المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: في الإسناد: - الشاذ والمنكر وزيادة الثقة - موازنة بين المتقدمين والمتأخرين

[عبد القادر المحمدي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول: مفهوم الحديث المنكر والشاذ وزيادة الثقة

- ‌تمهيد

- ‌أولاً: مفهوم مصطلح " المتقدمين " و " المتأخرين

- ‌ثانياً: منهج النقد الحديثي بين المتقدمين والمتأخرين:

- ‌أولاً: عند المتقدمين

- ‌ثانياً: عند المتأخرين:

- ‌ثالثاً: التفرد:

- ‌الفصل الأولالحديث المنكر عند أهل المصطلح

- ‌المبحث الأول: تعريف الحديث المنكر:

- ‌المبحث الثاني: مفهوم الحديث المنكر عند المتأخرين:

- ‌المطلب الأول: المنكر: هو الحديث الذي يتفرد به الراوي مطلقاً:

- ‌المطلب الثاني: المنكر: التفرد مع المخالفة (مطلقاً) - مرادف للشاذ

- ‌المطلب الثالث: المنكر: تفرد الضعيف:

- ‌المطلب الرابع: المنكر: مخالفة الضعيف للثقة أو الثقات:

- ‌المبحث الثالث: مفهوم الحديث المنكر عند المتقدمين

- ‌المطلب الأول: مذهب الإمام يحيى بن معين

- ‌المطلب الثاني: مذهب الإمام علي بن المديني

- ‌المطلب الثالث: مذهب الإمام أحمد بن حنبل:

- ‌المطلب الرابع: مذهب الإمامين أبي حاتم وأبي زرعة الرازيين:

- ‌المطلب الخامس: مذهب الإمام البخاري:

- ‌المطلب السادس: مذهب الإمام مسلم:

- ‌المطلب السابع: مذهب الإمام أبي داود:

- ‌المطلب الثامن: مذهب الإمام الترمذي:

- ‌المطلب التاسع: مذهب الإمام أبي بكر البرديجي:

- ‌المطلب العاشر: مذهب الإمام النسائي:

- ‌الفصل الثانيالحديث الشاذ

- ‌المبحث الأول: تعريف الحديث الشاذ:

- ‌المبحث الثاني: مفهوم الحديث الشاذ عند المتأخرين:

- ‌المذهب الأول: الشاذ هو تفرد الثقة مطلقاً

- ‌المذهب الثاني: الشاذ هو تفرد الراوي مطلقاً:

- ‌المذهب الثالث: الشاذ: مخالفة الثقة لمن هو أوثق أو أكثر

- ‌المذهب الرابع: الشاذ هو المخالفة، مرادفاً للمنكر " وهو الحديث الخطأ

- ‌المبحث الثالث: مفهوم الحديث الشاذ عند المتقدمين:

- ‌المطلب الأول: عند الإمام الشافعي:

- ‌المطلب الثاني: عند الإمام الترمذي:

- ‌المبحث الرابع: مصطلح " غير محفوظ

- ‌المطلب الأول: مذهب الإمام البخاري:

- ‌المطلب الثاني: مذهب الإمام مسلم:

- ‌المطلب الثالث: مذهب الإمام أبي داود:

- ‌المطلب الرابع: مذهب الإمام الترمذي:

- ‌المطلب الخامس: مذهب الإمام النسائي:

- ‌المبحث الخامس: علاقة الشاذ بالمنكر:

- ‌الفصل الثالثزيادة الثقة

- ‌المبحث الأول: تعريف زيادة الثقة لغة واصطلاحاً:

- ‌المبحث الثاني: مفهوم زيادة الثقة عند المتأخرين:

- ‌المطلب الأول: قبولها مطلقاً:

- ‌1 - الحاكم النيسابوري

- ‌2 - أبو يعلى الخليلي

- ‌3 - ابن حزم الظاهري

- ‌4 - الخطيب البغدادي

- ‌5 - أبو عمرو ابن الصلاح

- ‌ النووي

- ‌ ابن جماعة

- ‌ الحافظ العراقي

- ‌9 - الحافظ السخاوي

- ‌10 - الشيخ أحمد محمد شاكر:

- ‌مناقشة أمثلة القائلين بقبول الزيادة مطلقاً

- ‌أولاً: مناقشة أمثلة أبي عبد الله الحاكم:

- ‌ثانياً: مناقشة أمثلة الخطيب البغدادي:

- ‌ثالثاً: مناقشة أمثلة الحافظ ابن الصلاح:

- ‌المطلب الثاني: الرد مطلقاً:

- ‌المطلب الثالث: القبول وفق القرائن:

- ‌1 - ابن حبان البستي

- ‌2 - الإمام الدارقطني

- ‌3 - ابن دقيق العيد

- ‌4 - الحافظ العلائي

- ‌ الحافظ الذهبي

- ‌6 - ابن رجب الحنبلي

- ‌7 - ابن الوزير

- ‌8 - الحافظ ابن حجر العسقلاني

- ‌المطلب الرابع: قرائن قبول زيادة الثقة عند المتأخرين:

- ‌المطلب الخامس: التوقف في قبول الزيادة، أو ردها

- ‌المطلب السادس: مفهوم زيادة الثقة عند الأصوليين:

- ‌المبحث الثالث: مفهوم زيادة الثقة عند المتقدمين:

- ‌المطلب الأول: مذهب الإمام يحيى بن معين:

- ‌المطلب الثاني: مذهب الإمام الشافعي:

- ‌المطلب الثالث: مذهب الإمام أحمد بن حنبل:

- ‌المطلب الرابع: مذهب الإمام البخاري:

- ‌المطلب الخامس: مذهب الإمام مسلم

- ‌المطلب السادس: مذهب الإمام الترمذي

- ‌المطلب السابع: مذهب الحافظ ابن خزيمة

- ‌المبحث الرابع: قرائن قبول زيادة الثقة عند المتقدمين:

- ‌الباب الثاني: التطبيق العملي في كتب الأئمة المتقدمين

- ‌تمهيد

- ‌أولاً: في الإسناد:

- ‌ثانياً: في المتن:

- ‌الفصل الأولالتطبيق العملي في كتب الرواية

- ‌المبحث الأول: عند الإمام مالك بن أنس:

- ‌المبحث الثاني: عند الإمام البخاري:

- ‌المطلب الأول: ما كان ظاهره القبول وهو ليس كذلك:

- ‌المطلب الثاني: زيادات أعرض عنها البخاري:

- ‌المبحث الثالث: عند الإمام مسلم:

- ‌المطلب الأول: زيادات أعرض عنها الإمام مسلم:

- ‌المطلب الثاني: ما كان ظاهره القبول وهو ليس كذلك:

- ‌المبحث الرابع: عند الإمام أبي داود:

- ‌المبحث الخامس: عند الإمام الترمذي:

- ‌المطلب الأول: مصطلح (حسن) عند الترمذي:

- ‌المطلب الثاني: مصطلح " غريب " عند الترمذي:

- ‌المطلب الثالث: زيادات أعرض عنها الإمام الترمذي:

- ‌المبحث السادس: عند الإمام النسائي:

- ‌المبحث السابع: عند الحافظ ابن خزيمة:

- ‌الفصل الثانيالتطبيق العملي في كتب العلل

- ‌المبحث الأول: عند الإمام أبي حاتم الرازي:

- ‌المبحث الثاني: عند أبي زرعة الرازي:

- ‌المبحث الثالث: عند الإمام البخاري وتلميذه الترمذي:

- ‌المبحث الرابع: عند الإمام مسلم:

- ‌المبحث الخامس: عند الإمام الدارقطني:

- ‌قائمة المصادر والمراجع

- ‌الهمزة والألف:

- ‌حرف الباء:

- ‌حرف التاء

- ‌حرف الثاء

- ‌حرف الجيم

- ‌حرف الحاء

- ‌حرف الخاء

- ‌حرف الدال

- ‌حرف الذال

- ‌حرف الراء

- ‌حرف الزاي

- ‌حرف السين

- ‌حرف الشين

- ‌حرف الصاد

- ‌حرف الضاد

- ‌حرف الطاء

- ‌حرف الظاء

- ‌حرف العين

- ‌حرف الفاء

- ‌حرف القاف

- ‌حرف الكاف

- ‌حرف اللام

- ‌حرف الميم

- ‌حرف النون

- ‌حرف الهاء

- ‌حرف الواو

الفصل: ‌أولا: في الإسناد:

‌تمهيد

‌أولاً: في الإسناد:

إن مما هو مقرر أولاً أنّ القرآن الكريم محفوظ بحفظ الله تعالى له {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (1)، فهيأ الله تعالى حَفَظَةَ الصدور والكتاب، لحفظ هذا القرآن العظيم، ومثلما حُفظ القرآن، حُفظت السنة، وإن كان الفرق واضحاً، ولكن هيأ الله تعالى حُمّالاً وحفاظاً، أتقياء حملوا لواء السنة المطهرة نفوا عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ويمكن تقسيمهم على طبقات، وأول هذه الطبقات:

طبقة الصحابة الكرام ..

كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم حريصين كل الحرص على حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يتناوبون المرات في حضور الجلسة النبوية، إذا ما عرض لهم عمل أو شغلهم شاغل، فعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:: " كنت أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد - وهي من عوالي المدينة -وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك "(2).

ومثلما حرصوا على سماع الحديث، حرصوا على أدائه، وتبليغه للناس، تطبيقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، ثم بلغها عني "(3). وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس:" .... احفظوه وأخبروه من وراءكم "(4).

ثم انتشر الصحابة الكرام في الأمصار فتوزعوا فيها، ونشروا السنة النبوية، وعقدت الحلقات والجلسات، فكان بعض الصحابة يعقد مجلساً للتفسير وآخر للفقه. وكان من أبرزهم ابن عباس، وأبو هريرة، وأم المؤمنين عائشة، وابن عمر وغيرهم كثير.

(1) الحجر / 9.

(2)

أخرجه البخاري (89)، وغيره.

(3)

أخرجه أحمد 4/ 80 و 84، وغيره.

(4)

أخرجه البخاري (87)، وغيره.

ص: 227

ثم تأتي طبقة التابعين وتميزت هذه الطبقة بكتابة الحديث الشريف وتدوينه، فكانوا همزة الوصل بين الصحابة في القرن الأول والمصنفين في بداية القرن الثاني وكان من أبرزهم سعيد بن المسيب، والشعبي، والحسن البصري، وبشير بن نهيك، وهمام بن منبه، وسعيد بن جبير، وقتادة السدوسي، ومحمد بن الحنفية وغيرهم (1).

فاختلطت أنفاسهم بأنفاس الصحابة الكرام ونهموا العلم نهماً، وحفظوا وكتبوا آلاف الأحاديث النبوية، فجمعوا أقوال الصحابة الكرام وفتاويهم، فكانوا حصناً حصيناً للسنة النبوية من كيد المنتحلين، الذين دخلوا الإسلام للطعن فيه، وخاصة بعد الفتوحات الإسلامية الواسعة، وبعد وقوع الفتن والقلاقل بين المسلمين، فظهر الكذابون،

والوضاعون، الذين دسوا في السنة ما ليس منها، فسلط الله عليهم حملة الحديث، وعلماء السنة المشرفة يذودون عنها، ويغربلونها.

طبقة المصنفين:

وفي مطلع القرن الثاني الهجري توفي الصحابة الكرام ويوشك التابعون أن يتوفون، وهم الذين تلقوا عنهم، فكان محدثو هذه الطبقة أمام تراث كبير من السنة النبوية، مضافاً إليهم حديث الوضّاعين والكذابين وخاصة بعد تعمق الخلافات السياسية، وبزوغ رؤوس للفتن، فما برح هؤلاء المغرضون يضعون الأحاديث، ويكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدسوا الأباطيل بما يوافق أهواءهم وأغراضهم فهذا الإمام مالك يقول في فرقة من تلك الفرق:" لا تكلمهم ولا ترد عنهم فإنهم يكذبون "(2) - يعني الرافضة -، ويقول الإمام الشافعي:" ما رأيت في أهل الأهواء قوماً أشهد بالزور من الرافضة "(3).

وقال شريك القاضي في الرافضة: " يضعون الحديث ويتخذونه ديناً "(4).

وفي مقابل هذا وضع بعض جهلة أهل السنة الأحاديث التي ترفع من شأن الصحابة - وهم معدلون برضى الله تعالى عنهم - الذين وضع فيهم الرافضة أحاديث تنتقص منهم، وخاصة في معاوية والأمويين من منطلقات سياسية، وكذا الحال بالنسبة

(1) انظر توثيق السنة في القرن الثاني الهجري، د. رفعت فوزي عبد المطلب ص60.

(2)

توثيق السنة ص64.

(3)

الكفاية، الخطيب البغدادي ص 126.

(4)

توثيق السنة ص64.

ص: 228

للعباسيين (1).

ومن ذلك ما قاله حماد بن زيد قال:" وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث منهم عبد الكريم بن ابي العوجاء الذي قتل وصلب في زمن المهدي، ولما أخذ ليضرب عنقه قال وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحلل الحرام "(2).

بل فشا الكذب، حتى بلغ الأمر بضعاف الدين والنفوس أنهم يضعون الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل مكسب مادي، أو التزلف إلى السلطان! ومن

ذلك: أن المهدي كان يحب الحمام ويشتهيها فأدخل عليه غياث بن إبراهيم فقيل له:" حدث أمير المؤمنين؟ فحدث بحديث أبى هريرة:" لا سبق إلا في حافر أو نصل أو جناح ". فأمر له المهدي بعشرة آلاف درهم. فلما قام قال المهدي: أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما استجلبت ذلك أنا. فأمر بالحمام فذبحت، وقال: من أجلها هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ذكر غياثاً بعد ذلك "(3).

وكذا الخلافات المذهبية الفقهية والكلامية، وأحاديث أهل الترغيب والترهيب، التي شاعت آنذاك لمواجهة ضعف التدين والعبادة.

وأحاديث القصاصين الذين يستثيرون عاطفة عامة الناس لابتزاز أموالهم، أو لموافقة رغبات الحكام آنذاك، حتى قال أحدهم للخليفة المهدي: إن شئت وضعت لك أحاديث في فضل العباس! (4).فهذه الأمثلة توضح مدى الصعوبة التي واجهها علماء المسلمين، وخاصة علماء الحديث، الذين رزقوا الفهم مع العلم، والبصيرة مع الحفظ، فلم يقفوا مكتوفي الأيدي بل دققوا المتون وفتشوا الأسانيد، وعروا الكذابين والمنتحلين، فكان أحدهم يعرف الحديث مثلما يعرف أبناءه!،ومن ذلك ما نقله الخطيب في كفايته قال:" قال الربيع بن خثيم: إن من الحديث حديثاً له ضوء كضوء النهار نعرفه، وإن من الحديث حديثاً له ظلمة كظلمة الليل ننكره، كتب إلينا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان

(1) مصدر سابق.

(2)

تدريب الراوي، السيوطي 1/ 240، بتصرف يسير، وانظر الكفاية، الخطيب البغدادي ص 431.

(3)

الإرشاد، الخليلي 2/ 593 - 594، وانظر نزهة النظر، ابن حجر ص 65، وتدريب الراوي، السيوطي 1/ 241.

(4)

انظر تدريب الراوي 1/ 241، وتوثيق السنة ص64 - 65.

ص: 229

الدمشقي وحدثناه محمد بن يوسف النيسابوري عنه قال: حدثنا أبو الميمون البجلي، قال: حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النصري قال: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: سمعت الأوزاعي يقول: كنا نسمع الحديث ونعرضه على أصحابنا كما نعرض الدرهم الزائف فما عرفوا منه أخذناه وما أنكروا منه تركناه، أخبرنا محمد بن الحسين القطان قال: أخبرنا دعلج بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن علي الأبار قال: قال أبو غسان، يعني زنيجاً: قال جرير: كنت إذا سمعت الحديث جئت به إلى المغيرة فعرضته عليه فما قال لي القه ألقيته " (1).

فكل هذا التراث الفكري والعقائدي غثّه وسمينه كان أمام علماء الحديث، حينما تصدوا لجمع الحديث النبوي الشريف، وغربلته.

ثم فكّر علماء المئة الثانية بتصنيف الحديث، وتبويبه على أنحاء شتى، وصيغ مختلفة، فظهرت المصنفات والأبواب، والمسانيد والجوامع، وغير ذلك.

وإذا استثنينا الكتب التي نص مؤلفوها على صحتها، مثل صحيحي البخاري ومسلم ونحوهما، فإن مؤلفي الكتب الأخرى مثل أصحاب المصنفات، والمسانيد، والسنن، وإن لم يشترطوا الصحة في الأحاديث التي أخرجوها في مصنفاتهم ولكنهم لم يُورِدُوها عبثاً، بل اختاروها من ذلك التراث الضخم الذي جاءهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم.

فالإمام أحمد مثلاً اختار مسنده والذي هو بزهاء الثلاثين ألف حديث من مجموع سبعمائة ألف حديث!! (2)، والإمام البخاري أخرج صحيحه من زهاء ستمائة ألف حديث (3)، وأحاديثه بالمكرر بحدود السبعة آلاف وخمسمائة حديث فقط، وانتقى الإمام مسلم أحاديث

صحيحه من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة (4)، وقال أبو داود: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب يعنى كتاب السنن، جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه " (5).

وهكذا مع بقية المصنفات الأخرى التي أخرجت الأحاديث النبوية في تلك الحقبة.

(1) الكفاية 1/ 431.

(2)

الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب 1/ 130.

(3)

تأريخ الخطيب 2/ 327.

(4)

تأريخ الخطيب 15/ 122، وانظر مقدمة تحقيقه لد. بشار عواد 1/ 167.

(5)

انظر تأريخ الخطيب 10/ 78، ومقدمة تحقيقه1/ 167.

ص: 230

وهذه الأحاديث التي أثبتوها لم يثبتوها عشوائياً أو على سبيل الموافقة، وإنما كان ذلك بعد أن " رحلوا من أجلها إلى البلدان النائية، وطوفوا في البلدان شرقاً وغرباً ليصدروا عن خبرة وعيان وسألوا عن الرواة واطَّلعوا على مروياتهم ومدوناتهم ومحفوظاتهم "(1).

فالأحاديث التي دونوها إنما دونوها بناءً على قواعد هي في أذهانهم نابعة من سعة حافظتهم واطِّلاعهم، وسبرهم للمرويات الكثيرة التي وقفوا عليها فعلموا أنَّ هذا الحديث يصح عن فلان ولا يصح عن فلان، وأنَّه من رواية فلان وليس من رواية غيره.

فحينما يقول أبو حاتم - مثلاً -: هذا الحديث لا يصح من رواية أنس مع أن طريقه ثقات فإن ذلك يعني سبر كل طرق الحديث ومظانه، بحيث أدرك يقيناً أنه ليس من رواية أنس - قطعاً -.

وقد كتب الأئمة بعض الأحاديث عن الضعفاء والكذابين فوجدوا أحاديثهم مما لا يجوز تدوينها في كتبهم إما لأنها ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أو لأن فيها من الغلط الفاحش في الإسناد أو المتن مما يتعين تركها ورميها، فتغربلت الروايات الكثيرة غربلة دقيقة وهذا ما نص عليه الأئمة، يقول الإمام يحيى بن معين:" كتبنا عن الكذابين، وسجرنا به التنور، وأخرجنا به خبزاً نضيجاً "(2).

فالمتقدمون قلما فاتهم حديث، وقلما تركوا حديثاً صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً ضعفاً مقبولاً إلاّ ودونوه في مصنفاتهم، بل وحتى الذين اشترطوا الصحة في حديثهم فإنه قلما يفوتهم الحديث الصحيح، يقول محمد بن يعقوب الأخرم:" قلما يفوت البخاري ومسلماً مما يثبت من الحديث "(3).

فإذا ترك البخاري أو مسلم حديثاً ما عليك إلا أن تتبع لماذا تركاه؟! وغالباً ما يكون معلولاً، وخاصة إذا لم يكن في الباب غيره، أو كان مشهوراً عندنا اليوم.

وبعبارة أخرى: المتقدمون سبروا المرويات، ودرسوا الأسانيد والمتون دراسة وافية شافية فعرفوا المقبول من المتروك، والصحيح من المكذوب، فدونوا مصنفاتهم بعد السبر والتحرير فكتبوا ما صح وتركوا ما لم يصح، إلا ما شاء الله تعالى، ولا يعني من الصحة

(1) د. بشار عواد، مقدمة تحقيقه لتأريخ الخطيب 1/ 166.

(2)

تاريخ الخطيب 16/ 273.

(3)

تأريخ الخطيب 15/ 123.

ص: 231

ترك الحسن والضعيف المقبول، بل مفهوم الصحة عندهم أوسع مما عندنا، فالصحيح عندهم ما كان مقبولاً للعمل به.

وقد أخرجوا عن بعض الضعفاء ممن نسميهم اليوم ضعفاء أو قالوا هم فيهم ضعفاء ولكنهم أخرجوا لهم، وإخراجهم لهم لا يعني قبول حديثهم على إطلاقه، بل أخرجوا لهم

انتقاءً مثلما أخرج البخاري لإسماعيل بن أبي أويس، وحسان بن حسان، والحسن بن بشر، والحسن بن ذكوان، وخالد بن مخلد القطواني، وسليم بن زرير، وعبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة وغيرهم.

ومثلما أخرج مسلم لبعض هؤلاء فشارك شيخه وانفرد ببعض، كانتقائه من حديث إبراهيم بن المهاجر البجلي، وشريك القاضي، وعلي بن زيد بن جدعان، وعبد الله بن لهيعة، وغيرهم كثير (1).

ورغم ذلك انتقى الأئمة لهم ما صح من حديثهم وما قرنت منها بأحاديث الثقات.

وتخريج الشيخين لهؤلاء الضعفاء يعني استيعابها للطرق والمظان ولو صحت عندهم روايات غير هذه لما أثقلوا مصنفاتهم بتخريج طرق هؤلاء.

وهكذا نجد أن المتقدمين استوعبوا وغربلوا الطرق حتى صنفوا مصنفاتهم بناءاً على ذلك السبر وتلك المرويات، وتركوا آلافاً، بل مئات الآلاف من الطرق مما لم يصح أو لا يصلح لأن تسود به الصفحات.

يقول الشيخ العوني: " بل ما انقضى هذا القرن إلا والسنة جميعها مدونة، ولم يبق من الروايات الشفهية غير المدونة في المصنفات - بعد هذا العصر - شيء يذكر، إلا روايات الأفاكين، وأحاديث المختلقين، أو أخبار الواهمين المخلّطين "(2).إلا ما شاء الله تعالى.

فاستقرت الروايات وعُرفت التخريجات والمتون وجمعت السنة النبوية بشكلها الكامل في مصنفات الأئمة بشكل نهائي - تقريباً - انتهاءً بالإمام ابن خزيمة ت (311) هـ رحمه الله تعالى، أي في نهاية القرن الثالث، ولهذا عد الإمام الذهبي هذا القرن هو الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين -كما أسلفنا-.

ومما يدلل على هذا قول أبي عبد الله الحاكم:" فقد نبغ في عصرنا هذا جماعة

(1) تأريخ الخطيب 15/ 123.

(2)

المنهج المقترح ص 52.

ص: 232

يشترون الكتب فيحدثون بها وجماعة يكتبون سماعاتهم بخطوطهم في كتب عتيقة في الوقت فيحدثون بها فمن يسمع منهم من غير أهل الصنعة فمعذور بجهله فأما أهل

الصنعة إذا سمعوا من أمثال هؤلاء بعد الخبرة ففيه جرحهم وإسقاطهم إلى أن تظهر توبتهم على أن الجاهل بالصنعة لا يعذر فإنه يلزمه السؤال عما لا يعرفه وعلى ذلك كان السلف رضي الله عنهم أجمعين " (1). هذا أحد أئمة القرن الرابع، وهو الإمام الحاكم النيسابوري ت 405 هـ نص على تخفف شروط العدالة والضبط لأهل زمانه، فلم يذكر في الضبط إلا ما يتعلق بضبط الكتاب، وقد أشار إلى هذه المسألة الإمام الرامهرمزي، في كتابه المحدث الفاصل (2).

ونبه الحافظ ابن الصلاح إلى هذه المسألة فقال:" وقد سبق إلى نحو ما ذكرناه الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي رحمه الله فإنه ذكر في ما روينا عنه توسع من توسع في السماع من بعض محدثي زمانه الذين لا يحفظون حديثهم، ولا يحسنون قراءته من كتبهم، ولا يعرفون ما يقرأ عليهم بعد أن تكون القراءة عليهم من أصل سماعهم، ووجه ذلك: بأن الأحاديث التي قد صحت أو وقفت بين الصحة والسقم قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم، وإن جاز أن يذهب على بعضهم لضمان صاحب الشريعة حفظها، قال - يريد البيهقي -: فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه، ومن جاء بحديث معروف عندهم فالذي يرويه لا ينفرد بروايته والحجة قائمة بحديثه برواية غيره والقصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلاً بحدثنا وأخبرنا وتبقى هذه الكرامة التي خصت بها هذه الأمة شرفاً لنبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم "(3).

وقال الخطيب البغدادي: " وقد استفرغت طائفة من أهل زماننا وسعها في كتب الأحاديث والمثابرة على جمعها من غير أن يسلكوا مسلك المتقدمين وينظروا نظر السلف الماضين في حال الراوي والمروي، وتمييز سبيل المرذول والمرضى، واستنباط ما في السنن من الأحكام وإثارة المستودع فيها من الفقه بالحلال والحرام، بل قنعوا من الحديث باسمه،

(1) معرفة علوم الحديث ص 15 - 16

(2)

انظر المحدث الفاصل 159 - 162، والمنهج المقترح، العوني ص 53.

(3)

مقدمة ابن الصلاح ص 104.

ص: 233

واقتصروا على كتبه في الصحف ورسمه فهم أقمار وحملة أسفار، قد تحملوا المشاق الشديدة وسافروا إلى البلدان البعيدة وهان عليهم الدأب والكلال، واستوطؤوا مركب

الحل والارتحال وبذلوا الأنفس والأموال وركبوا المخاوف والأهوال شعث الرؤوس شحب الألوان، خمص البطون، نواحل الابدان يقطعون أوقاتهم بالسير في البلاد طلباً لما علا من الإسناد لا يريدون شيئاً سواه ولا يبتغون إلا إياه يحملون عمن لا تثبت عدالته ويأخذون ممن لا تجوز أمانته ويروون عمن لا يعرفون صحة حديثه ولا يتيقن ثبوت مسموعه ويحتجون بمن لا يحسن قراءة صحيفته، ولا يقوم بشيء من شرائط الرواية ولا يفرق بين السماع والإجازة ولا يميز بين المسند والمرسل والمقطوع والمتصل ولا يحفظ اسم شيخه الذي حدثه حتى يستثبته من غيره ويكتبون عن الفاسق في فعله المذموم في مذهبه وعن المبتدع في دينه المقطوع على فساد اعتقاده ويرون ذلك جائزاً والعمل بروايته واجباً إذا كان السماع ثابتاً والإسناد متقدماً عالياً فجر هذا الفعل منهم الوقيعة في سلف العلماء وسهل طريق الطعن عليهم لأهل البدع والأهواء حتى ذم الحديث وأهله بعض من ارتسم بالفتوى في الدين ورأى عند إعجابه بنفسه انه أحد الأئمة المجتهدين بصدوفه عن الآثار إلى الرأي المرذول، وتحكمه في الدين برأيه المعلول وذلك منه غاية الجهل ونهاية التقصير عن مرتبة الفضل ينتسب إلى قوم تهيبوا كد الطلب ومعاناة ما فيه من المشقة والنصب، وأعيتهم الأحاديث أن يحفظوها واختلفت عليهم الأسانيد فلم يضبطوها فجانبوا ما استثقلوا وعادوا ما جهلوا وآثروا الدعة واستلذوا الراحة ثم تصدروا في المجالس قبل الحين الذي يستحقونه وأخذوا أنفسهم بالطعن على العلم الذي لا يحسنونه أن تعاطى أحدهم رواية حديث فمن صحف ابتاعها كفي مؤونة جمعها من غير سماع لها ولا معرفة بحال ناقلها وإن حفظ شيئاً منها خلط الغث بالسمين وألحق الصحيح بالسقيم وإن قلب عليه إسناد خبر أو سئل عن علة تتعلق بأثر تحير واختلط، وعبث بلحيته وامتخط تورية عن مستور جهالته فهو كالحمار في طاحونته ثم رأى ممن يحفظ الحديث ويعانيه ما ليس في وسعه الجريان فيه فلجأ إلى الازدراء بفرسانه واعتصم بالطعن على الراكضين في ميدانه، كما أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن جعفر الخرقي قال: أنبأنا أحمد بن جعفر بن محمد بن سلم الختلي قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن علي الآبار قال: رأيت بالأهواز رجلاً حف شاربه وأظنه قد اشترى كتباً وتعبأ للفتيا فذكروا أصحاب

ص: 234

الحديث فقال: ليسوا بشيء، وليس يسوون شيئاً، فقلت له: أنت لا تحسن تصلي؟ قال: أنا؟! قلت: نعم، قلت:

أيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتحت الصلاة ورفعت يديك؟ فسكت!، فقلت: وأيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وضعت يديك على ركبتيك؟ فسكت!، قلت: أيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجدت؟ فسكت!، قلت: مالك لا تكلم؟ ألم أقل لك إنك لا تحسن تصلى!، أنت إنما قيل لك تصلي الغداة ركعتين والظهر أربعاً فالزم ذا خير لك من أن تذكر أصحاب الحديث فلست بشيء، ولا تحسن شيئاً. فهذا المذكور مثله في الفقهاء كمثل من تقدم ذكرنا له ممن انتسب إلى الحديث ولم يعلق به منه غير سماعه وكتبه دون نظره في أنواع عمله.

وأما المحققون فيه المتخصصون به فهم الأئمة العلماء والسادة الفهماء أهل الفضل والفضيلة والمرتبة الرفيعة حفظوا على الأمة أحكام الرسول وأخبروا على أنباء التنزيل وأثبتوا ناسخه ومنسوخه وميزوا محكمه ومتشابهه ودونوا أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وضبطوا على اختلاف الأمور أحواله، في يقظته ومنامه وقعوده وقيامه وملبسه ومركبه ومأكله ومشربه، حتى القلامة من ظفره ما كان يصنع بها والنخاعة من فيه كيف كان يلفظها وقوله عند كل فعل يحدثه ولدى كل موقف يشهده تعظيماً لقدره صلى الله عليه وسلم، ومعرفة بشرف ما ذكر عنه وُعزي إليه، وحفظوا مناقب صحابته ومآثر عشيرته، وجاؤوا بسير الأنبياء ومقامات الأولياء واختلاف الفقهاء ولولا عناية أصحاب الحديث بضبط السنن وجمعها واستنباطها من معادنها والنظر في طرقها لبطلت الشريعة وتعطلت أحكامها إذ كانت مستخرجة من الآثار المحفوظة ومستفادة من السنن المنقولة " (1).

طبقة المتأخرين:

وبعد أن استقرت الروايات وصنفت المصنفات والصحاح، جاء المتأخرون، وأعني من بعد ابن خزيمة ت 311هـ رحمه الله، فإنهم توسعوا بعد هذا الاستقرار وحاولوا مواكبة المتقدمين فحدثوا بكثير من الأحاديث وإن كان هذا مما تركه المتقدمون الأولون الجهابذة أو مما وضعه الواضعون الذي جاؤوا من بعد هذا الجيل المتين، ودونوه في مشيخاتهم ومعجماتهم المصنفة (2).

(1) الكفاية ص 3 - 5.

(2)

انظر مقدمة تاريخ الخطيب، تحقيق د. بشار عواد 1/ 168.

ص: 235

وقد نبّه إليها الإمام ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي فقال: " الطبقة الرابعة: كتب قصد مصنفوها بعد قرون متطاولة جمع ما لم يوجد في الطبقتين الأوليين، وكانت هي المجاميع، والمسانيد المختفية، فنوهوا بأمرها، وكانت على ألسنة من لم يكتب حديثه المحدثون، ككثير من الوعاظ والمتشدقين، وأهل الأهواء، والضعفاء، أو كانت من آثار الصحابة والتابعين، أو من أخبار بني إسرائيل، أو من كلام الحكماء، والوعاظ خلطها الرواة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم سهواً، أو عمداً، أو كانت من محتملات القرآن والحديث الصحيح، فرواها بالمعنى قوم صالحون، لا يعرفون غوامض الرواية، فجعلوا المعاني أحاديث مرفوعة، أو كانت معاني مفهومة من إشارات الكتاب والسنة، جعلوها أحاديث مستبدة برأسها عمداً، أو كانت جملاً شتى في أحاديث مختلفة، جعلوها حديثا واحداً بنسق واحد، ومظنة هذه الأحاديث كتاب: الضعفاء لابن حبان، وكامل ابن عدي، وكتب الخطيب، وأبى نعيم، والجورقاني، وابن عساكر، وابن النجار، والديلمي، وكاد مسند الخوارزمي يكون من هذه الطبقة، وأصلح هذه الطبقة ما كان ضعيفاً محتملاً، وأسوؤها ما كان موضوعاً أو مقلوباً، شديد النكارة، وهذه الطبقة، مادة كتاب: الموضوعات لابن الجوزي "(1).

وعقب عليه ولده العلامة عبد العزيز الدهلوي المتوفى سنه 1239 هـ بقوله:

" وأحاديث هذه الطبقة التي لم يعلم في القرون الأولى اسمها ولا رسمها، وتصدى المتأخرون لروايتها، فهي لا تخلو عن أمرين: إما أن السلف تفحصوا عنها ولم يجدوا لها أصلاً، حتى يشتغلوا بروايتها، أو وجدوا لها أصلاً ولكن صادفوا فيها قدحاً، أو علة موجبة لترك روايتها فتركوها،

. وقد أضل هذا القسم من الأحاديث كثيراً من المحدثين عن نهج الصواب حيث اغتروا بكثرة طرقها الموجودة في هذه الكتب، وحكموا بتواترها، وتمسكوا بها في مقام القطع واليقين، وأحدثوا مذاهب تخالف أحاديث الطبقتين الأوليين على ثقتها. والكتب المصنفة في أحاديث هذا القسم كثيرة منها: ما ذُكر، ومنها كتاب الضعفاء للعقيلي، وتصانيف الحاكم، وتصانيف ابن مردويه، وتصانيف ابن شاهين، وتفسير ابن جرير، وفردوس الديلمي، بل سائر تصانيفه

،وتصانيف أبي الشيخ

فالاشتغال بجمعها والاستنباط منها نوع تعمق من المتأخرين، وإن شئت الحق فطوائف

(1) الحطة، القنوجي 218 - 221،بتصرف يسير، وانظر مقدمة تحقيق تأريخ الخطيب، د. بشار عواد معروف 1/ 169.

ص: 236

المبتدعين من الروافض والمعتزلة وغيرهم يتمكنون بأدنى عناية أن يلخصوا منها شواهد مذاهبهم، فالانتصار بها غير صحيح في معارك العلماء بالحديث " (1).

فالأحاديث التي صنفت بعد عصر المتقدمين لا تبرح أن تدور في أمور خمسة (2):-

أولاً: أحاديث معروفة عند المتقدمين أوردوها في دواوينهم ساقها المتأخرون بأسانيدهم إلى المصنفين من غير تبديل.

" وهذه لا قيمة حقيقية لها لوجودها في مرويات ثبتت عن مؤلفيها كالمصنفين والمسند الأحمدي والكتب الستة، ومؤلفات أصحابها الأخرى وما جرى مجراها "(3).

فما قيمة حديث أخرجه الحاكم في مستدركه بسنده إلى الإمام أحمد والحديث بعينه في مسند أحمد والمسند مطبوع، ومشهور أكثر من المستدرك؟ اللهم إلاّ الاستئناس.

2 -

أحاديث معروفة في دواوين الإسلام الأولى كونها مرسلة أو موقوفة أو منقطعة أوردها المتأخرون موصولة أو مرفوعة - وهذا من أصل بحثنا هنا - والأغلب الأعم منها هي من أخطاء الرواة أو مما تركه المتقدمون مع اطلاعهم على هذه الطرق.

ولا يُظن خطأً أن قول القائل: أخرجه البخاري في صحيحه معلقاً، ووصله ابن حجر العسقلاني في التغليق من طريق فلان أو فلان، أن الإمام البخاري لم يطلع على هذا الطريق!

فكل حديث علقه البخاري يعني أنه لم يصح عنده، ولو صح ذلك عند غيره- مثلاً - فلا ينسب إلى الإمام البخاري أولاً، ثم يقال وقد علقه البخاري لأن تعليقه للحديث هو علة أصلاً، والله أعلم.

ثالثاً- أحاديث أوردها المصنفون الأوائل بأسانيد معينة ومن مخارج لا تعرف إلاّ بها كأن يصرح بذلك فيقول: وهذا الحديث لا يعرف إلاّ من رواية فلان عن فلان أو يكون معروفاً عندهم أنه لا يصح إلاّ من طريق فلان أو لا يعرف إلاّ به.

ثم يأتيك مصنف من بعدهم فيوردها بأسانيد توهم كأنها أسانيد جديدة فاتت المتقدمين أو خفيت عليهم، وهذه إنما هي إما مما تركه المتقدمون عمداً لوهائها أو مما

(1) مصدر سابق.

(2)

أنظر مقدمة تحقيق تأريخ بغداد، د. بشار عواد 1/ 169.

(3)

مصدر سابق.

ص: 237

أخطأ فيها الرواة، أو مما اختلقه الواضعون.

رابعاً:- أحاديث أخرجها المتقدمون بمتون معلومة محفوظة ثم يرويها المتأخرون بزيادة أو تغيير في متونها يغير معانيها ومما يخرجها عن المحفوظ منها.

وهذا مما كثر واشتهر بشكل واضح بعد القرن الثالث، ثم ابتكر بعض المتأخرين قاعدة (زيادة الثقة مقبولة مطلقاً)، فقبلوا على أساسها أحاديث كاملة ومتوناً غريبة ومخالفات واضحة تحت هذا العنوان.

خامساً:- أحاديث بألفاظ أو بأسانيد لم يذكرها المتقدمون في دواوينهم، ظهرت لأول مرة في القرن الرابع، وهي أما مما تركه المتقدمون لوهائه أو مما ابتدعه الكاذبون الواضعون المتأخرون. وإلاّ لوجدناه في الموطأ، أو المسند الأحمدي أو المصنفات الأخرى؟.

وهكذا صنف المتأخرون مصنفاتهم فأوردوا أحاديث هي أضعاف مضاعفة لما سطره المتقدمون في مصنفاتهم أو مما لم يعرفه المتقدمون.

ومن هنا نفهم خطأ الحاكم النيسابوري رحمه الله في استدراكه على أعظم كتابين بعد كتاب الله تعالى، أعني: صحيحي البخاري ومسلم، فقد استدرك عليها أحاديث موضوعة، وباطلة!!.

يقول الإمام الذهبي: " في المستدرك شيء كثير على شرطهما وشيء كثير على شرط أحدهما ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب، بل أقل، فإن في كثير من ذلك أحاديث في الظاهر على شرط أحدهما أو كليهما، وفي الباطن لها علل خفية مؤثرة. وقطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيد وذلك نحو ربعه، وباقي الكتاب مناكير وعجائب وفي غضون ذلك أحاديث نحو المائة يشهد القلب ببطلانها كنت قد أفردت منها جزءاً، وحديث الطير بالنسبة إليها سماء وبكل حال فهو كتاب مفيد قد اختصرته ويعوز عملاً وتحريراً "(1). وقد مر كلامه في كيفية دخول الخلل على مستدرك الحاكم (2).

فهذه العلل الباطنة التي اطلع عليها الذهبي، وتلك التي لم يطلع عليها، هي التي منعت الإمامين من إيرادها في كتابيهما.

(1) سير أعلام النبلاء 17/ 175 - 176.

(2)

انظر ص 23من هذا البحث، والموقظة ص46.

ص: 238