الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
أولاً: مفهوم مصطلح " المتقدمين " و " المتأخرين
":
يُذكر مصطلح: " المتقدمون " في غالبية كتب المصطلح وكتب الحديث عامة، ويختلف فهم المقصود من إطلاقهم هذا، فما المراد من هذا المصطلح؟
ذهب الإمام الذهبي في مقدمة "الميزان " إلى أنّ الحد الفاصل بين المتقدم والمتأخر هو رأس سنة ثلاثمائة (1)، وذكر في "التذكرة " أن بداية نقص علوم السنة، وبداية ظهور العلوم العقلية، وتناقص الاجتهاد، وظهور التقليد في آخر الطبقة التاسعة، فقال واصفاً تلك الطبقة:" فان المجلس الواحد في هذا الوقت كان يجتمع فيه أزيد من عشرة آلاف محبرة يكتبون الآثار النبوية ويعتنون بهذا الشأن وبينهم نحو من مئتي إمام قد برزوا وتأهلوا للفتيا، فلقد تفانى أصحاب الحديث وتلاشوا وتبدل الناس بطلبه يهزأ بهم أعداء الحديث والسنة ويسخرون منهم وصار علماء العصر في الغالب عاكفين على التقليد في الفروع من غير تحرير لها، ومكبين على عقليات من حكمة الأوائل وآراء المتكلمين من غير أن يتعقلوا أكثرها، فعم البلاء، واستحكمت الأهواء، ولاحت مبادئ رفع العلم وقبضه من الناس "(2). وكذلك فعل أبو عمرو بن المرابط ت (752) هـ في إطلاقه إلى أول القرن الرابع فقال: "قد دونت الأخبار، وما بقي للتجريح فائدة، بل انقطعت من رأس الأربع مئة "(3).
وأما ما ذهب إليه الدكتور حمزة المليباري إلى أنهم أهل الرواية، وهم أصحاب الفترة الممتدة من عصر الصحابة الكرام، وإلى نهاية القرن الخامس الهجري، وجعل الميزة أنهم يروون المرويات بالأسانيد؟ (4)،فهذه الميزة غير منضبطة بضابط مستقيم، فالرواية بالإسناد ممتدة إلى يوم الناس هذا، ثم البون شاسع في المنهجية، والأسلوب بين الإمام
البخاري ت (256) وبين أهل القرن الرابع كأبي عبد الله الحاكم ت (405) - مثلا -.
والذي أراه أن كلام الإمام الذهبي ومن تابعه أدق بكثير، فلا بد من اعتبار المدة
(1) انظر ميزان الاعتدال 1/ 4.
(2)
تذكرة الحفاظ 2/ 529 - 530، وانظر المنهج المقترح، العوني ص 62.
(3)
فتح المغيث، السخاوي 3/ 271،وانظر الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التأريخ، له ص 92 و 106.
(4)
نظرات جديدة في علوم الحديث ص11.
الزمنية التي عاشها الطرفان - المتقدمون والمتأخرون - ففي ذاك الزمان، في القرن الأول والثاني والثالث، استقرت الروايات وغُربلت الأحاديث فتبين صحيحها من سقيمها، ودونت المصنفات وعرفت الطرق والمخارج، وكل من جاء بعدهم فهو عيال عليهم.
ومما يدلل على ضعف الرواية بعد القرن الثالث ما قاله عالم جهبذ عاش في تلك الحقبة هو الإمام ابن حبان ت (354) هـ إذ قال في مقدمة كتابه " التقاسيم والأنواع " ما نصه:
" وإني لما رأيت الأخبار طرقها كثرت ومعرفة الناس بالصحيح منها قلّت لاشتغالهم بكتبة الموضوعات وحفظ الخطأ والمقلوبات حتى صار الخبر الصحيح مهجوراً لا يكتب والمنكر المقلوب عزيزاً يستغرب وأن من جمع السنن من الأئمة المرضيين وتكلم عليها من أهل الفقه والدين أمعنوا في ذكر الطرق للأخبار وأكثروا من تكرار المعاد للآثار قصداً منهم لتحصيل الألفاظ على من رام حفظها من الحفاظ، فكان ذلك سبب اعتماد المتعلم على ما في الكتاب، وترك المقتبس التحصيل للخطاب
…
." (1).
وقال أبو عبد الله الحاكم ت (405) هـ:" نبغ في عصرنا هذا جماعة يشترون الكتب فيحدثون بها وجماعة يكتبون سماعاتهم بخطوطهم في كتب عتيقة في الوقت فيحدثون بها فمن يسمع منهم من غير أهل الصنعة فمعذور بجهله فأما أهل الصنعة إذا سمعوا من أمثال هؤلاء بعد الخبرة ففيه جرحهم وإسقاطهم إلى أن تظهر توبتهم، على أن الجاهل بالصنعة لا يعذر فإنه يلزمه السؤال عما لا يعرفه وعلى ذلك كان السلف رضي الله عنهم أجمعين "(2).
هذا أحد علماء القرن الرابع، هو الحاكم النيسابوري نص على تخفف شروط العدالة والضبط لأهل زمانه، فلم يذكر في الضبط إلا ما يتعلق بضبط الكتاب، وقد أشار
الى هذه المسألة قبله الإمام الرامهرمزي، في كتابه المحدث الفاصل (3)،وهذا يدلل على الفرق الكبير بين منهج القرن الثالث، ومنهج القرن الرابع.
وقد نبّه الحافظ ابن الصلاح على هذه المسألة فقال:" وقد سبق إلى نحو ما ذكرناه
(1) الإحسان 1/ 102.
(2)
معرفة علوم الحديث ص 15 - 16.
(3)
انظر المحدث الفاصل 159 - 162، والمنهج المقترح، العوني ص 53.
الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي رحمه الله، فإنه ذكر فيما روينا عنه توسع من توسع في السماع من بعض محدثي زمانه الذين لا يحفظون حديثهم ولا يحسنون قراءته من كتبهم، ولا يعرفون ما يقرأ عليهم بعد أن تكون القراءة عليهم من أصل سماعهم، ووجه ذلك بأن الأحاديث التي قد صحت أو وقفت بين الصحة والسقم قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم، وإن جاز أن يذهب على بعضهم لضمان صاحب الشريعة حفظها، قال - يريد البيهقي -: فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه، ومن جاء بحديث معروف عندهم فالذي يرويه لا ينفرد بروايته والحجة قائمة بحديثه برواية غيره والقصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلاُ بحدثنا وأخبرنا وتبقى هذه الكرامة التي خصت بها هذه الأمة شرفاً لنبينا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والله أعلم" (1).
وقد تكلمنا على هذه المسألة في صفحات من هذا البحث، وبينا الفرق الشاسع بين منهج علماء القرن الثالث وعلماء القرن الرابع من خلال الأمثلة التي سقناها في الفصل التطبيقي (2).
وعلى كل حال فالذي نقصده بالمتقدمين في هذه الأطروحة هم علماء الحديث في القرون الثلاثة الأولى، أي إلى رأس سنة (300) هجرية، وتشمل علماء الحديث الأئمة الأوائل: كالليث، والأوزاعي، والسفيانين، ومالك، وابن معين، وابن المديني، وأبي حاتم، وأبي زرعة الرازيين، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي وابن خزيمة، وغيرهم. فهؤلاء جميعهم هم من طبقة القرن الثالث وعلمائها.
وقد أدخلنا معهم الإمام النسائي وابن خزيمة، وإن كانا قد توفيا مطلع القرن الرابع وذلك لأسباب:
1 -
إنهما عاشا حياتهما العلمية في القرن الثالث وإن توفي النسائي سنة 303هـ، وابن خزيمة سنة 311 هـ.
2 -
من المرجح الذي يكاد أن يكون مؤكداً أنهما ألفا كتابيهما في أواخر المئة الثالثة.
(1) مقدمة ابن الصلاح ص 104.
(2)
انظر مثلاً ص 321و370 من هذا الكتاب.
3 -
إنهما شاركا أصحاب الكتب الستة في عدد كبير من شيوخهم، فقد شارك النسائي البخاري ومسلماً في بعض شيوخهما، مثل محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى، وقتيبة بن سعيد، وغيرهم (1).
4 -
تلقي الأمة لكتاب النسائي بالقبول وعده من كتب السنة المعتمدة، فأعطي المرتبة الخامسة بعد جامع الترمذي، وقبل سنن ابن ماجه، الذي توفي قبله سنة (273) هـ (2)،وقد بالغ بعض الأئمة في امتداحه حتى أطلقوا عليه اسم الصحيح (3)، وهذا من باب المبالغة في المدح والثناء على الكتاب.
5 -
أمّا الإمام ابن خزيمة ت (311) هـ فقد شارك الشيخين في بعض شيوخهم، مثل إسحاق ابن راهويه، ومحمود بن غيلان، وأحمد بن منيع، ويونس بن عبد الأعلى، وغيرهم (4)، وكان الإمامان البخاري ومسلم يعرفان قدره وعلمه فرويا عنه خارج صحيحهما (5)، وهذا من قبيل رواية الأكابر عن الأصاغر.
فالإمامان النسائي وابن خزيمة خاتمة ذلك الجيل العظيم جيل الرواية المتقنة، والدراية المحصنة.
أمّا ما نعنيه - هنا - بالمتأخرين فهم كل من جاء بعد ابن خزيمة وإلى يومنا هذا من المعاصرين، وهم وإن كانوا يتفاوتون في المنهجية والفهم والضبط؛ إذ مما لا شك فيه أن ابن حبان ت (354) يختلف عن السيوطي ت (911)، ومنهجية الدارقطني ت
(385)
، والتي هي أقرب إلى منهجية المتقدمين تختلف عن منهجية الحاكم النيسابوري (405) هـ، وقد تجد ابن رجب الحنبلي (795) هـ أقرب لمنهجية المتقدمين من كثير ممن سبقه، إلاّ أنهم يشتركون في كونهم يمثلون مرحلة ما بعد الاستقرار، أعني استقرار الرواية ومعرفة الطرق والمظان (6)، فهم يمثلون مرحلة الاستقراء
(1) انظر مقدمة عمل اليوم والليلة، فاروق حمادة ص 18.
(2)
انظر الإرشاد، الخليلي 1/ 436.
(3)
انظر الإرشاد 2/ 767 - 768، والتقييد، ابن نقطة 1/ 151، وانظر علل الحديث وتطبيقاتها، محمد محمود سليمان ص44.
(4)
انظر سير أعلام النبلاء، الذهبي 2/ 721.
(5)
مصدر سابق.
(6)
انظر ص 222 من هذا البحث.