الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ { [سورة العلق: 1-5]
ثم بعد ذلك نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنذِرْ {2} { [سورة المدثر: 1-2] .
وبدأ المصطفى صلى الله عليه وسلم يدعو الناس سراً إلى الإسلام وأسلم معه نفر قليل، منهم أبو بكر الصديق، وعلى بن أبي طالب وخديجة بنت خويلد زوجته رضي الله عنهم جميعاً. وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرس في نفوس أصحابه محبة لله ومحبة رسوله والاجتماع على ذلك وإخلاص الحب والولاء والنصرة للمؤمنين وبغض الكفر والشرك وأهله وهذا هو لازم كلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وهنا نشأت الوشيجة الجديدة وشيجة العقيدة في نفوس المؤمنين وبدأ يقر في نفوسهم أن هذه هي الرابطة الحقيقية. هي الرابطة التي تطمئن لها نفس المؤمن ومع نمو هذه الغرسة الجديدة بدأت تذبل شجرة العصبية الجاهلية، والروابط الجاهلية، وبدأت نظرة الريب والاحتقار لتلك الروابط تكبر يوماً فيوماً في نفس كل من آمن بالله ورسوله.
الملتقى الأول
وأولى خطوات الطريق
اختار المصطفى صلى الله عليه وسلم دار الأرقم لتلقين من آمن معه أمور هذا الدين. ولقد كانت هذه الدار هي الملتقى الأول لأولئك القادة العظام، كانت هي الدار التي بدأ يشع منها ذكر الله وتوحيده في الأرض.
ترى ما هو حال المسلمين آنذاك؟ وماذا بعد النطق بالشهادتين؟
يجيب على ذلك الأستاذ سيد قطب رحمه الله فيقول: إنه لم يكن للإسلام والمسلمين في مكة شريعة ولا دولة، ولكن الذين كانوا ينطقون بالشهادتين كانوا يسلمون قيادهم من فورهم للقيادة المحمدية، ويمنحون ولاءهم من فورهم للعصبة المسلمة. وكان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية، ويبدأ عهداً جديداً، منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية. إنه يقف من كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك الحذر المتخوف.
(لقد كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه، ونشأت عن هذه العزلة، عزلة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية أيضاً.
(إنه قد انفصل نهائياً من بيئة الجاهلية، واتصل نهائياً ببيئته الإسلامية، حتى لو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي.
فالعزلة الشعورية شيء، والتعامل اليومي شيء آخر.
(وحين انخلع المسلم من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام فإنه أيضاً كان ينسلخ من القيادة الجاهلية، وينزع ولاءه من الأسرة والعشيرة والقبيلة، ويترجم ذلك إلى واقع وحقيقة يقوم عليها الإسلام. وهذا هو الذي أزعج (الملأ) من قريش!
(أزعجهم زحف الإسلام، وأزعجهم القرآن، ولم يزعجهم من قبل أن (الحنفاء) اعتزلوا معتقدات المشركين وعباداتهم، واعتقدوا بألوهية الله وحده، وقدموا له الشعائر وحده فهذا لا يهم الطاغوت، كما يفهم بعض الطيبين الخيرين اليوم الذين لا يدركون ولا يعرفون حقيقة الإسلام.
(إنما الإسلام هو تلك الحركة المصاحبة للنطق بالشهادتين ثم الانخلاع من المجتمع الجاهلي وتصوراته وقيمه وقيادته وسلطانه وشرائعه. والولاء لقيادة الدعوة الإسلامية التي تريد أن تحقق الإسلام في عالم الواقع، ولذلك قاوم ((الملأ)) من
قريش هذه الدعوة بشتى الأساليب) (1) والتقى المؤمنون على حب الله ورسوله، فكان لقاء عميقاً لأن كلا منهم جاء إلى الله ورسوله يتلقى منه، ويهتدي بهديه، ويتوجه إليه، وأحسن كل منهم نحو أخيه برباط من نوع جديد، يربطه بأخوته في الله، إنه يحبه كنفسه مع أنه ليس من قبيلته ولا بينهما آصرة دم (2) .
وأخذ القرآن الكريم ينزل حسب النوازل والحوادث على ما يشاء الله سبحانه وتعالى لتربية الأمة على أسس العقيدة فكان الولاء والبراء يزيد كلما ازدادت التكاليف وكان من الطرق التي سلكها القرآن في عرض هذه العقيدة ضرب المثل، لأنه كما يقال: بالمثال يتضح المقال. ومعلوم أن كلام الله واضح ولكن سياق المثل يستثير في الإنسان نوعاً من التفكر وتدبر العبرة والعظة لتغيير المسار الخاطئ والاتجاه في الطريق الصحيح.
ومن هذه الأمثلة في موضوعنا قوله تعالى:
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ { [سورة العنكبوت: 41] .
وبتقرير هذه الحقيقة الضخمة في النفوس، كان المؤمنون أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقهم، وداسوا بها على كبرياء الجبابرة في الأرض، ودكوا بها المعاقل والحصون.. إن قوة الله وحدها هي القوة، وولاية الله وحدها هي الولاية وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل، مهما علا واستطال، ومهما تجبر وطغى ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل (3) .
(1) في ظلال القرآن 3/1503 ومعالم في الطريق (ص 17، 50) .
(2)
انظر منهج التربية الإسلامية للأستاذ محمد قطب (ج2/38-40) .
(3)
انظر في ظلال القرآن (5/2737) .
ومكث المصطفى صلى الله عليه وسلم في دعوته للناس بالسر ثلاث سنوات، كما قال ذلك علماء السير والمغازي (1) .
وبعد أن فشا ذكر الإسلام في مكة، وتحدث الناس به أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه، وأن يبادئ الناس بأمره، وأن يدعو إليه ونزل قوله تعالى:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ { [سورة الحجر: 94] .
وقال الله له:
{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ {214} وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ { (2)[سورة الشعراء: 214 - 215] .
وهنا بدأ الابتلاء للمسلمين، وهذا الابتلاء الذي ظاهره الشدة هو في حقيقته نعمة، لأنه يتضح من خلاله: الصادق من الكاذب، والخبيث من الطيب. قال تعالى:
{الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ { [سورة العنكبوت: 1 - 3] .
(1) انظر السيرة النبوية لابن هشام (ج1/280) .
(2)
المصدر السابق (1/280) .
وحدث لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الابتلاء والشدة الشيء الكثير، حتى إنهم كانوا يذهبون للشعاب يستخفون بصلاتهم عن قومهم (1) .
صدق التحمل
ماذا فعل المؤمنون تجاه العذاب الذي صبه عليهم أعداء الله؟ ما هو رد فعل المسلمين تجاه ما فعل بهم عامة وما فعل ببلال وآل ياسر وغيرهم من المستضعفين خاصة؟
إنه الصبر على الأذى والهجر الجميل. قال تعالى:
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً {10} وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً { [سورة المزمل: 10-11] .
وصبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وكانت تربيته الربانية كفيلة بتطهير نفوس المؤمنين معه فكانوا كل يوم يزدادون من سمو الروح ونقاء القلب ونظافة الخلق والتحرر من سلطان الماديات والشهوات شيئاً كثيراً.
(كان صلى الله عليه وسلم يأخذهم بالصبر على الأذى والصفح الجميل، وقهر النفس مع أنهم قوم قد وضعوا حب الحرب، وكأنهم ولدوا مع السيف، وهم من أيامها حرب البسوس وداحس والغبراء. وما يوم الفجار ببعيد!!
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قهر طبيعتهم الحربية، وكبح نخوتهم العربية فانقهروا لأمره، وكفوا أيديهم وتحملوا من قريش ما تسيل منه النفوس، في غير جبن وفي غير عجز) (2) . هذا بالنسبة لموقف المسلمين من أعدائهم.
(1) المصدر السابق (1/282) .
(2)
ماذا خسر العالم بانخطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي (ص97) بتصرف.
أما ولاؤهم فيما بينهم، فنقول: أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد حرص على غرس ركيزتين أساسيتين في نفوسهم هما:
(1)
الإيمان بالله، ذلك الإيمان المنبثق من معرفته سبحانه، وتمثيل صفاته في الضمائر، وتقواه، ومراقبته، مع اليقظة والحساسية التي بلغت في نفوسهم حداً غير معهود إلا في النادر من الأحوال.
(2)
الحب الفياض، والتكافل الجاد العميق، حيث بلغت فيه الجماعة المسلمة مبلغاً لولا أنه وقع بالفعل لعد من أحلام الحالمين (1) .
إن نقطة الحب في الله التي التقى عليها المؤمنون، كانت أيضاً لقاء على ما يتبع هذه الدعوة من جهد أو غرم، وما يستتبع ذلك من ألم أو سرور وجعل العاطفة الإنسانية تحب وتبغض تبعاً لما يصيب الإسلام من خير أو شر (2) .
ولكي يكون لهذا الكلام ما يدعمه من دليل، وحتى نعلم ما هي نتائج تربية (دار الأرقم) أذكر موقفاً واحداً لصديق هذه الأمة، أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وطئ أبو بكر رضي الله عنه في مكة يوماً بعد ما أسلم، وضرب ضرباً شديداً، ودنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين، ويحرفهما لوجهه، ثم نزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا، وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعيمه شيئاً أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت قالت: نعم
(1) انظر طريق الدعوة في ظلال القرآن (1/188) .
(2)
انظر هذا ديننا للشيخ محمد الغزالي (ص178) .