الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
انقطاع التوارث والنكاح بين المسلم والكافر
من حرص الإسلام على تميز المسلم وقطع العلائق والوشائج التي قد ترده عما أراده الله له: قطع التوارث بين المسلم وقريبه الكافر، وكان هذا التكليف من مقتضيات الولاء والبراء في التصور الإسلامي.
ولكن ذلك جاء بعد الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد، فقد كان صلى الله عليه وسلم كما يذكر ابن القيم - قبل أن يفرض الجهاد يقر الناس على ما هم عليه في الأنكحة ويدعوهم إلى الإسلام، وكانت المرأة تسلم وزوجها كافر فلا يفرق الإسلام بينهما حتى صلح الحديبية وبعد هذا الصلح نزل تحريم المسلمة على الكافر (1) . قال تعالى:
{لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ { [سورة الممتحنة: 10] .
وقال تعالى:
{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ {نفس الآية
لقد آن أن تقطع المفاصلة الكاملة وأن يستقر في ضمير المؤمنين والمؤمنات كما
(1) أحكام أهل الذمة (1/69)
يستقر في واقعهم: أن لا رابطة إلا رابطة الإيمان، وأن لا وشيجة إلا وشيجة العقيدة، وأن لا ارتباط إلا بين الذين يرتبطون بالله (1) .
وجاء التحريم أيضاً في سورة البقرة في قوله تعالى:
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: رحمه الله في قوله تعالى: "ولا تنكحوا المشركات"
هذه عامة في جميع النساء المشركات، وخصصتها آية المائدة في إباحة نساء أهل الكتاب كما قال تعالى:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ { [سورة المائدة: 5] .
أما قوله تعالى:
{وَلَا تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ {فهذا عام لا تخصيص فيه.
(1) الظلال (6/3546) .
وذكر سبحانه العلة والحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة لمن خالفهما في الدين فقال (أولئك يدعون إلى النار) أي في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم فمخالطتهم على خطر منهم: بل إنه الشقاء الأبدي (1) .
ونكاح المسلم للكتابية مجمع عليه - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - من السلف والخلف ولكن يروى عن ابن عمر أنه كره نكاح النصرانية وقال: لا أعلم شركاً أعظم ممن تقول إن ربها عيسى ابن مريم (2)، ولكن الجواب على ذلك من ثلاثة أوجه:
(1)
أن أهل الكتاب لم يدخلوا في المشركين بدليل قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ { [سورة البقرة: 62] .
فإن قيل قد وصفوا بالشرك بقوله:
{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلَاّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ { [سورة التوبة: 31] .
قيل: أهل الكتاب ليس في أصل دينهم شرك، لأن الله بعث الرسل
(1) تفسير كلام المنان لابن سعدي (1/274) .
(2)
الحديث في صحيح البخاري كتاب الطلاق باب قول الله تعالى (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) . عن نافع أن ابن عمر كان إذا سئل عن نكاح النصرانية واليهودية قال: إن الله حرم المشركات على المؤمنين ولا أعلم من الإشراك شيئاً أكبر من أن تقول المرأة ربها عيسى وهو عبد من عباد الله. (9/416 ح 5385) .
بالتوحيد، ولكن النصارى ابتدعوا الشرك وما دام أنه ميزهم عن المشركين فلأن أصل دينهم اتباع الكتب المنزلة.
(2)
أن يقال: آية البقرة عامة وآية المائدة خاصة. والخاص يقدم على العام.
(3)
أن يقال آية المائدة ناسخة لآية البقرة لأن المائدة نزلت بعد البقرة باتفاق العلماء (1) .
والذي يظهر لي. والله أعلم - أن الجواب الأول من الأجوبة الثلاثة التي ذكرها شيخ الإسلام غير مسلم به، مع التسليم بأن أصل دينهم التوحيد، ولكنهم نقضوا هذا الأصل والعبرة بالخواتيم. أما الجواب الثاني والثالث فهذا الذي ذهب إليه كثير من أهل العلم (2) .
وأما انقطاع التوارث بين المسلم والكافر فهذا أيضاً من التكليف، والمقتضيات للولاء والبراء دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) متفق عليه (3) .
والسبب في ذلك: أن التوارث يتعلق بالولاية. ولا ولاية بين المسلم والكافر لقوله تعالى {لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ { (4) .
قال البغوي: والعمل على هذا عند عامة أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم: أن الكافر لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الكافر لقطع الولاية بينهما، إلا ما روي عن معاذ أنهما قالا: المسلم يرث الكافر، ولا يرثه الكافر، وحكي ذلك عن إبراهيم النخعي، كما أن المسلم ينكح الكتابية ولا ينكح الكافر المسلمة، وبه قال إسحاق بن راهويه (5) .
(1) دقائق التفسير لابن تيمية (1/258 - 260) تحقيق وجمع د. محمد السيد الجليند. الناشر دار الأنصار.
(2)
انظر على سبيل المثال. المغني لابن قدامة (7/129) .
(3)
صحيح البخاري: (12/50 ح 6764) كتاب الفرائض وصحيح مسلم في الفرائض (3/1233 ح 1614) .
(4)
فتح الباري (12/50) .
(5)
شرح السنة (8/364) .
أما المرتد: فلا يرث أحداً. ولا كافراً ولا مرتداً. واختلفوا في ميراثه:
فذهب جماعة: إلى أنه لا يورث منه بل ماله فيء. وهذا قول مالك والشافعي.
وذهب جماعة: إلى أن ميراثه لأقاربه المسلمين وهو قول الحسن والشعبي وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد. وذهب بعضهم: إلى أن ما اكتسبه بعد الردة فيء وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة (1) .
إن الإسلام دين عزة وعفة وقوة يرتفع بالمسلم أن تبقى نفسه معلقة بأطماع قاصرة لا تتفق مع مبدأ هذا الدين وتميزه وسمو تشريعه. بل إنه ليقطع كل ما من شأنه أن يثبط المسلم أو يغريه بالتذبذب في دينه أو بالنفاق. ولذلك قطع النكاح من الكافر لئلا يكون له سلطة على المسلمة، فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وقطع النكاح من الكافرة لأنها سبب خطير في (جرف) زوجها إلى ملتها وتنشئة الأطفال على مبدأ الكفر والشرك. وقطع التوارث بين المسلم والكافر حتى يبقى المسلم مصوناً من المال الحرام لأن صاحبه الكافر رضي بالحرام وترك شريعة الله الحلال شريعة الإسلام.
وما دام أنه قد انقطع التناصر والولاء الإيماني بين المسلم والكافر فلأن يقطع النكاح والتوارث من باب أولى لتخلص نفس المسلم لله رب العالمين وتصبح حياته ومماته كلها قائمة على منهج الله القويم وشرعه الحكيم.
وبهذا يكون التميز الكامل متحققاً في حياة المسلم فهو لا يعبد إلا الله، ومن ثم فلا يتلقى إلا من الله، ولا يرجو ولا يطلب الرزق إلا من الله. ولا يسير في أمر يسير أو كبير إلا بحسب ما أراده الله وهذا هو معنى الاستسلام لله. والطاعة والانقياد له.
(1) شرح السنة (8/365) .