذكر التشهد. قال: فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد ". قال الحاكم هكذا رواه جماعة عن زهير وغيره عن الحسن بن الحر وقوله: " إذا قلت ": هذا مدرج في الحديث من كلام عبد الله بن مسعود فإن سنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقضي بانقضاء التشهد.

والدليل عليه ما حدثناه علي بن حمشاذ العدل قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن غزير قال: حدثنا غسان بن الربيع قال: حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن الحسن بن الحر عن القاسم بن مخيمرة قال: أخذ علقمة بيدي وأخذ عبد الله بيد علقمة وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد عبد الله فعلمه التشهد في الصلاة وقال: " قل التحيات لله فذكر الحديث إلى آخر التشهد". فقال: قال عبد الله بن مسعود:" إذا فرغت من هذا فقد قضيت

(1) انظر معرفة علوم الحديث ص39، ومقدمة ابن الصلاح ص208 ومقاييس نقد متون السنة ص134.

(2)

انظر النهاية في غريب الحديث، ابن قتيبة 1/ 57.

ص: 245

صلاتك فإن شئت فاقعد وإن شئت فقم" (1).

ومثل الخطيب البغدادي لمدرج الصحابي بمثال آخر فقال: " أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد ابن غالب الفقيه الخوارزمي المعروف بالبرقاني قال: قرأت على أبي القاسم ابن النخاس: أخبركم محمد بن إسماعيل بن علي قال: أخبرنا بندار قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وكان إذا سئل عن صلاحها قال: حتى تذهب عاهتها ". المسؤول عن صلاح الثمرة والمجيب بقوله: حتى تذهب عاهتها ليس هو النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو عبد الله بن عمر بين ذلك مسلم بن إبراهيم الأزدي ومحمد بن جعفر غندر في روايتهما هذا الحديث عن شعبة .. "(2).

ومن صور الإدراج: اللحن، وهو أن يروي الشيخ لفظة فيلحن بها ثم يؤديها التلميذ بلحنها كما سمعها.

فعن أشعث قال: " كنت أحفظ عن الحسن وابن سيرين والشعبي، فأما الحسن والشعبي فكانا يأتيان بالمعنى، وأما ابن سيرين فكان يحكي صاحبه حتى يلحن كما يلحن ". (3)

وربما نبه الراوي على خطأ اللفظة ولكنه يثبتها كما جاءت مثلما أخرج الإمام أحمد في مسنده 2/ 75 بسنده عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خيرت بين الشفاعة أو أن يدخل نصف أمتي الجنة، فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكفى، أترونها للمتقين؟ لا ولكنها للمتلوثين الخطاؤون ". قال زياد - أحد الرواة -: أما إنها لحن ولكنها هكذا حدثنا الذي حدثنا. (4)

فإذا وجدت هكذا لفظة مدرجة فلا تعد زيادة ثقة ولو انفرد بها راوٍ عن بقية الرواة

وقد تساهل علماؤنا سلفاً وخلفاً بهذه الزيادة، وقبلوها ما دامت لا تختلط على

(1) معرفة علوم الحديث ص 39 - 40، وانظر الفصل للوصل المدرج في النقل، الخطيب البغدادي 1/ 102.

(2)

الفصل للوصل المدرج 1/ 116.

(3)

الكفاية ص 186، وانظر مقاييس نقد متون السنة ص 134.

(4)

الحديث ضعيف فيه رجل مبهم، انظر بحثنا (الشفاعة في الحديث النبوي) ص189، وللمزيد انظر الكفاية ص186.

ص: 246

السامعين فإذا حصل مثل ذلك وجب التنبيه عليها وفصلها عن المتن ومثاله:

ما أخرجه البخاري (6698) فقال: "حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، أن عبد الله بن عباس أخبره أن سعد بن عبادة الأنصاري استفتى النبي صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأفتاه أن يقضيه عنها فكانت سنة بعد".

قال الحافظ العسقلاني: " قوله في آخر الحديث في قصة سعد بن عبادة فكانت سنة بعد أي صار قضاء الوارث ما على المورث طريقة شرعية أعم من أن يكون وجوباً أو ندباً ولم أر هذه الزيادة في غير رواية شعيب عن الزهري فقد أخرج الحديث الشيخان من رواية مالك والليث، وأخرجه مسلم أيضا من رواية ابن عيينة ويونس ومعمر وبكر بن وائل والنسائي من رواية الأوزاعي والإسماعيلي من رواية موسى بن عقبة وابن أبي عتيق وصالح بن كيسان كلهم عن الزهري بدونها وأظنها من كلام الزهري ويحتمل من شيخه وفيها تعقب على ما نقل عن مالك لا يحج أحد عن أحد واحتج بأنه لم يبلغه عن أحد من أهل دار الهجرة منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حج عن أحد ولا أمر به ولا أذن فيه، فيقال لمن قلد قد بلغ ذلك غيره وهذا الزهري معدود في فقهاء أهل المدينة وكان شيخه في هذا

الحديث وقد استدل بهذه الزيادة ابن حزم للظاهرية ومن وافقهم في أن الوارث يلزمه قضاء النذر عن مورثه في جميع الحالات ". (1)

قلت: روى الحديث عن الزهري جماعة من الحفاظ لم يرووا هذه الزيادة - كما قال الحافظ ابن حجر فقد رواه:

- سفيان بن عيينة: أخرجه الطيالسي 1/ 355 (2718)، والحميدي 1/ 241 وأحمد 1/ 219، ومسلم 3/ 1260 (1638)، وأبو عوانة 4/ 5 (5826)، والنسائي 6/ 254، وفي الكبرى 3/ 137 (4759)، و4/ 111 (6487 و 6488)،،وابن ابي شيبة 7/ 284 (36120)، وأبو يعلى 4/ 271 (2383).

- والليث بن سعد: أخرجه البخاري (6959) ومسلم 3/ 1260 (1638)، وأبو عوانة 4/ 5 (5827)، والترمذي (1546)، والنسائي 6/ 254 و 7/ 21، وفي الكبرى 3/ 137 (4760)، و4/ 111 (6489)، وابن ماجه (2132)،، و4/ 6 (5832)،

(1) الفتح 11/ 716.

ص: 247

والبيهقي 6/ 278 والطبراني في الكبير 6/ 17 (5366).

- مالك بن أنس: أخرجه البخاري (2761)، ومسلم 3/ 1260 (1638)،وأبو عوانة 4/ 5 (5827) والطبراني في الكبير 6/ 17 (5365).

- والأوزاعي: أخرجه أحمد 1/ 329،والنسائي 6/ 253،وفي الكبرى 4/ 110 (6484) و 4/ 111 (6485و 6486).

- وبكر بن وائل: أخرجه مسلم 3/ 1260 (1638)، وأبو عوانة 4/ 6 (5829)،والنسائي 6/ 254 و 7/ 21، وفي الكبرى 4/ 112 (6490).

- معمر بن راشد: أخرجه مسلم 3/ 1260 (1638)،وابو عوانة 4/ 6 (5828)، والطبراني في الكبير 6/ 17 (5364).

- عبدة بن سليمان: أخرجه النسائي 7/ 20.

- يونس بن يزيد الأيلي: أخرجه مسلم 3/ 1260 (1638).

وأخرجه البخاري (6698) بزيادة - فكانت سنة بعد - من طريق شعيب عن الزهري، والبيهقي 6/ 278 بها، وقد عدها البعض أدراجاً.

أقول: لم ينفرد شعيب بها _ كما قيل - بل تابعه عبيد الله بن أبي زياد الرصافي، وهو صدوق، كما قاله ابن حجر في التقريب (4291) أخرجه الطبراني في الكبير 6/ 18 (5367)، وقال محمد بن يحيى الذهلي في ترجمة عبيد الله بن أبي زياد الرصافي:" لم أعلم له رواية غير ابن ابنه يقال له الحجاج بن أبي منيع، أخرج إلي جزءاً من أحاديث الزهري فنظرت فيها، فوجدتها صحاحاً فلم أكتب منها إلا قليلاً "(1).

على أننا نذهب إلى ما ذهب إليه الحافظ إبن حجر في قوله: إن هذه العبارة هي من المدرج إما من كلام الزهري، أو من كلام شيخه، وللبخاري إدراجات معروفة، لأنه يعنى بالحكم منفصلا عن الرواية (2).

وقد يدرج لفظ في متن الحديث لتفسير معنى ما ومثاله:

قال البخاري (1909): حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم أو قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم:" صوموا

(1) تهذيب الكمال 5/ 35 (4223).

(2)

انظر ص233 من هذا البحث.

ص: 248

لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ".

قال ابن حجر: " وقد وقع الاختلاف في حديث أبي هريرة في هذه الزيادة أيضاً فرواها البخاري كما ترى بلفظ: فأكملوا عدة شعبان ثلاثين. وهذا أصرح ما ورد في ذلك وقد قيل: إن آدم شيخه انفرد بذلك فإن أكثر الرواة عن شعبة قالوا فيه فعدوا ثلاثين أشار إلى ذلك الإسماعيلي ". (1)

وقال ابن الجوزي: " وهذا يجوز أن يكون من آدم رواه على التفقه من عنده للخبر وإلا فليس لانفراد البخاري عنه بهذا من بين من رواه عنه ومن بين سائر من ذكرنا ممن يرويه عن شعبة وجه"(2).

ومن ذلك أيضا ما أخرجه البخاري (6505) فقال:" حدثني يحيى بن يوسف قال: أخبرنا أبو بكر عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" بعثت

أنا والساعة كهاتين. يعني إصبعين تابعه إسرائيل عن أبي حصين". فهنا أدرجت لفظة: "يعني إصبعين "، وهي ليست من قول النبي صلى الله عليه وسلم

ومن ذلك: ما أخرجه الإمام مسلم (167) فقال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا ليث (ح)، وحدثنا محمد بن رمح قال: أخبرنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" عرض علي الأنبياء فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى ابن مريم عليه السلام فإذا أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود، ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه فإذا أقرب من رأيت به شبهاً صاحبكم، يعني نفسه، ورأيت جبريل عليه السلام فإذا أقرب من رأيت به شبهاً دحية ". وفي رواية ابن رمح دحية بن خليفة ".

وفي (317) قال:" وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عبد الله بن إدريس عن الأعمش عن سالم عن كريب عن ابن عباس عن ميمونة:" أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بمنديل فلم يمسه وجعل يقول بالماء هكذا يعني ينفضه".

فهتان اللفظتان (يعني نفسه، يعني ينفضه) ليستا من قول النبي، وإنما أدرجتا في الحديث. فلا تعد مثل هذه الزيادات بين الأحاديث زيادة ثقة؟ ولو قلنا بذلك لفتحنا باباً

(1) الفتح 4/ 152.

(2)

أحاديث الخلاف، إبن الجوزي 1/ 74.

ص: 249

لا يُغلق، إلا ما شاء الله تعالى.

ثالثاً - الاقتصاص: وهو أن يروي حديثاً بلفظ ثم يأتي راوٍ آخر فيرويه بأطول من الأول أو أتم بزيادة حدث ما، أو واقعة معينة قصر عن ذكرها بقية الرواة.

فأحدهم يرويه دون ذكر القصة، والآخر يرويه ببعضها والثالث دونها. كل واحد من الرواة يرويه حسب ما يراه مناسباً لحادثة أو لسبب ما.

لذا فإنك تجدك أمام نفس الراوي يزيد بروايته عند البخاري فيسرد قصة طويلة فيها حكاية ثم تجده عند مسلم يروي الرواية دونها أو دون بعضها.

وهذه كلها لا علاقة لها بزيادة الثقة التي نحن بصددها ذلك لأنها لا تتعلق بحكم شرعي أو بإثبات أمر أو نفيه، كأن يورد لنا مصنف حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "

. "، ثم يأتي آخر ويورد لنا نفس الحديث عن أنس بزيادة قصة: كأن يقول: دخلت على النبي في المسجد، فقال: "

" الحديث، فهذه ليست من باب الزيادة

لأن الراوي (أنس) أو من دونه ربما حدّث به هنا لسبب ما، وتركه هناك لعدم وجود السبب.

ومثاله: ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (198) باب الطهارة، مختصراً فاقتطع منه القدر الذي يناسب الطهارة، فقال: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عائشة قالت:" لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه استأذن أزواجه في أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بين رجلين تخط رجلاه في الأرض بين عباس ورجل آخر قال عبيد الله: فأخبرت عبد الله بن عباس فقال: أتدري من الرجل الآخر؟

قلت: لا، قال: هو علي. وكانت عائشة رضي الله عنها تحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد ما دخل بيته واشتد وجعه: " هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس وأجلس في مخضب لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ثم طفقنا نصب عليه تلك القرب حتى طفق يشير إلينا أن قد فعلتن ثم خرج إلى الناس ".

ثم أورده في باب الأذان (665) بما يناسب الاستئذان. فقال: حدثنا إبراهيم بن موسى قال: أخبرنا هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله قال: قالت عائشة: " لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم واشتد وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج بين رجلين تخط رجلاه الأرض، وكان بين العباس ورجل آخر. قال عبيد الله: فذكرت ذلك لابن عباس ما قالت عائشة، فقال لي: وهل تدري من الرجل

ص: 250

الذي لم تسم عائشة؟ قلت: لا قال: هو علي بن أبي طالب ".

ثم في كتاب فرض الخمس (3099) مختصراً جداً مناسباً للباب فقال: حدثنا حبان بن موسى ومحمد قالا: أخبرنا عبد الله: أخبرنا معمر ويونس عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:" لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذن له ".

وفي المغازي (4442) مطولاً، فقال: حدثنا سعيد بن عفير، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه استأذن

أزواجه أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج وهو بين الرجلين تخط رجلاه في الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر، قال عبيد الله: فأخبرت عبد الله بالذي قالت عائشة، فقال لي عبد الله بن عباس: هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة؟ قال: قلت: لا، قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب، وكانت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل بيتي واشتد به وجعه قال:

" هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن قالت ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم".

وفي الطب (5714) بما يناسبه، فقال: حدثنا بشر بن محمد، أخبرنا عبد الله، أخبرنا معمر ويونس، قالا: قال الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتد وجعه استأذن أزواجه في أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج بين رجلين تخط رجلاه في الأرض بين عباس وآخر". فأخبرت ابن عباس قال: هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة؟ قلت: لا، قال: هو علي. قالت عائشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما دخل بيتها واشتد به وجعه:" هريقوا عليّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلّي أعهد إلى الناس "، قالت: فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى جعل يشير إلينا أن قد فعلتنّ، قالت: وخرج إلى الناس فصلى لهم وخطبهم".

2 -

ومن أمثلته أيضا ما أخرجه مسلم 1/ 368 (517) قال: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة، عن أبيه أن عمر بن أبي سلمة أخبره قال:

ص: 251

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد مشتملاً به في بيت أم سلمة، واضعاً طرفيه على عاتقيه ".

وفي (517): حدثناه أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم عن وكيع قال حدثنا هشام بن عروة بهذا الإسناد غير أنه قال:" متوشحا ولم يقل مشتملا ".

وفي (517) قال: وحدثنا يحيى بن يحيى قال: أخبرنا حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة قال:" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في بيت أم سلمة في ثوب قد خالف بين طرفيه".

وأخرجه في 1/ 369 (517) قال: حدثنا قتيبة بن سعيد وعيسى بن حماد قالا: حدثنا الليث عن يحيى بن سعيد عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمر بن أبي سلمة قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد ملتحفاً مخالفاً بين طرفيه ". زاد عيسى بن حماد في روايته قال على منكبيه.

رابعاً - التقطيع - التبويب -:

وأعني به تقطيع الحديث الواحد حسب ما يراه المصنف مناسباً فيرويه تارة تاماً في باب من أبواب مصنفه يحتاج إلى إيراده بهذه الصورة، ثم يأخذ منه قطعة في باب آخر لا يحتاج إلى إيراده بتمامه، ولمعرفة أصل الحديث الصحيح أمامنا طريقان:

الأول: أن نرجع إلى سياقة هذا الحديث في الكتب المرتبة على المسانيد، ومن أفضلها، مسند الإمام المبجل أحمد بن حنبل، على أن يكون هذا الإسناد موافقاً للإسناد الذي جاء في الكتب الأخرى أو صحيحاً مثل صحتها.

الثاني: هو العودة إلى صحيح الإمام مسلم لأن مسلماً يجمع الطرق، ويقص الحديث مفصلاً، ومن هنا فضل المغاربة مسلماً على البخاري، ونحن لا نوافقهم على ذلك قطعاً.

ومن أمثلة التقطيع البينة حديث جابر رضي الله عنه في الحج، فنحن نعلم جيداً أن هذا الحديث الطويل مما تفرد به جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي بن الحسين، المعروف بالباقر، عن جابر ابن عبد الله الأنصاري، ولا نعرف له طريقاً صحيحاً من غير هذا الطريق، وقد ساقه الإمام أحمد بتمامه في مسنده 3/ 320، وكذا الإمام مسلم 4/ 38 - 43 (1218)، أما الإمام مالك فقد قطّعه إلى أربع قطع في الموطأ، فظهر وكأنه أربعة

ص: 252

أحاديث، وذلك بحسب ما احتاج إليه في الموطأ من أبواب الحج، فذكر في باب " الرمل

في الطواف " (1057)، قول جابر:" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف ".

وذكر منه قطعتين صغيرتين في باب:" البدء بالصفا في السعي "، برقم (1089و 1090).

وذكر القطعة الرابعة منه في باب:" جامع السعي "، برقم (1097).

وكذلك هو في الموطآت، مثل موطأ أبي مصعب الزهري حيث جاءت هذه القطع المذكورة في الأرقام (1281و1311و1312و1314).

وكذلك هي في موطأ سويد بن سعيد إذ جاءت في الأرقام (541و543و544)، وهي أربعة أحاديث في الموطأ، وإن أعطى المحقق لحديثين الرقم (543).

وحين تناول ابن عبد البر بيان أسانيد الموطأ في كتابه العظيم التمهيد عد ذلك أربعة أحاديث، لما رواه الإمام مالك عن جعفر بن محمد فقال: في 2/ 68 حديث أول لجعفر بن محمد، وقال في حديث 2/ 79حديث ثان لجعفر بن محمد مسند، وقال في 2/ 91 حديث لجعفر بن محمد متصل، وقال في 2/ 93حديث رابع لجعفر بن محمد.

وهو في أصله قطع صغيرة من حديث جابر الطويل المعروف في صحيح مسلم.

وكذلك فعل أصحاب السنن المرتبة على أبواب الفقه، حيث قطعوا هذا الحديث حسب الأبواب التي احتاجوا إليها، فقد رواه (1):

أبو داود: (1813و1936و3969).

الترمذي: (817 و 857 و862 و869 و2967).

ابن ماجه: (1008و2913و2919و2951و2960و3158).

النسائي: 1/ 122و195و154و208و290،و2/ 15و16،و5/ 143و155و157و164 و176و230و236و239و240و243و244و235و240و255و265و267و274.

وابن خزيمة: (2603و2709و2717و2718و2756و2811و2853و2855و2858

و2890 و2892 و 2924).

(1) انظر تفصيل الحديث في المسند الجامع 4/ 27 - 45 (2419).

ص: 253

ومن المبرزين في هذا الأمر الإمام البخاري رحمه الله تعالى، إذ نقل الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح عن الحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي القول:

"وأما تقطيعه للحديث في الأبواب تارة واقتصاره منه على بعضه أخرى فذلك لأنه إن كان المتن قصيراً أو مرتبطاً بعضه ببعض وقد اشتمل على حكمين فصاعداً فإنه يعيده بحسب ذلك "(1).

ويوضح هذا الإمام النووي إذ يقول: " وأما تقطيع المصنفين الحديث الواحد في الأبواب فهو بالجواز أولى بل يبعد طرد الخلاف فيه وقد استمر عليه عمل الأئمة الحفاظ الجلة من المحدثين وغيرهم من أصناف العلماء، وهذا معنى قول مسلم رحمه الله: "أو أن يفصل ذلك المعنى " إلى آخره وقوله: " إذا أمكن " يعنى: إذا وجد الشرط الذي ذكرناه على مذهب الجمهور من التفصيل. وقوله:" ولكن تفصيله ربما عسر من جملته فإعادته بهيئة إذا ضاق ذلك أسلم " معناه: ما ذكرنا أنه لا يفصل إلا ما ليس مرتبطاً بالباقي، وقد يعسر هذا في بعض الأحاديث فيكون كله مرتبطا بالباقي أو يشك في ارتباطه ففي هذه الحالة يتعين ذكره بتمامه وهيئته ليكون أسلم مخافة من الخطأ والزلل والله أعلم "(2).

ومن أمثلة ذلك:

1 -

حديث الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنهم في مرض النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أخرجه البخاري من حديث الزهري نفسه، ولكنه قطعه على الأبواب بما يناسبها.

فأخرجه في (4439) عند باب: " مرض النبي ووفاته "، وفي (5016)، " باب فضل المعوذات "، من طريق يونس عن الزهري، فقال:"حدثني حبان قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، ومسح عنه بيده، فلما

اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه ".

ثم أخرجه في (5017) من طريق عقيل، باب" فضل المعوذات " فقال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا المفضل بن فضالة، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن

(1) مقدمة الفتح ص 15.

(2)

شرح النووي 1/ 49.

ص: 254

عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم:"كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات ". قلت: ولم يذكر فيه مرض النبي صلى الله عليه وسلم.

وأخرجه في (5751)، باب " المرأة ترقي الرجل "، وفي (5735) باب " الرقى بالقرآن والمعوذات"، من طريق معمر فقال:" حدثني عبد الله بن محمد الجعفي قال: حدثنا هشام قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها:" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن فأمسح بيد نفسه لبركتها ".فسألت ابن شهاب: كيف كان ينفث؟ قال: ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه".

وهنا اقتطع البخاري من الحديث ما يناسب الباب، وهو شرعية الرقية بالقرآن، وشرعية رقية المرأة للرجل.

ثم أخرجه (6319)، باب " التعوذ والقراءة عند المنام "، من طريق عقيل فقال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا الليث قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب أخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ بالمعوذات ومسح بهما جسده ".

ثم أخرجه في (7548)، باب " النفث في الرقية "، من طريق يونس، فقال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، قال: حدثنا سليمان، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت

يداه من جسده، قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به ". قال يونس: كنت أرى ابن شهاب يصنع ذلك إذا أتى إلى فراشه ".

وهنا اختار البخاري لفظة " يأمرني " لأنها تناسب عنوان الباب " النفث "، فأراد بيان سنة شرعية.

2 -

حديث محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن ابن عمر رضي الله عنهم، إذ أخرجه البخاري (4402و 4403)، باب حجة الوداع من طريق ابنه عمر، فقال: حدثنا

ص: 255

يحيى بن سليمان قال: أخبرني ابن وهب، قال: حدثني عمر بن محمد أن أباه حدثه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ولا ندري ما حجة الوداع فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر المسيح الدجال فأطنب في ذكره وقال: ما بعث الله من نبي إلا أنذره أمته أنذره نوح والنبيون من بعده وإنه يخرج فيكم فما خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم أن ربكم ليس على ما يخفى عليكم، ثلاثاً، إن ربكم ليس بأعور وإنه أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، ثلاثاُ ويلكم أو ويحكم انظروا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض "(1).

وأخرجه البخاري في (6785)، " باب ظهر المؤمن حمى إلا في حدّ أو حق " من طريق ابنه الآخر واقد، فقال:" حدثني محمد بن عبد الله قال: حدثنا عاصم بن علي قال: حدثنا عاصم بن محمد عن واقد بن محمد سمعت أبي قال: عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "ألا أي شهر تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: ألا شهرنا هذا، قال: ألا أي بلد تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: ألا بلدنا هذا، قال: ألا أي يوم تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: ألا يومنا هذا قال: فإن الله تبارك وتعالى قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ألا هل بلغت؟،

ثلاثا، كل ذلك يجيبونه: ألا نعم، قال: ويحكم أو ويلكم لا ترجعن بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " (2).

وأخرجه البخاري في (6166): "باب ما جاء في قول الرجل "ويلك " من طريق واقد نفسه، فقال:" حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال: حدثنا خالد بن الحارث قال: حدثنا شعبة عن واقد بن محمد بن زيد قال: سمعت أبي عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ويلكم أو ويحكم ".- قال شعبة شك هو-:" لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ". وقال النضر عن شعبة: ويحكم، وقال عمر بن محمد عن أبيه:

(1) وأخرجه احمد2/ 153، وأبو عوانة 1/ 34 (63)، و4/ 102 (6176).

(2)

أخرجه البخاري (6166و6868و7076)، ومسلم الإيمان (119 و120) وابن أبي شيبة 7/ 455 (37174)، وأبو عوانة 1/ 34 (62)، وأبو داود (4686)، والنسائي 7/ 126 وفي الكبرى 2/ 316 (3590)، وابن حبان 1/ 416 (187).

ص: 256

ويلكم أو ويحكم ".

قلت: هنا اقتطع البخاري قطعة صغيرة من الحديث ما يناسب الباب الذي أورده تحته، ليثبت جواز قول:" ويلك ".

ثم أورده في (6868)، " باب قول الله تعالى: ومن أحياها

"، من رواية واقد أيضاً، فاقتطع من الحديث ما يناسب الباب، ترهيباً من قتل المسلم للمسلم، فقال:" حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة قال واقد بن عبد الله أخبرني عن أبيه سمع عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".

وكذا حينما أورده في (7076)، "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض "، فقال:" حدثنا حجاج بن منهال حدثنا شعبة أخبرني واقد بن محمد عن أبيه عن ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".

فما يظهر من اختلاف في متون الأحاديث واقتطاع لها، إنما يجيء بسبب حاجة الإمام البخاري إلى قطعة من الحديث ليستدل بها، فضلاً عن اختلاف بين الرواة في سياقة الحديث بألفاظ مختلفة، كما قدمنا، فهذا كله ليس فيه في حقيقة الأمر زيادات لأنه في أصله حديث واحد.

3 -

وكذا ما أخرجه البخاري (2892)،كتاب الجهاد، باب " باب فضل رباط يوم في سبيل الله وقول الله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون"(1)، فقال: حدثنا عبد الله بن نمير، سمع أبا النضر، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ابن دينار، عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها ".

وأخرجه في (2794) كتاب، " باب الغدوة والروحة في سبيل الله، وقاب قوس أحدكم من الجنة .. "فقال: حدثنا قبيصة قال: حدثنا سفيان عن أبي حازم عن سهل بن سعد

(1) آل عمران آية 200.

ص: 257

- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها ".بلفظ مختصر يناسب الباب.

ثم أخرجه في (3250) كتاب بدء الخلق، باب "صفة الجنة وأنها مخلوقة ". فقال: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ".بلفظ مختصر يثبت أن في الجنة مكاناً، أي أنها مخلوقة.

ثم أخرجه في (6415) كتاب، باب " مثل الدنيا في الآخرة " فقال: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ". فجاء به أتم مما مضى في البابين الآخرين، بما يناسب عنوان الباب. وبعد هذا العرض الموجز لمسائل تتعلق بالإسناد والمتن ندخل إلى التطبيق العملي في صنيع الأئمة المتقدمين.

ص: 258