الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفاً، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت والله إن قوماً نالوا منك هذا لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع!! قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح، قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم، قال: فإن لله على أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
يا لله! رجل مضروب، مثخن بالجراح لا يتناول حتى شربة الماء وهو أشد ما يكون حاجة إليها حتى يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
حقاً إنها تربية دونها كل تربية. حقاً نقول إن ذلك الجيل الذي رباه المصطفى صلى الله عليه وسلم جيل فريد على غير مثال سابق ولا لاحق.
سمات العلاقة بين
المسلمين وأعدائهم في العهد المكي
إن المرحلة المكية كانت تقتضي أن تكون العلاقة بين المسلمين والمشركين علاقة غير قتالية، علاقة بيان للحق، وصبر على الأذى فيه، واحتساب لكل ما عرفته رباع مكة ورمضاؤها والطائف وفجاجها من أذى للمصطفى صلى الله عليه وسلم وعذاب واضطهاد لبلال وعمار وخباب وآل ياسر وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
ذلك أن ظروف تلك المرحلة كانت تقتضي اتخاذ الأساليب السلمية، وعرض الحقائق الإيمانية عرضاً مؤثراً، عله يكون في هذا وفيما أبداه المؤمنون الصابرون من تحمل وصبر، ما يرجع لأهل اللب صوابهم، وما أجدر ذلك باستجابة القوم لولا اتباع الهوى وسلطان المصالح الزائلة من زعامة ووجاهة ومكاسب مادية، وما إلى ذلك (2) .
(1) البداية والنهاية لابن كثير 3/30 وانظر ماذا خسر العالم للندوي (ص113) .
(2)
انظر: علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى للأستاذ أحمد محمود أحمد 8-9.
والتربية النبوية في هذا العهد ذات شأن عظيم ذلك أنها كانت تربية تقوم على ضبط النفس، والصبر على الأذى، وإعداد العدة مع حبس دواعي الانطلاق وكف حدة الإقدام، واحتمال جهل الجاهلين وبغي الطاغين. وكل ذلك من غير ذل ولا استجداء، ولا يأس ولا وهن، بل إن عيونهم قريرة وقلوبهم مطمئنة إلى نصر الله ونفوسهم مستعلية على شرك المشركين وضلالهم وفتنتهم (1) .
ومن المهم في هذا الموضوع أن نلاحظ الحكمة الربانية في عدم فريضة القتال في مكة فإنه إنما شرع في العهد المدني أما (حين كان المسلمون في مكة فقد كان المشركون أكثر عدداً، فلو أمر المسلمون وهم أقل من العشر بقتال الباقين لشق عليهم، ولهذا لما بايع أهل يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نيفاً وثمانين قالوا: يا رسول الله ألا نميل على أهل الوادي - يعنون أهل منى - ليالي منى فنقتلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إني لم أؤمر بهذا)(2) .
ونحن حين نلتمس الحكمة في هذه الحالة وفي غيرها من التكاليف الشرعية - كما يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله لا نجزم بما نتوصل إليه، لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة. ونفرض أسباباً وعللاً قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقة، أو قد تكون.
ذلك أن شأن المؤمن أمام أي تكليف، أو أي حكم من أحكام الشريعة هو التسليم المطلق لأن الله سبحانه هو العليم الخبير، وإنما نقول هذه الحكمة والأسباب من باب الاجتهاد وعلى أنه مجرد احتمال لأنه لا يعلم الحقيقة إلا الله، ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح) (3) .
وهذه الأسباب والعلل ذكرها الأستاذ سيد قطب رحمه الله في كتابيه القيمين: ((في ظلال القرآن)) عند تفسير سورة النساء، وفي ((معالم في الطريق)) (4)
(1) سبيل الدعوة الإسلامية. د. محمد أمين المصري (ص 111، 113) بتصرف.
(2)
تفسير ابن كثير: (5/ 431) والحديث في مسند أحمد (3/462) في سنده (معبد بن كعب بن مالك، قال عنه ابن حجر في التقريب مقبول، وذكر في التهذيب أن له حديثاً واحداً في صحيح البخاري وأخرج له مسلم. ووثقه ابن حبان.
(3)
انظر الظلال (2/714) .
(4)
الظلال (2/714 - 715) وفي المعالم (ص 69 - 71) .
فصل الجهاد في سبيل الله وسأوجزها فيما يلي:
(1)
إن الكف عن القتال في مكة ربما كان لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد، في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة، ومن أهداف التربية في مثل هذه البيئة: تربية الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم حين يقع عليه أو على من يلوذون به: ليخلص من شخصه، ويتجرد من ذاته، فلا يندفع لأول مؤثر، ولا يهتاج لأول مهيج ومن ثم يتم الاعتدال في طبيعته وحركته. ثم تربيته على أن يتبع نظام المجتمع الجديد والتقيد بأوامر القيادة الجديدة، حيث لا يتصرف إلا وفق ما تأمره – مهما يكن مخالفاً لمألوفه وعادته – وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي المسلم لإنشاء "المجتمع المسلم".
(2)
وربما كان ذلك أيضاً لأن الدعوة السلمية أشد أثراً وأنفذ في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف، والتي قد يدفعها القتال معها – في مثل هذه الفترة – إلى زيادة العناد ونشأة ثارات دموية جديدة كثارات العرب المعروفة أمثال داحس والغبراء وحرب البسوس، وحينئذ يتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات تنسى معها فكرته الأساسية.
(3)
وربما كان ذلك أيضاً اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة داخل كل بيت، فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة هي التي تعذب المؤمنين، وإنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد ومعنى الإذن بالقتال – في مثل هذه البيئة – أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت ثم يقال: هذا هو الإسلام!! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال! فقد كانت دعاية قريش في المواسم، أن محمداً يفرق بين الوالد وولده فوق تفريقه لقومه وعشيرته! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي؟
(4)
وربما كان ذلك أيضاً لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون المسلمين عن دينهم ويعذبونهم هم أنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته. ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟
(5)
وربما كان ذلك أيضاً لأن النخوة العربية في بيئة قبلية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة في هذه البيئة - فابن الدغنة (1) لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عاراً على العرب! وعرض عليه جواره وحمايته.. وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب.
(6)
وربما كان ذلك أيضاً لقلة عدد المسلمين حينذاك وانحصارهم في مكة حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة، أو بلغت ولكن بصورة متناثرة، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها، لترى ماذا يكون مصير الموقف. ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك، ولا يقوم للإسلام في الأرض نظام، ولا يوجد له كيان واقعي، وهو دين جاء ليكون منهج حياة ونظام دنيا وآخرة.
(7)
إنه لم تكن هناك ضرورة قاهرة ملحة، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها، والأمر بالقتال، ودفع الأذى، لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائماً ومحققاً وهو " وجود الدعوة" ووجودها في شخص الداعية محمد صلى الله عليه وسلم، وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع. ولذلك لا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغ الدعوة وإعلانها في ندوات قريش حول الكعبة، ومن فوق جبل الصفا، وفي الاجتماعات العامة ولا يجرؤ أحد على سجنه أو قتله، أو أن يفرض عليه كلاماً بعينه يقوله، بل إنهم حين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف، وحين طلبوا إليه أن يسكت عن سب دين آبائهم وأجدادهم لم يسكت، وحين طلبوا إليه أن يدهن فيدهنوا، أي يجاملهم فيجاملوه، بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا بعض عبادته لم يدهن.
(1) ابن الدغنة رجل جاهلي أجار أبا بكر عندما أخرجه قومه وأراد الهجرة للحبشة. انظر الإصابة (2/344) .
إن هذه الاعتبارات كلها – فيما نحسب – كانت بعض ما اقتضت حكمة الله – معه – أن يأمر المسلمين بكف أيديهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، لتتم تربيتهم، وإعدادهم، وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة، في الوقت المناسب، وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها، فلا يكون لذواتهم فيها حظ.. لتكون خالصة لله، وفي سبيل الله – (انتهى ملخصاً من الظلال) .
والناظر في الفترة المكية والتي كانت ثلاثة عشر عاماً كلها تربية وإعداد وغرس لمفاهيم لا إله إلا الله يدرك ما لأهمية هذه العقيدة من شأن في عدم الاستعجال واستباق الزمن فالعقيدة بحاجة إلى غرس يتعهد بالرعاية والعناية إلى الله أن يقفوا أمام تربية المصطفى صلى الله عليه وسلم لأصحابه على هذه العقيدة وقفة طويلة، فيأخذوا منها العبرة والأسوة، لأنه لا يقف في وجه الجاهلية – أياً كانت قديمة أم حديثة أم مستقبلية – إلا رجال اختلطت قلوبهم ببشاشة العقيدة الربانية، وعمقت جذور شجرة لا إله إلا الله في نفوسهم، فيصدق عليهم حينئذ أنهم
{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ { [سورة الأحزاب: 23] .
لا تهمهم قوة عدو، ولا تنقصهم عزيمة باسل لأن الله هو وليهم وناصرهم،
{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ { [سورة الحج: 40]
قال ابن اسحاق:
(لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ثم من عمه أبي طالب، وإنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم: " لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم
فيه " فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم فكانت أول هجرة في الإسلام (1) .
ثم إن لطف الله ورحمته غمرت المؤمنين المستضعفين وذلك بإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث أعز الله به الإسلام، ولذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "إن إسلام عمر كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه "(2) إنها نعمة كبرى تجلت في إسلام عمر، الذي منح ولاءه ونصرته للمسلمين، وصير بغضه وعداوته وبراءه للكافرين، كيف لا وهو الذي اشتبك مع القوم بعد إسلامه ثم قال:" افعلوا ما بدا لكم فوالله لو أن قد كنا ثلاث مئة رجل لقد تركناها – أي مكة – لكم أو تركتموها لنا "(3)
وسمع المؤمنون بإسلام عمر رضي الله عنه وهم في الحبشة ففرحوا بذلك ورجع منهم من رجع إلى مكة – ولكن قريشاً صبت عليهم ألواناً من العذاب والاضطهاد فلم يزدهم ذلك إلا صلابة في العود وثباتاً على الحق وأملاً في فرج من الله قريب.
ثم تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه لدرس آخر من دروس الابتلاء التي هي من سنن الدعوة إلى الله: ذلك الدرس هو موت أبي طالب عم رسول الله الذي كان مناصراً له وحامياً. وموت زوجة رسول الله خديجة رضي الله عنها أول امرأة أسلمت وكانت مثالاً للمرأة المسلمة الصالحة وهنا يطمع أعداء الله في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أكبر من كل شيء ثم رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يتجه إلى غير قريش عسى أن يجد مجيباً وناصراً فخرج إلى الطائف، ولكن ثقيفاً خيبت أمله وآذته وسخرت منه، فاتجه إلى ربه قائلاً (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة
(1) السيرة لابن هشام (1/344) .
(2)
السيرة لابن هشام (1/367) وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر " مناقب عمر (7/41 ح 3684) .
(3)
السيرة لابن هشام (1/374) .