الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والفلاح وطمأنينة القلب
{أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ { [سورة الرعد: 28] .
وعلى الرغم من أنه سيتضح للقارئ - إن شاء الله - من خلال قراءة هذا البحث:
طريقة القرآن والسنة في غرس عقيدة (الولاء والبراء
في النفوس، وذلك من خلال سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العهدين المكي والمدني ومن خلال الأمثلة والصور الكثيرة في هذا الشأن إلا أنني أرى أنه لا بأس بأن أورد هنا طرفاً من هذا الموضوع خاصة وأنني قد تكملت حول علم الكلام وجنايته على الأمة الإسلامية.
إن من أولى البدهيات في هذا الشأن أن الإسلام قد حرص على أن يكون انتماء المسلم لدينه فقط منذ أول لحظة يعلن فيها (لا إله إلا الله محمد رسول الله) . والبراءة من كل معبود أو متبوع أو مطاع سوى الله تعالى.
والأدلة على ذلك كثيرة جداً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ { [سورة البقرة: 256] .
وقال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فأنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ { [سورة آل عمران: 103] .
ويقول سبحانه:
{قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ { [سورة الأنعام: 71] .
{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى { [سورة لقمان: 22] .
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ { [سورة آل عمران:85] .
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ { [سورة فصلت: 33] .
فهذه النصوص الكريمة تثبت مدى منة الله سبحانه وتعالى بإنعامه على المسلمين بهذا الدين، فالولاء له مصدر القوة والعزة.
فمن استمسك بهذا الولاء، وحققه فقد استمسك بالعروة الوثقى. أما الحديث - فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية (1) ، وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، أو فاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها
(1) العبية - كما قال الخطابي - الكبر والنخوة. انظر سنن أبي داود (ج5/340) .
النتن) (1) . وحرص المصطفى صلى الله عليه وسلم على تربية أمته والبعد بها عن مفاخر الأنساب والأحساب التي لا تستمد قوتها وحيويتها من هذا الدين القيم، فنجده عليه الصلاة والسلام يحثهم على أن يكون انتمائهم للصف الإسلامي وحسب. ففي الحديث عن أبي عقبة - وكان مولى من أهل فارس قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، فضربت رجلاً من المشركين، فقلت: خذها مني وأنا الغلام الفارسي! فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال (فهلا قلت خذها مني وأنا الغلام الأنصاري)(2) .
ولقد كان دين العقيدة الإسلامية هو: إفراد الله تعالى بالتعلق والحب والتعظيم والطاعة والإنابة والخشوع والخوف والرجاء وتجريد النفس من كل محبوب أو مرهوب أو مرغوب سوى الله تعالى، قال جل شأنه:
{وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَآدَّ لِفَضْلِهِ { [سورة يونس: 107] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما (
…
واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) (3) .
(فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله، بل يفرد الله بالمخافة
…
ويتجرد لله محبة وخشية وإنابة وتوكلاً، واشتغالاً به عن غيره، فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه،
(1) سنن أبي داود كتاب الأدب (ج 5/340 ح 5116) وأخرجه الترمذي في المناقب (9/430 ح3950) وقال حديث حسن.
(2)
سنن أبي داود كتاب الأدب 5ج/343 ح 5123 قال الألباني في المشكاة في إسناده عنعنة محمد بن إسحاق (3/1374) وأخرجه ابن ماجه في الجهاد (ج2/931 ح 2784) .
(3)
سنن الترمذي في أبواب صفة القيامة (ج7/204 ح 2518) وقال حديث حسن صحيح.
واشتغاله به من نقص توحيده (1) وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل، والله يتولى حفظه والدفع عنه، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا.. ومعلوم أن التوحيد حصن الله الأعظم من دخله كان من الآمنين. قال بعض السلف: من خاف الله خافه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء) (2) .
هذا طريق من طرق منهج العقيدة في غرسها للولاء والبراء في النفوس. وطريق آخر: وهو استخدام مشاهد يوم القيامة، لتصوير الخصومة والعداء بين الأتباع والمتبوعين - الذين سلكوا غير منهج الله في الدنيا ووالوا وعادوا حسب العادات ودين الآباء - وتبرؤ كل فريق من صاحبه.
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ {166} وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ { [سورة البقرة: 166- 167] .
ولا شك أن هذه حال من اتخذ من دون الله ورسوله وليجة وأولياء، يوالي لهم ويعادي لهم، ويرضى لهم، ويغضب لهم، فإن أعماله كلها باطلة، يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها، وشدة تعبه فيها ونصبه، إذ لم يخلص موالاته ومعاداته، ومحبته وبغضه، وانتصاره وإيثاره لله ورسوله.
ويوم القيامة ينقطع كل سبب ووسيلة وموالاة كانت لغير الله، ولا يبقى إلا من كان له سبب يصل بينه وبين ربه وهو حظه من الهجرة إلى الله ورسوله وعبادة الله وحده وما يلزم ذلك من الحب والبغض والعطاء والمنع والولاء والعداء والقرب
(1) يشترط في هذا عدم ترك الأسباب لأن فعل السبب من باب التوكل (اعقلها وتوكل)
(2)
بدائع الفوائد لابن القيم (2/245) - بتصرف.
والبعد وتجريد متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والإعراض والترك لما خالف سنته وهديه) (1) .
ومن منهج القرآن أيضاً في موضوع الولاء والبراء ضرب المثل، وهذا كثير في القرآن الكريم وأبرز مثال في هذه القضية هو إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن وأبو الأنبياء. فإنه هو القدوة الأولى في الولاء والبراء. ونظراً لأهمية ذلك أترك الحديث عنه إلى فصل مستقل في هذا الباب إن شاء الله.
وإذا وجدت محبة الله في القلب، تحمل المؤمن حينئذ وتقبل تكاليف هذه المحبة ولوازم عبادته لله تعالى ومن ذلك جهاد أعداء الله وبغضهم وهجرتهم والصبر على الأذى في سبيل الله.
ثم يمضي القرآن الكريم في أسلوب عرض هذه العقيدة مستخدماً التهديد والوعيد بعد البيان والإيضاح وإقامة الحجة على الناس فيقول عز وجل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ { [سورة المائدة:54] .
أما المستجيبون لأمر الله فإن الله يحبهم وهو ناصرهم ومولاهم
{إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص { [سورة الصف:4]
(1) انظر الرسالة التبوكية لابن القيم (ص51) .