الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
التطبيق العملي في كتب العلل
قبل أن أدخل إلى كتب العلل أرى من المهم أن أُبين مفهوم العلة عند المحدثين، فأقول: عرف علماء المصطلح الحديث المعلول تعريفات متعددة منها:
عرفه الحاكم النيسابوري:"وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن الحديث المجروح ساقط واهٍ، وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات إن يحدثوا بحديث له علة فيخفى عليهم، فيصير الحديث معلولاً والحجة فيه عندنا: الحفظ، والفهم، والمعرفة لا غير"(1).
وعرفه ابن الصلاح بأنه:"هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن الظاهر السلامة منها "(2).
وعرفه الحافظ ابن حجر العسقلاني أنّه:"خبر ظاهره السلامة اطلع فيه بعد التفتيش على قادح "(3).
وانتقد برهان الدين البقاعي تعريف شيخه -ابن حجر-فقال:
" ولا حاجة إلى ذكر التفتيش فإنه يفهم من العبارة والتقييد بظهور السلامة يخرج ما علته ظاهرة "(4).
أقول: مما مر نخلص إلى أن المتأخرين يقيدون المعلول بالقدح والخفاء.
وهذا خلاف صنيع المتقدمين الذين وإن لم يصرحوا لنا بحد الحديث المعلول فإن صنيعهم واضح في كتبهم، وفي الأحاديث التي عللوها، فالعلة عندهم أوسع بكثير مما يحصرها به المتأخرون، فالعلة عندهم تشمل مع ما ذكروه من العلة الخفية العلة الظاهرة فكم من حديث أعله أبو حاتم في علله بسبب جرح رجل أو اختلاطه أو تدليسه؟ وكم من حديث أعله البخاري وابن المديني وابن معين بمثل ذلك!!
(1) معرفة علوم الحديث ص112.
(2)
علوم الحديث ص42.
(3)
النكت الوفية، البقاعي ق63 - 64 (مخطوط) وانظر فتح المغيث 1/ 227.
(4)
مصدر سابق.
وقد أطلق الترمذي مصطلح "العلة " على النسخ أيضاً إذ قال:" جميع ما في هذا الكتاب من الحديث فهو معمول به، وقد أخذ به بعض أهل العلم، ما خلا حديثين: حديث ابن عباس:" أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة، والمغرب والعشاء، من غير خوف، ولا سفر،
ولا مطر". وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه". وقد بينا علة الحديثين جميعاً في الكتاب"(1)، وقال عند تخريجه للحديث الثاني (1444):"وإنما كان هذا أول الأمر ثم نسخ بعد "، فالترمذي سمى النسخ علة (2).
فالمتقدمون أطلقوا العلة على كل حديث"لا يصح العمل به "،باختلاف طرق الإعلال، والمتأخرون قسموا العلة إلى أقسام متعددة واصطلحوا عليها بمصطلحات خاصة بهم تقترب حيناً، وتبتعد حيناً آخر عن مفهوم المتقدمين لها بل جعلوا علم العلل نوعاً من أنواع علوم الحديث ومن فنونه منحازاً عن بقية العلوم الأخرى التي في الحقيقة إنما هي نوع واحد عند المتقدمين!
وبعد هذا أقول: إن المتقدمين لسعة حفظهم، وقدرتهم على معرفة طرق كل حديث ومظانه، كانوا حريصين كل الحرص على تنقية السنة النبوية من الأحاديث التي ليست منها، بل وحتى من الأسانيد التي ظاهرها الصحة وتشهد لها أحاديث صحيحة، ولكنها غير معروفة في دواوين الإسلام الأولى فكان علماؤنا يردونها، ويعللونها بعلل مختلفة، فيقولون مثلاً: غير معروف من طريق سفيان عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود، وإنما المعروف من طريق شعبة وإسرائيل عن أبي إسحاق به (3).
وهذا يدلل على سعة علمهم، وحفظهم (4) ومعرفة طرق كل حديث، فتراهم يصولون ويجولون في غربلة الأحاديث: هذا حديث باطل، هذا حديث منكر، هذا الحديث من رواية فلان صحيح وما عداه فباطل، وهلم جرا.
وتراهم يعلون كثيراً من الأحاديث ورجال أسانيدها ثقات لكنها غير معروفة
(1) العلل الملحق بآخر الجامع 5/ 692.
(2)
انظر النكت على ابن الصلاح 2/ 771، والباعث الحثيث ص57.
(3)
انظر للتمثيل: علل ابن أبي حاتم برقم (27 و 30 و 2502 و 2513 و 2753).
(4)
انظر ص 214.
فيقولون لك: هذا إسناد مستقيم ورجاله ثقات والحديث غير محفوظ، أي:(المتن).
وتراهم يعلون أحاديث باب بعينه فيقولون مثلاً: ولا يصح في هذا الباب شيء.
ومع كل هذا فإنك إذا أردت أن ترجع إلى سند ومتن هذا الحديث الذي أُعل تجده نظيفاً؟! إذن لماذا أعلوه؟!
الجواب على ذلك: إنهم كانوا مصحفاً في الحفظ والضبط - إلا ما شاء الله- فلا تفوتهم شاردة أو واردة إلا وعرفوها.
ومن ذلك ما نقله الحافظ ابن حجر فقال: سأل مسلم بن الحجاج محمد بن إسماعيل - البخاري - فقال: " حدثك محمد بن سلام قال: حدثنا مخلد بن يزيد، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: حدثني موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" كفارة المجلس أن يقول إذا قام من مجلسه سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ".؟ فقال محمد بن إسماعيل: وحدثنا أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين قالا: حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج، قال: حدثني موسى بن عقبة، عن سهيل عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" كفارة المجلس أن يقول إذا قام من مجلسه سبحانك ربنا وبحمدك ". فقال محمد بن إسماعيل: هذا حديث مليح ولا أعلم بهذا الإسناد في الدنيا حديثاً غير هذا إلا أنه معلول "(1).!!
هذا الذي دفع بعض العلماء من المتأخرين أن يقولوا:
" إنهم كانوا يعرفون الأحاديث بالفتح الرباني، أو الإلهام، أو ما إلى ذلك "(2)، لأنهم رأوا عجباً في حفظهم وضبطهم.
لذا كان الأجدر بالمتأخرين أن يكونوا وقّافين عند الأحكام التي أطلقها الجهابذة الأوائل، وذلك لا يعدُ حَجْراً للعلم، ذلك لأن السنة النبوية - المرويات - ليست باباً اجتهادياً حتى أننا نقول: غُلق باب الاجتهاد؟ وإنما هي مرويات معلومة محفوظة - إلا ما شاء الله تعالى -.
وحرص الأئمة المتقدمون على معرفة علل الأحاديث، حتى يقول واحد من أبرزهم، وهو الإمام الجهبذ عبد الرحمن بن مهدي: " لأن أعرف (علة) حديث واحد،
(1) المقدمة ص 674 - 675.
(2)
انظر شرح علل الترمذي، ابن رجب 1/ 123 و470،وفتح المغيث، السخاوي 1/ 220.
أحب إلي من أن أستفيد عشرة أحاديث " (1).
لذلك كتب كثيرٌ من العلماء الجهابذة مصنفات في العلل، فهذه علل ابن المديني، وعلل ابن معين، وعلل أحمد، والتاريخ الكبير للبخاري، والتمييز لمسلم، والمراسيل لأبي داود، وعلل الترمذي، وعلل النسائي، وعلل ابن أبي حاتم عن أبيه وأبي زرعة، وغيرهم، ناهيك عن تعليلهم المرويات ضمناً في مصنفاتهم، ففي الغالب يضمّن المحدث مصنفه عللاً، ينبه عليها، وهلمَّ جراً.
ولا ُيتصّور أن بإمكان كل أحد إعلال الأحاديث أو الكتابة فيها، فعلل الحديث من أصعب الفنون وأدقها، لأنها تحتاج إلى اطلاع واسع ومعرفة دقيقة وتشبع بهذا العلم الشريف، لا يتهيأ إلَاّ لمن صرف عمره ووقته له.
وقد هيأ الله تعالى لهذا العلم فحولاً أفذاذاً، كشعبة بن الحجاج، وأضرابه، يقول ابن رجب الحنبلي فيه:" هو أول من وسع الكلام في الجرح والتعديل واتصال الأسانيد وانقطاعها، فنقب عن دقائق علم العلل، وأئمة هذا الشأن بعده تبع له في هذا العلم "(2).
ويقول الإمام أحمد في مدح ابن معين في علم العلل:"ههنا رجل خلقه الله لهذا الشأن "(3).
ويمتدح الإمام مسلم شيخه البخاري فيقول له مخاطباً:"يا أستاذ الأستاذينَ وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله "(4).
وقال أبو حاتم الرازي:"كان علي بن المديني علماً في الناس في معرفة الحديث والعلل"(5).
أقول فإذا أعل هؤلاء الأئمة أو بعضهم حديثاً فلا يحقُ لمن يأتي بعدهم من المتأخرين مزاحمتهم في إعلالهم، لأنهم حفظوا الطرق وعرفوا المخارج، وتشبعوا بهذا العلم، أما المتأخرون فلربما وقعت لهم طرق لم تصح أوهمتهم بتصحيح بعض ما أعله
(1) شرح العلل 1/ 470.
(2)
شرح العلل 1/ 448.
(3)
مصدر سابق.
(4)
معرفة علوم الحديث ص114، وانظر شرح العلل 1/ 33.
(5)
شرح العلل 1/ 485.