الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
المبحث الثالث: الانتفاع بالكفار وبما عندهم:
إن الإسلام يتسامح في أن يتلقى المسلم من غير المسلم ما ينفعه في علم الكيمياء والفيزياء والفلك والطب والصناعة والزراعة والأعمال الإدارية وأمثال ذلك. وهذا حين تنعدم الاستفادة من هذه العلوم من مسلم تقي (1) .
كذلك يجوز الانتفاع بهم في دلالة الطريق وما عندهم من سلاح وملابس وغير ذلك من الحاجات التي يحتاجها الناس، وجرت العادة فيها أن المسلم والكافر يستويان في الانتفاع بها.
ولكن الإسلام لا يبيح بل يرفض أن يتلقى المسلم أي شيء يتعلق بعقيدته أو مقومات تصوره، أو تفسير قرآنه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو منهج تاريخه أو نظام حكمه ومنهج سياسته أو موجبات أدبه وتعبيره ممن لا يؤمن بهذا الإسلام (2) .
وقد سبق في أول هذا البحث أن قلنا: إن المسلمين وقعوا في غلطة كبرى حين استوردوا فلسفة اليونان وتصوف الهنود والفرس لأنها غثاء إذا مزج بالتصور الإسلامي التقي نتج من ذلك خليط من غبش العقيدة وانحراف التصورات.
وأحسنوا حين ترجموا كتب الطب والكيمياء ودفعهم ذلك إلى اكتشاف علوم جديدة منها علم الجبر ، فقد كانت العقلية الإسلامية المتنورة بنور الله قادرة على الابتكار والإبداع في المجال العلمي بكل ميادينه وفي المجال الأدبي والثقافي.
(1) انظر معالم في الطريق (ص 131 - 132) وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (4/114) .
(2)
انظر المصدر السابق معالم في الطريق (ص 131) .
ذلك أن لديهم من مقومات هذه العقيدة ومقتضياتها ما يدفعهم للعمل بجد وصبر. وهم يعلمون أن ذلك جزء من عبادة الله. لأن نفع ما توصلوا إليه لم ينفعهم هم فحسب بل تعدى ذلك إلى كافة الناس حتى أن أوروبا ظلت قرونا طوالاً تعتمد على النظريات الإسلامية والأبحاث التي ابتكرها المسلمون. وانعكس هذا على التقدم العلمي الذي توصل إليه الغرب في القرون الأخيرة، بعد أن نام المسلمون وتركوا مركز القيادة والريادة في كل شيء حتى جاءت الأجيال التي نشهدها اليوم فإذا بها عالة على تلاميذ أجدادها بالأمس!
من أجل ذلك نقول: ونحن نستبشر بالخير حيث بدأ الزحف الإسلامي اليوم في كل أرض - إنه ينبغي للمسلمين أن يعرفوا ماذا يأخذون من غيرهم فيستفيدون به، وماذا يتركونه لئلاً يقعوا فيما وقع فيه من قبلهم.
إن عليهم أن يجعلوا هذه العقيدة الإسلامية هي القاعدة التي يقوم عليها البناء الإسلامي من جديد ثم يستوردون من غير المسلمين ما ينقصهم في المجال (العلمي البحت) ويكون هذا الاستيراد بحذر وذكاء، حيث تصاغ هذه العلوم بصياغة علمية مؤمنة سليمة من صياغة الملاحدة ودعاة "اللادين".
وقد يقول قائل: وما دخل الأسلوب العلمي البحت في الأسلوب الديني؟
والجواب: أنه لا فصل بين دين وعلم، بل الدين الإسلامي هو دين العلم. وصياغة الأسلوب العلمي من منطلق إسلامي صحيح يغرس في النفوس إيماناً عميقاً بقدرة الخالق سبحانه وتعالى وعظيم صنعه وإبداعه في هذا الكون بكل ما فيه.
ثم إن هذا الاعتراض فيه مغالطة ظاهرة: فإنه مهما ادعى المتجردون للأسلوب العلمي أنهم "حياديون " فإنه يستحيل أن تكون صياغة من تلقى نظرية ماركس أو فرويد أو دور كايم لنظرية علمية ما، مثل صياغة من كان بنفس الكفاءة العلمية ولكنه تلقى عقيدة " لا إله إلا الله " من مشكاة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا أمر ظاهر لا يستطيع أن ينكره إلا مكابر أو جاهل يجهل أنه يغالط نفسه.
وأدلة الانتفاع بالكفار نجدها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره في كتاب الإجازة باب استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الإسلام عن عائشة رضي الله عنها واستأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل ثم من بني عبد بن عدي هادياً خريتاً - الخريت: الماهر بالهداية - قد غمس يمين حلف في آل العاصي بن وائل وهو على دين كفار قريش فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا (1) الحديث. قال ابن القيم: اسمه عبد الله بن اريقط الدؤلي وفي استئجاره وهو كافر: دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطب والأدوية والحساب والعيوب ونحوها، ما لم يكن ولاية تتضمن عدالة ولا يلزم من مجرد كونه كافراً أن لا يوثق به في شيء أصلاً، فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق ولا سيما في مثل طريق الهجرة (2) .
قال ابن بطال: عامة الفقهاء، يجيزون استئجارهم - أي المشركين - عند الضرورة وغيرها لما في ذلك من المذلة لهم، وإنما الممتنع أن يؤاجر المسلم نفسه من المشرك لما فيه من إذلال المسلم (3) . ولكن ما هو الحكم لو آجر المسلم نفسه من كافر؟
والجواب على ذلك ما رواه البخاري أيضاً عن خباب رضي الله عنه قال: كنت رجلاً قيناً فعملت للعاص بن وائل فاجتمع لي عنده، فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: أما والله حتى تموت ثم تبعث فلا قال: وإني لميت ثم مبعوث؟
قلت: نعم. قال: فإنه سيكون لي ثم مال وولد، فأقضيك: فأنزل الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا { (4)[سورة مريم: 77] .
(1) صحيح البخاري 4/442 ح 2263 كتاب الإجازة.
(2)
بدائع الفوائد (3/208) .
(3)
فتح الباري (4/442) .
(4)
صحيح البخاري كتاب الإجازة باب هل يؤاجر الرجل نفسه من مشرك في أرض الحرب (4/452 ح 2275) .
قال المهلب: كره أهل العلم ذلك - أي مؤاجرة نفسه من مشرك في أرض الحرب - إلا لضرورة بشرطين أحدهما أن يكون عمله فيما يحل للمسلم فعله والآخر: أن لا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين (1) .
أما استئجار المشرك في الغزو فقد ورد النهي بذلك: ففي الحديث الذي رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة (2) أدركه رجل، قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه. فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك وأصيب معك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "تؤمن بالله ورسوله "؟ قال: لا. قال: " فارجع فلن أستعين بمشرك " قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة قال: " فارجع فلن أستعين بمشرك " قال: ثم رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة " تؤمن بالله ورسوله"؟ قال: نعم. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "فانطلق"(3) .
ولكن الحازمي (4) قال: اختلف أهل العلم في هذا الباب:
فذهبت جماعة إلى منع الاستعانة بالمشركين مطلقاً، وتمسكوا بظاهر هذا. الحديث. وقالوا: هذا حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وما يعارضه لا يوازيه في الصحة والثبوت فتعذر ادعاء النسخ لهذا.
وذهبت طائفة: إلى أن للإمام أن يأذن للمشركين أن يغزوا معه ويستعين بهم ولكن بشرطين:
(1)
أن يكون في المسلمين قلة وتدعو الحاجة إلى ذلك.
(2)
أن يكونوا ممن يوثق بهم فلا تخش ثائرتهم.
(1) فتح الباري (4/452) .
(2)
موضع على بعد أربعة أميال من المدينة.
(3)
صحيح مسلم (3/1499 ح 1817) كتاب الجهاد.
(4)
هو الإمام أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان بن حازم المعروف بالحازمي من رجال الحديث أصله من همذان، ولد سنة 548 هـ وتوفى ببغداد سنة 584 هـ: الأعلام للزركلى (7/117) الطبعة الرابعة
فمتى فقد هذان الشرطان لم يجز للإمام أن يستعين بهم، قالوا: ومع وجود الشرطين يجوز الاستعانة بهم. وتمسكوا في ذلك بما رواه ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع، واستعان بصفوان بن أمية في قتال هوازن يوم حنين، قالوا: وتعين المصير إلى هذا لأن حديث عائشة رضي الله عنها كان يوم بدر وهو متقدم فيكون منسوخاً (1) . ثم قال: " ولا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إذا خرجوا طوعاً ولا يسهم لهم (2) .
ويدعم ابن القيم هذا الرأي وهو يتحدث عن فوائد صلح الحديبية فيقول: الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة لأن عينه صلى الله عليه وسلم الخزاعي كان كافراً إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم (3) .
وقال في فوائد غزوة حنين. للإمام أن يستعير سلاح المشركين وعدتهم لقتال عدوه. كما استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرع صفوان بن أمية وهو يؤمئذ مشرك (4) .
وتبعه الإمام محمد بن عبد الوهاب فقال: الانتفاع بالكفار في بعض أمور الدين ليس مذموماً لقصة الخزاعي (5) .
ونلخص إلى القول:
إن الانتفاع بالكفار وبما عندهم من العلوم التي هي من اجتهاد الإنسان أمر جائز في الإسلام وأدلته كثيرة سبق ذكر بعضها، ومنها أيضاً: مزارعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود في خيبر على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها (6)
(1) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي (ص 219) تحقيق راتب حاكمي
(2)
المصدر السابق (ص220) .
(3)
زاد المعاد (3/301) وقصة الخزاعي في تاريخ الطبري (2/625) .
(4)
زاد المعاد (3/479) والقصة في السيرة لابن هشام (4/83) وتاريخ الطبري (3/73) .
(5)
ملحق مصنفات الإمام محمد بن عبد الوهاب (ص 7) .
(6)
الحديث في صحيح البخاري كتاب المزارعة باب المزارعة مع اليهود (5/15 ح 2331) .
أما إجارة المسلم نفسه لهم فجائز إذا لم يكن في ذلك تعظيم لدينهم أو شعائرهم أو ما فيه ذلة ومهانة له. وأما الاستعانة بهم في الغزو فجائز ولكن ذلك منوط بإمام المسلمين إذا رأى أن المصلحة تقتضي استخدامهم وإلا فلا.
ومع هذا فإنه يجب الاحتراز ومنع استعمال الكفار في شيء من ولايات المسلمين التي يكون فيها سلطة لهم على المسلمين كالدواوين فإن في ذلك جناية على الإسلام والمسلمين، ففضلاً عن أن ذلك مخالفة صريحة لحكم الشرع الإسلامي وهيمنته على الأرض فإنه أيضاً إذلالاً صريح للمسلمين حتى الذين توهموا أن ذلك أمر جائز. وإليك بعضاً من النصوص والحوادث التاريخية الهامة التي يبدو فيها كيد أعداء الله للإسلام حين تولوا هذه المناصب الهامة.
روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه إن لي كاتباً نصرانياً. قال: مالك؟ قاتلك الله؟ أما سمعت الله يقول:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ { [سورة المائدة: 51] .
ألا اتخذت حنيفاً؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين لي كتابته، وله دينه، قال: لا أكرمهم إذا أهانهم الله ولا أعزهم إذا أذلهم الله، ولا أدنيهم إذا أقصاهم الله " (1) .
وكتب عمر رضي الله عنه أيضاً إلى أبي هريرة كتاباً جاء فيه: ".. ولا تستعن في أمر من أمور المسلمين بمشرك. وساعد على مصالح المسلمين بنفسك فإنما أنت رجل منهم غير أن الله تعالى جعلك حاملاً لأثقالهم (2) .
(1) هكذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (ص50) أن هذا الحديث رواه أحمد ولم أجده في مسند أبي موسى، وقد أورده البيهقي في السنن الكبرى (10/127) كتاب آداب القاضي.
(2)
أحكام أهل الذمة (1/212 7) .
وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى بعض عماله: (أما بعد: فإنه بلغني أن في عملك كاتباً نصرانياً يتصرف في مصالح الإسلام، والله تعالى يقول:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ { [سورة المائدة: 57] .
فإذا أتاك كتابي هذا فادع حسان بن زيد - يعني ذلك الكاتب - إلى الإسلام فإن أسلم فهو منا ونحن منه، وإن أبى فلا تستعن به ولا تتخذ أحداً على غير دين الإسلام في شيء من مصالح المسلمين فأسلم حسان وحسن إسلامه) (1) .
ولما فشا استخدام أهل الكتاب في مصالح المسلمين أيام الخلافة العباسية نهض أحد العلماء بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا الشأن وهو شبيب بن شيبة (2) فقد استأذن على أبي جعفر المنصور فإذن له فقال (
…
يا أمير المؤمنين اتق الله فإنها وصية الله، إليكم جاءت وعنكم قبلت، وإليكم تؤدى، وما دعاني إلى قولي إلا محض النصيحة لك والإشفاق عليك، وعلى نعم الله عندك. اخفض جناحك إذا علا كعبك وابسط معروفك إذا أغنى الله يديك. يا أمير المؤمنين إن دون بابك نيراناً تأجج من الظلم والجور لا يعمل فيها بكتاب الله ولا سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
يا أمير المؤمنين سلطت الذمة على المسلمين، ظلموهم وعسفوهم، وأخذوا ضياعهم وغصبوهم أموالهم، وجاروا عليهم، واتخذوك سلماً لشهواتهم، وإنهم
(1) المصدر السابق (1/214) .
(2)
شبيب بن شيبة بن عبد الله التميمي المنقيري الأهتمي. أديب الملوك وجليس الفقراء، وأخو المساكين كان يقال له (الخطيب) لفصاحته وكان شريفاً من الدهاة، يفزع إليه أهل بلده في حوائجهم. انظر ترجمته في شذرات الذهب 1/256 وتهذيب التهذيب (4/307) والأعلام (3/156) .