الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سواء كان مهاجراً أم أنصارياً برباط جديد يربطه بأخوته في الله، فكل واحد منهم يحب أخاه كحبه لنفسه، مع أنه ليس من قبيلته ولا بينهما آصرة دم بل أن آصرة الدم - حين كانت في الجاهلية - لم تكن تنشىء في نفس أحدهم ذلك الحب الصافي العجيب الذي يحسه الآن لأخيه في العقيدة.
ترى ما الفرق بين لقاء الجاهلية ولقاء الإسلام؟
والجواب: أن الأمر ليس سراً، ولا سحراً، ولكنه الإسلام يلتقي فيه الناس على العقيدة في الله، لأن كلاً منهم يحب الله ورسوله، فلا تكون ذواتهم بارزة ولا متوفرة لاقتناص المصلحة من الآخر كما هي الحال في العلاقات الجاهلية، وإنما الجانب البارز هو الحب في الله " (1) .
وقفة عند المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
إن هذه الأخوة جديرة بالدراسة والاعتبار. ذلك أنه نتج عنها أمور عظيمة في حياة المسلمين سواء في مستوى "الأمة والدولة" أم على مستوى الأفراد.
فأما ما يتعلق بهم أمة: فقد كانت هذه المؤاخاة هي الركيزة الأساسية في تكوين مفهوم "الأمة المسلمة" أمة التقت على العقيدة في الله، وعاشت لأجل تلك العقيدة وليس لرباطة الدم أو الحسب والنسب، أو الأرض أو اللون أو اللغة، أو الجنس فيها أي حساب يذكر إذا تعارض ذلك مع العقيدة. والله سبحانه وتعالى هو صاحب المنة والفضل في ذلك فهو القائل:
{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ
(1) بتصرف: منهج التربية الإسلامية: (2/40-41) .
قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فأنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {103} وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {104} وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ { [سورة آل عمران: 103 - 105] .
لقد أصبح المؤمنون أولياء بعضهم لبعض، كل منهم يحب أخاه كحبه لنفسه، ويناصره ويجاهد من أجله، ويؤثره على كل قريب وحبيب من مال أو أهل أو عشيرة أو ولد.
{وَالْمُؤْمِنونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ { [سورة التوبة: 71] .
واشتد كيانهم فكانوا كالجسد الواحد "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ثم شبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه "(1) وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى "(2) .
(1) سبق تخريجه.
(2)
صحيح البخاري (10/438 ح 6011) كتاب الأدب ومسلم (4/1999 ح2586) كتاب البر واللفظ للبخاري.
ولقد أثنى الله سبحانه وتعالى على المهاجرين والأنصار. فقال سبحانه عن المهاجرين:
{لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ { [سورة الحشر: 8] .
ثم يثني سبحانه على الأنصار بقوله:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { [سورة الحشر: 9] .
بل إن الأمر أصبح أكبر من ذلك. فهؤلاء الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه وآزروهم ونصروهم وبذلوا لهم النفس والنفيس ابتغاء رضوان الله قد أصبح حبهم من العقيدة التي يدين بها المسلم ربه، وبغضهم وكراهيتهم نفاق ففي الحديث الصحيح "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار "(1) .
(1) صحيح البخاري (1/62 ح17) كتاب الإيمان وصحيح مسلم (1/85 ح 74) كتاب الإيمان واللفظ للبخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله)(1) .
وبهذه الأخوة تكون (المجتمع الإسلامي) ذلك المجتمع الذي تظله راية لا إله إلا الله وتحكمه الشريعة الربانية، ويسوده الحب والتفاني، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، والجهاد رهبانية، والدعوة إلى سبيله ومنهاج حياته، القوي فيه ضعيف حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف فيه قوي حتى يأخذ حقه، ولاؤه لله ورسوله والمؤمنين وبغضه وكراهيته لأعداء الله ولو كانوا أقرب قريب، وجدوا حلاوة الإيمان وطعمه، وعرفوا الكفر وأهله حتى أن أحدهم يحب أن يلقى في النار ولا يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما قال صلى الله عليه وسلم وهذا ما تحقق فيهم - (لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا الله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)(2) .
وبهذه المؤاخاة الإيمانية وجد (التكافل الاجتماعي) وبرزت فيه صور خالدة لم توجد قط إلا فيه وحده!!
ومنها ما رواه البخاري أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم مالي نصفين! ولي امرأتان فانظر إلى أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها!! قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو حتى جاء يوماً وبه أثر صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(مهيم) ؟ قال: تزوجت. قال: (كم سقت إليها) ؟ قال: نواة من ذهب (3) (وإن إعجاب المرء بسماحة سعد لا يعدله إلا إعجابه بنبل عبد الرحمن
(1) صحيح البخاري (7/113 ح 3783) كتاب المناقب وصحيح مسلم (1/85 ح 75) كتاب الإيمان. واللفظ للبخاري.
(2)
صحيح البخاري (10/463 ح 6041) كتاب الأدب وصحيح مسلم (1/66 ح 43) كتاب الإيمان واللفظ للبخاري.
(3)
صحيح البخاري كتاب (7/112 ح 3780) مناقب الأنصار.