الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترياق (1) وإلا فأحسن الله فيه العزاء، وما أكثر هذا الضرب في الناس لاكثرهم الله، وهم أهل البدع والضلالة، الصادون عن سنة رسول لله صلى الله عليه وسلم الداعون إلى خلافها، والذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً فيجعلون البدعة سنة، والسنة بدعة والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، إن جردت التوحيد بينهم قالوا: تنقصت جناب الأولياء والصالحين، وإن جردت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أهدرت الأئمة المتبوعين وإن وصفت الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه رسوله من غير غلو ولا تقصير قالوا أنت من المشبهين، وإن أمرت بما أمر الله به رسوله من المعروف ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر قالوا: أنت من المفتنين، وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا: أنت من أهل البدع المضلين، وإن انقطعت إلى رسول الله تعالى وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا قالوا: أنت من الملبسين، وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهوائهم فأنت عند الله من الخاسرين وعندهم من المنافقين! فالحزم كل الحزم التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم، وأن لا تشتغل بأعتابهم ولا باستعتابهم ولا تبالي بذمهم، ولا بغضهم فإنه عين كمالك كما قال الشاعر:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
…
فهي الشهادة لي بأني فاضل
وعند الممات يحمد القوم التقى
…
وفي الصباح يحمد القوم السرى
انتهى من بدائع الفوائد.
و
موقف المسلم من أصحاب البدع
والأهواء يختلف باختلاف ما هم عليه. فأما من كانت بدعته كفرية أو شركية فهذا يتبرأ منه ويهجر هجراً نهائياً وليس له أي موالاة بل البراءة منه كالبراءة من الكافر الأصلي أو المشرك. ومثال ذلك من أحدث حدثاً في الإسلام، أو آوى محدثاً ونصره وأعانه كما جاء في الحديث (من أحدث حدثاً أو آي محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) (2) . وقال ابن القيم: (ومن أعظم الحدث تعطيل كتاب الله وسنة
(1) الترياق: بكسر التاء: دواء السموم وهو فارسي معرب. مختار الصحاح (ص91) .
(2)
أبو داود (4/669 ح 4530) كتاب الديات والنسائي في القسامة (8/20) وإسناده حسن.
رسوله وإحداث ما خالفهما، ونصر من أحدث ذلك والذب عنه، ومعاداة من دعا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (1) وأما من كانت بدعته دون ذلك أي من المعاصي والذنوب التي لا تصل إلى حد الكفر أو الشرك فهذه تختلف أيضاً باختلاف الأشخاص والأزمان.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يستقيم إلا بالبصيرة والمعرفة التامة وأقل الأحوال إذا لم يحصل للعبد ذلك: أن يقتصر على نفسه كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك)(2) . فإذا رأى المسلم من يعمل شيئاً من المعاصي: أبغضه على ما فيه من الشر، وأحبه على ما فيه من الخير - كما ذكرنا ذلك في معتقد أهل السنة في أول البحث - ولا يجعل بغضه على ما معه من الشر قاطعاً وقاضياً على ما معه من الخير فلا يحبه، بل إن كان بغضه له يزجره ذلك ولا يرتدع هو وأمثاله راعى فيه الإصلاح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هجر من علم أن الهجر يزجره ويردعه، وقبل معذرة من علم أن الهجر لا ينجع فيه شيئاً ووكل سرائرهم إلى الله) (3) .
وعلى أي حال فإنه ينبغي للمسلم أن لا يخالط أهل البدع والفجور وسائر المعاصي، إلا على وجه يسلم به من عذاب الله عز وجل، وأقل ذلك أن يكون منكراً لظلمهم، ماقتاً لهم، شائناً ما هم فيه بحسب الإمكان كما في الحديث، (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)(4) .
(1) إعلام الموقعين لابن القيم (4/405) .
(2)
أبو داود (4/512 ح 341) كتاب الملاحم والترمذي في التفسير (ح 3060) وقال: حديث حسن غريب وابن ماجة (2/1331 ح 4014) وانظر جامع الأصول (10/3 ح 7453) . وقال الألباني: ضعيف ولبعضه شواهد انظر مشكاة المصابيح (3/1423) .
(3)
انظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية (7/41) .
(4)
تفسير سورة النور لابن تيمية (ص 55) الطبعة الأولى / 1397 هـ والحديث في صحيح مسلم (1/69 ح 49) كتاب الإيمان.
والهجر الشرعي نوعان:
الأول: بمعنى الترك للمنكرات.
والثاني: بمعنى العقوبة عليها.
فالأول هو المذكور في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ { [سورة الأنعام: 68] .
وقوله تعالى:
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ { [سورة النساء: 140] .
وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات كما قال صلى الله عليه وسلم"المهاجر من هجر ما نهى الله عنه"(1) ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان، فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به، ومن هذا قوله تعالى:
{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ { [سورة المدثر: 5] .
أما النوع الثاني وهو الهجر على وجه التأديب: فهو هجر من يظهر المنكرات حتى يتوب منها كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون "الثلاثة الذين خلفوا"(2) حتى أنزل الله توبتهم.
(1) صحيح البخاري كتاب الإيمان باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (ج 1/53 ح 10) .
(2)
سيرد حديثهم إن شاء الله في الباب الأخير عند الحديث عن كعب بن مالك وهو أحدهم.
وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يقضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث تكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين.
وإذا عرف هذا فالهجر يجب أن يكون خالصاً لله وموافقاً لأمره، لأن من هجر لهوى نفسه أو هجر هجراً غير مأمور به كان خارجاً عن هذا الأصل، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله (1) .
والهجر من باب "العقوبات الشرعية" فهو من جنس الجهاد في سبيل الله، وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، والمؤمن عليه أن يعادي في الله، ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية قال تعالى:
{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {9} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ { [سورة الحجرات: 9-10] .
(1) انظر مجموع الفتاوى (ج 28/203-207)
فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي (1) .
ومما ينبغي التنويه به: " أن هذا الهجران والتبري والمعاداة لأهل البدع المخالفين في الأصول. أما الاختلاف في الفروع بين العلماء فاختلاف رحمة أراد الله أن لا يكون على المؤمنين حرج في الدين، فذلك لا يوجب الهجران والقطعية، لأن الاختلاف كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إخواناً مؤتلفين، رحماء بينهم، وتمسك بقول كل فريق منهم طائفة من أهل العلم بعدهم، وكل في طلب الحق، وسلوك سبيل الرشد مشتركون "(2) .
كلمات للسلف
في الاتباع والنهي عن الابتداع
سلف الأمة رحمهم الله كانوا حريصين على الوقوف عند كتاب الله العزيز وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وكانوا يمقتون من يخرج عن هذين المصدرين الأصليين. وقد كثر كلامهم في هذا ولكني أورد بعض هذه الكلمات القيمة لما لها من أثر في تزويد المؤمن بالثبات على ما ثبتوا عليه.
قال الإمام مالك رحمه الله: " من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين، لأن الله تعالى يقول:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ { [سورة المائدة: 3] .
فما لم يكن يؤمئذ ديناً لا يكون ديناً" (3)
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ستجدون قوماً يدعونكم إلى كتاب الله وقد
(1) المصدر السابق (28/208)
(2)
شرح السنة للبغوي (1/229) .
(3)
الاعتصام للشاطبي (2/53) .
نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق (1) .
وقال أبو العالية الرياحي: تعلموا الإسلام فإذا علمتوه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم، فإن الصراط المستقيم: الإسلام، ولا تحرفوه يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسنة نبيكم وأصحابه (2) .
وقال الشافعي رحمه الله: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب - ما خلا الشرك - خير من أن يلقاه بشيء من الهوى (3) .
وقيل لسفيان بن عيينة: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم فقال: أنسيت قوله تعالى:
{وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ { (4) . [سورة البقرة: 93] .
ولذلك قال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون (5) .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم "(6) . حقاً، لقد كفينا فكتاب الله واضح وجلي، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واضحة ومفصلة وشارحة لكتاب الله، وسيرة سلفنا الصالح محفوظة لدينا وما علينا إلا اتباع الكتاب والسنة والبعد عن كل مبتدع ودخيل، وإذا فعلنا ذلك كنا أمة متميزة لها شخصيتها المستقلة التي لا تجاري أصحاب الأهواء والآراء البشرية الناقصة.
(1) التنبيه والرد للملطي (ص85) ومعنى العتيق: أي القديم الأول.
(2)
المصدر السابق (ص 84) .
(3)
الاعتقاد على مذهب السلف للبيهقي (ص 118) .
(4)
العبودية لابن تيمية (ص70)
(5)
الاعتقاد للبيهقي (ص 118) .
(6)
سنن الدارمي في كتاب العلم باب كراهية الأخذ بالرأي (ج 1/69) . قال السخاوي: وأخرجه الديلمي في مسنده. انظر المقاصد الحسنة (ص 16) .
وما تبعت أمة داعي كل ناعق إلا تردت في مهاوي الجهل والظلام والله يريد لعباده المؤمنين النور والصلاح والفلاح وكل ذلك في الإسلام وحده وما عداه فجاهلية وضلال. أعاذنا الله من ذلك.