الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذي زاحم اليهود في سوقهم وبزهم في ميدانهم، واستطاع بعد أيام أن يكسب ما يعف به نفسه ويحصن به فرجه، ذلك أن علو الهمة من خلائق الإيمان) (1) .
وخلاصة القول: إن هذه المؤاخاة (كانت تدريباً عملياً على الأخوة الإسلامية التي تبعثها تلك العقيدة في نفوس المؤمنين بها {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ { [سورة الحجرات: 10] ، وكان تدريباً عملياً على (التكافل) وهو معنى من المعاني العميقة في بناء الجماعة الإسلامية. القادرون يكفلون غير القادرين على أساس الأخوة في الله من جانب وعلى أساس التصرف في مال الله بما يرضي الله من جانب آخر) (2) ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثاً جماعياً كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين. بهذا الحب الكريم. وبهذا البذل السخي. وبهذه المشاركة الرضية. وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء. حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة **.
سمات الولاء والبراء في العهد المدني
لئن كانت سمات العهد المكي - كما سبق القول في ذلك - هي: بيان الحجة وإقامتها. والصبر على الأذى وكف الأيدي، والهجر الجميل، فإن ذلك كان لحكمة ربانية، منها: أن ذلك كان لتربية الأمة على هذا الدين الحنيف، وصقل النفوس على ضوء منهاجه، والتقليد الكامل بأمر الله ورسوله في الفعل والترك على حد سواء.
ولكن الأمر أخذ صورة أخرى في العهد المدني، فمن الهجرة إلى المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، إلى قيام الدولة المسلمة إلى الجهاد في سبيل الله وهيمنة الشريعة الإسلامية.
وأول ما نذكره في العهد: هو الوثيقة التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين
(1) فقه السيرة للشيخ الغزالي (ص 193) .
(2)
منهج التربية الإسلامية للأستاذ محمد قطب (2/69) .
** الظلال: (ج6/3526) .
المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم، حيث وادع فيها اليهود، وعاهدهم، وتركهم على دينهم وأموالهم وشرط عليهم. وقد أوردها ابن إسحاق دون سند (1) وأوردها البنا في شرح مسند الإمام أحمد (2) ، وأوردها أصحاب السير والمغازي.
على أنني سأقتصر على بعض فقراتها التي تخص موضوع الموالاة. جاء في أولها: (بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس)(3) .
(
…
وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن من دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (4) ظلم، أو إثم أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً. ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم) .
وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين) (5) .
وهذه الوثيقة هي الصورة الصادقة لحقوق (حيث وردت بما يجعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً متلاحماً متماسكاً، وكفلت - أيضاً - حقوق أهل الديانات الأخرى ما داموا يعيشون تحت مظلة الحكم الإسلامي.
(1) السيرة النبوية لابن هشام (2/147) .
(2)
المسند بشرح البنا: (21/10) .
(3)
السيرة لابن هشام (2/147) .
(4)
الدسيعة: العظيمة.
(5)
السيرة لابن هشام (2/148 - 149) .
وقد لخص الإمام ابن القيم رحمه الله صورة المجتمع المدني آنذاك بقوله: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه، ولا يظاهرون عليه، ولا يوالوا عليه وهم على كفرهم، آمنون على دمائهم وأموالهم.
وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة.
وقسم تاركوه، فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن الفريقين وهؤلاء هم المنافقون.
فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى (1) .
***
وقد اتضح لي من خلال هذا البحث أن هناك ثلاثة أمور هامة هي سمات هذا العهد:
(1)
كيد أهل الكتاب للإسلام (ثم النهي والتحذير من موالاتهم وطاعتهم) .
(2)
ظهور النفاق والمنافقين.
(3)
البراء من هؤلاء وأولئك: أي المفاصلة التامة بين المسلمين وأعدائهم ولها صور ترد في موضعها.
أولاً: كيد أهل الكتاب للإسلام وتحذير المسلمين من موالاتهم
تتفق نظرة المنصفين الباحثين في التاريخ اليهودي: أن اليهود أمة حاقدة، الخداع طبعها، والغدر ديدنها، ومحادة الله ورسله خلقها، ولحكمه الله يعلمها انتقلت الرسالة من بين إسرائيل فكان خاتم الأنبياء هو محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي العربي صلى الله عليه وسلم وقد كان كيد اليهود - خاصة - قد بدأ منذ أن كان رسول الله
(1) زاد المعاد (3/126) .
صلى الله عليه وسلم في مكة حيث كانت تعاون قريشاً في أسئلة العناد التي توجه للمصطفى صلى الله عليه وسلم، وذلك مثل قولهم لقريش: اسألوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وغير ذلك مما هو معلوم من سورة الكهف.
ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى المدينة، قامت قيامة اليهود، فلم يهدأ لهم بال، ولم يهنأ لهم عيش. وذلك أن قيام الدولة المسلمة في الأرض له أثره الكبير، عليهم فالإسلام هو الذي يكسر شوكتهم، ويفضح مكنوناتهم، ويحرر الناس من شرورهم، ويمزق شملتهم وسيطرتهم وجبروتهم. ومن هنا لم يفتأوا يكيدون للإسلام ورسوله والمؤمنين، وينصبون العراقيل في وجه من يريد الإسلام وولد النفاق والمنافقون في أحضانهم، وخانوا الله ورسوله فلم يتقيدوا بالوثيقة الآنفة الذكر، وغدروا بالمسلمين فوالوا المشركين والكفار، وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهموا بما لم ينالوا.
ولذلك عني القرآن المدني وخاصة أكبر سوره – وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة – بكشف سترهم وفضحهم، وبيان كيدهم. والآيات الكريمة في هذا كثيرة جداً ولكنني أورد طرفاً منها هنا. ليتضح (للمسلمين) المخدوعين بهم اليوم الذين يوالونهم بل يقتدون بهم. ما عليه أعداء الله الذين هم قتلة الأنبياء ودعاة الفساد في الأرض.
قال تعالى:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { [سورة البقرة: 109] .
وفي سورة آل عمران:
{وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ { [سورة آل عمران: 69] .
{وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ { [سورة آل عمران: 72] .
{وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [سورة البقرة: 135] .
{مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ { [سورة البقرة: 105] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ {
فهذه الآيات وغيرها مما في مثل معناها: تبين كيدهم وما يتربصون به للإسلام وأتباعه. ولذلك جاءت آيات كثيرة في تحذير المؤمنين ونهيهم عن الاستماع للكفار عامة ولأهل الكتاب خاصة، أو طاعتهم، أو اتخاذهم أولياء، أو الركون إليهم. وسأقتصر هنا أيضاً على بعض هذه الآيات لأنه سيأتي مزيد من تفصيل هذا في الفصل التالي إن شاء الله حول صور الموالاة.
قال تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ { [سورة البقرة: 120] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ {149} بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ { [سورة آل عمران: 149 - 150] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ {100} وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ { [سورة آل عمران: 100-101] .
ورد في سبب نزول هاتين الآيتين: أن شاس بن قيس اليهودي – وكان شيخاً قد أغبر في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم – مر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، في مجلس جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم، وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار! فأمر شاباً من اليهود كان معه فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم ذكرهم بعاث - أحد أيامهم في الجاهلية – وما كان فيه، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل. وتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين، فتقاولا، وقال أحدهما لصاحبه: إن شئت رددتها جذعة! وغضب الفريقان جميعاً وقالا: أرجعا السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة – وهي الحرة فخرجوا إليها، وانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية.
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، حتى جاءهم فقال:(يا معشر المسلمين: الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً!!) . فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله
فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ {الآية.
قال جابر بن عبد الله، ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ إلينا بيده، فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت يوماً أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخراً من ذلك اليوم (1) .
ويوجه الله عباده المؤمنين ويرشدهم – بعد أن ذكر قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام في قصة ذبح البقرة – بقوله:
{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {75} وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ {76} أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ { [سورة البقرة: 75 – 77] .
(1) انظر: تفسير الطبري (4/23) وأسباب النزول للواحدي (ص 66) وأحكام القرآن للقرطبي (4/155) . وتفسير البغوي (1/389) .
وقد بذلت جهدي في تخريج الحديث من المصادر الأصلية فلم أعثر على ذلك فجزى الله من وجد تخريج هذا الحديث ونبهني إلى ذلك خير الجزاء