الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إلى كتابا من ملك غسان فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت لما قرأنها: وهذا أيضاً من البلاء فتممت بها التنور فسجرته بها " (1) .
لقد صدق كعب رضي الله عنه في قوله: "وهذا أيضاً من البلاء" أجل إنه بلاء عظيم، ولقد كان ولاء كعب رضي الله عنه رغم ما هو فيه من شدة وهجر ومع دواعي الإغراء والإغواء لله ولدينه ورسوله والمؤمنين، وكان براؤه من ملك غسان واضحاً في حرقه لكتاب ذلك الملك.
فانظر إلى هذه العظمة وهذا الصدق في الولاء والحب للإسلام والمسلمين والبعد عن كل ما يصرف عن ذلك من متاع الدنيا ووجاهتها التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة.
قال ابن حجر وهو يشرح قصة كعب: دل صنيع هذا على قوة إيمانية ومحبته لله ولرسوله وإلا فمن صار في مثل حاله من الهجر والإعراض قد يضعف عن احتمال ذلك، وتحمله الرغبة في الجاه والمال على هجران من هجره، ولا سيما مع أمنة من الملك الذي استدعاه إليه أنه لا يكرهه على فراق دينه لكن لما احتمل عنده أنه لا يأمن من الافتتان حسم المادة وأحرق الكتاب ومنع الجواب.. ورجح ما هو فيه من النكد والتعذيب على ما دعي إليه من الراحة والنعيم حبا في الله ورسوله كما قال صلى الله عليه وسلم "وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما "(2) .
ومثال آخر: قصة الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة السهمي وموقفه مع ملك الروم، حيث أغراه حتى بمشاطرة ملكه فرفض، وهدده بالقتل والحرق فأبى أن يتنصر. كل ذلك دلالة واضحة، وبرهان صادق لعمق ذلك الولاء ورسوخ هذه العقيدة في تلك النفوس العظيمة. ولئن كان
موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي
- الذي تحدثنا عنه سابقاً - عظيماً في منعه أباه من دخول المدينة إلا بإذن رسول
(1) القصة بطولها في صحيح البخاري كتاب المغازي باب حديث كعب بن مالك (8/113 ح 4418) وانظر القصة أيضاً في تفسير الطبري (11/0) وابن كثير (4/166-168) .
(2)
فتح الباري (8/121) والحديث سبق تخريجه ص 40 وانظر تعليق ابن القيم على القصة في زاد المعاد (3/581) .
الله صلى الله عليه وسلم: فإن موقف أبي عبيدة رضي الله عنه أعجب من ذلك وأعظم فلقد قتل أباه في معركة بدر لأنه كان كافراً محارباً لله ورسوله، ولم تكن صلة الأبوة لتمنعه دون تنفيذ الولاء والنصرة لله ورسوله ودينه والمؤمنين. والبراءة والجهاد لعدو الله الذي رضي بالبقاء في حزب الشيطان ليكون حرباً على المؤمنين.
ومثال آخر: فقد روت كتب السير أن زيد بن الدثنة (1) رضي الله عنه، اشتراه صفوان بن أمية - بعد يوم الرجيع - ليقتله بأبيه أمية بن خلف، وخرجوا بزيد إلى التنعيم حيث اجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟
قال زيد: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي فقال: أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً، ثم قتلوا زيداً رضي الله عنه (2) .
فانظر إلى هذا الحب وهذا التفاني وذلك الولاء، وقوة النصرة! إنه رضي الله عنه وهو في مكانه البعيد عن رسول الله -لا يرضى أن تمس رسول الله صلى الله عليه وسلم شوكة، فضلاً عن أن يصيبه أكبر من ذلك!!
هذا هو الولاء الصادق الذي بنته هذه العقيدة في النفوس فأخرجت للناس هذه النماذج العظيمة التي تقصر دون عظمتها كل عظمة أرضية.
ومثال آخر: روى الإمام أحمد وغيره أن أنس بن النضر رضي الله عنه غاب عن قتال بدر فقال: غيبت عن أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين؟ لئن الله أشهدني قتالاً للمشركين ليرين الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ دون أحد فقال: أنا
(1) زيد بن الدثنة: بفتح الدال وكسر المثلثة ابن معاوية بن عبيد بن عامر بن بياضة الأنصاري شهد بدراً وأحداً وكان في غزوة بئر معونة فأسره المشركون وقتلته قريش بـ التنعيم. انظر الإصابة (1/565) .
(2)
انظر القصة في السيرة لابن هشام (3/181) .
معك، قال سعد فلم أستطع أن أصنع ما صنع، قال فوجد فيه بضع وثمانون ضربة سيف وطعنة رمح ورمية سهم فكانوا يقولون فيه وفي أصحابه نزل قوله تعالى:
{فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ { (1)[سورة الأحزاب: 23] .
إن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم كانوا شديدي الاعتزاز بدينهم فلم تخدعهم المظاهر الجوفاء، ولا القوى والاعتبارات التي تتعبد الناس في الجاهلية، وأصدق مثال على ذلك قصة ربعي بن عامر رضي الله عنه حين قابل رستم، فقد كان الفرس مدججين بالسلاح وعليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، ووضعوا البسط والنمارق في مجلس رستم وله سرير من الذهب، فأقبل ربعي يسير على فرس له زباء (2) قصيرة، معه سيف غمده لفافة ثوب خلق، ورمح وجحفة (3) وقوس فلما انتهى إلى أدنى البسط قيل له انزل فحملها على البساط فلما استوت عليه نزل عنها وربطها بوسادتين فشقهما ثم أدخل الحبل فيهما، فلم يستطيعوا أن ينهوه ثم قالوا له: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم أنتم دعوتموني، فإن أبيتم أن آتيكم كما أريد رجعت، فأخبروا رستم فأذن له وقال: هل هو إلا رجل واحد! فأقبل ربعي يتوكأ على رمحه وزجه نصل يقارب الخطو، ويزج النمارق والبسط، فما ترك لهم نمرقة ولا بساطاً إلا أفسده وتركه منهتكاً مخرقاً، فلما دنا من رستم تعلق به الحرس، وجلس على الأرض وركز رمحه بالبسط، فقالوا: ما حملك على هذا؟ قال: إنا لا نستحب القعود على زينتكم هذه! فكلمه فقال: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى
(1) مسند أحمد (3/301) وتفسير ابن كثير (6/394) .
(2)
الزباء: أي طويلة الشعر كثيرته.
(3)
الجحفة: الترس
قاتلناه أبداً، حتى نفضي إلى موعود الله، قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي. فقال رستم: قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم. كم أحب إليكم، أيوماً أو يومين؟ قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا، وأراد مقاربته ومدافعته فقال: إن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أئمتنا ألا نمكن الأعداء من آذاننا، ولا نؤجلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثاً فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل، اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك. وإن كنت عن نصرنا غنياً تركناك منه، وإن كنت إليه محتاجاً منعناك أو المنابذة في اليوم الرابع، ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا، وأنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلى جميع من ترى، قال: أسيدهم أنت؟ قال: لا ولكن المسلمين كالجسد بعضهم من بعض، يجير أدناهم على أعلاهم (1) .
ومما يوضح أيضاً صورة الولاء في نفوس أولئك الأخيار قوله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك "إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم قالوا: وهم بالمدينة؟
قالوا: " وهم بالمدينة حبسهم العذر " متفق عليه (2) .
فانظر إلى هذا الولاء والتناصر حتى ممن حبسهم العذر، لأن هذا أمر لا عذر لهم في تركه، فهم مع إخوانهم بالدعاء والمتابعة.
أما اليوم فيرى المغرورون والمبهورون والمنهزمون أن الكفار - كما قال أحدهم - خصوم شرفاء، بل يرونهم أصدقاء أوفياء.
ولكن الذي يجب على المسلمين اليوم أن يفهموه: هو أن الاقتداء بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلفنا الصالح في كل شيء، وفي قضية الولاء والبراء من باب
(1) تاريخ الطبري (3/519 - 520) .
(2)
صحيح البخاري (8/126 ح 4423) كتاب المغازي وصحيح مسلم (3/1518 ح 1911) كتاب الإمارة.
أخص هو الأمر المطلوب منهم وليس عليهم بعد ذلك أن تقوم أصوات أرباب التبعية والولاء للغرب الكافر والشرق الملحد لتنادي بما قاله وردد من قبلهم أن هذا الفعل رجعية وتقهقر. بل إن عزم المسلمين المخلصين على تحقيق مقتضيات هذه العقيدة والإصرار على تحكيم الشريعة الربانية هو سبيل النجاح وطريق الفلاح، في الدنيا والآخرة وجدير بهم أن يرتفعوا إلى المستوى المطلوب منهم
{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران: 139] .