الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرد على من زعم أن كلمة التوحيد لفظ فقط
مع بيان المذهب الصحيح في الأحاديث الواردة بخصوصها
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله:
(ليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه: لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع والعطاء، والحب والبغض، ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها، ومن عرف هذا عرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)(1) وقوله (لا يدخل النار من قال لا إله إلا الله)(2) ، وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث، التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة! وظنها بعضهم قيلت قبل ورود الأوامر والنواهي واستقرار الشرع، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود وقال: المعنى لا يدخلها خالداً، ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة. فإن الشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط، فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، لأن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار.
بل لا بد من قول القلب، وقول اللسان.
وقول القلب: يتضمن من معرفتها والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته
(1) سبق تخريجه.
(2)
سبق الكلام عليه في شروط لا إله إلا الله.
من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب علماً ومعرفة ويقيناً وحالاً: ما يوجب تحريم قائلها على النار.
وتأمل حديث البطاقة (1) التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب صاحبها ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة،
…
ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل هو أنه حصل له ما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات.
وتأمل أيضاً ما قام بقلب قاتل المائة (2) من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية فجعل ينوء بصدره، ويعالج سكرات الموت، لأن ذلك كان أمراً آخر، وإيماناً آخر ولذلك ألحق بأهل القرية الصالحة. وقريب من هذا ما قام بقلب البغي (3) التي رأت ذلك الكلب وقد اشتد به العطش، يأكل الثرى – فقام بقلبها ذلك الوقت – مع عدم الآلة، وعدم المعين، وعدم من ترائيه بعملها ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر وملء الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف وحملها خفها بفيها وهو ملآن حتى أمكنها الرقي من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب من غير أن ترجو منه جزاء ولا شكوراً. فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء فغفر لها) (4) .
وقد ورد في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله)(5) .
يقول محمد بن عبد الوهاب.
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن عمرو (ج 2 ص 213) الطبعة الثانية وسنده حسن وأخرجه الترمذي في الإيمان (ج7/295)(ح2641) ورجاله ثقات فالحديث صحيح.
(2)
صحيح البخاري (ج6/512)(ح3470) كتاب الأنبياء وصحيح مسلم كتاب التوبة (ج4/2118)(ح2766) .
(3)
صحيح مسلم (ج4/1761)(ح2245) كتاب السلام.
(4)
مدارج السالكين لابن القيم (ج1/330 – 332) بتصرف بسيط.
(5)
صحيح مسلم (ج1/53)(ح23) كتاب الإيمان.
رحمه الله:
(وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه)(1) .
ومن هنا نعلم فساد عقيدة المرجئة (2) : الذين يقولون: إن الإيمان هو المعرفة فقط والكفر هو الجهل فقط وأخروا العمل عن الإيمان.
ومن المعلوم أن كفار مكة قد علموا مراد النبي صلى الله عليه وسلم من كلمة لا إله إلا الله فأبوا واستكبروا ولم يك ينفعهم إيمانهم بأن الله واحد رازق محي مميت. ولما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم قولوا: لا إله إلا الله قالوا:
{أجعل الألهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب { [سورة ص: 5] .
(فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام، وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني، والحاذق من يظن أن معناها: لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر الأمر كله إلا الله)(3) .
ويتابع الإمام محمد بن عبد الوهاب رده عليهم فيقول:
(وهنا شبهة: وهي قول من يقول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال: (لا إله إلا الله)(4) . وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (أمرت
(1) كتاب التوحيد ص 115 المطبوع مع فتح المجيد ط 7/1377 هـ بتحقيق محمد حامد الفقي.
الناشر مطبعة أنصار السنة بمصر.
(2)
المرجئة: من الإرجاء. بمعنى التأخير، وهم يقولون أن الإيمان هو الإقرار فقط. انظر مقالات الإسلاميين للأشعري ج 1/214 والفرق بين الفرق للبغدادي ص 202.
(3)
مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب (ج 5/15) الطبعة الأولى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(4)
في صحيح مسلم (ج1/97)(ح97) كتاب الإيمان.
أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) (1) . وأحاديث أخر، في الكف عمن قالها؟!
(ومراد هؤلاء الجهلة: أن من قالها لا يكفر، ولا يقتل ولو فعل ما فعل (2) .
فيقال لهؤلاء المشركين الجهال: معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون (لا إله إلا الله) وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلون ويدعون الإسلام، وكذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار (3) . وهؤلاء الجهلة مقرون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله، وأن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها.
(فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعاً من الفروع وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه؟!.
(ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث. فمعلوم أن الرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك كما قال تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا { [سورة النساء:94] .
أي فتثبتوا. فدلت الآية على وجوب الكف حتى يثبت منه، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله تعالى:(فتبينوا) ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبيت معنى.
وأيضاً أمره صلى الله عليه وسلم بقتل الخوارج (أينما لقيتموهم فاقتلوهم لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)(4) مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحاً، حتى أن الصحابة
(1) انظر صحيح مسلم (ج 1ص 51)(ح20) كتاب الإيمان.
(2)
وهذه هي دعوى المرجئة. أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
(3)
هم الغلاة الذين ادعوا ألوهية علي رضي الله عنه.
(4)
صحيح مسلم (ج2/742)(ح1064) كتاب الزكاة.
يحقرون صلاتهم عندهم. وقد تعلموا العلم من الصحابة، فلم تنفعهم (لا إله إلا الله) ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة) (1) ا. هـ.
ويعلم كل ذي لب أنها لو كانت كلمة - مجرد كلمة - لكان أمرها على قريش سهلاً فتنطقها وتتخلص من هذا العناء وتسفيه الآلهة!
ولكنها تعلم أن هذه الكلمة لها مدلولها الذي يغير أوضاع قريش الجاهلية ولها مقتضياتها التي تحطم طغيان قريش واستعبادها للناس.
ولها أهميتها في تحرير الناس من عبودية بعضهم لبعض إلى عبودية الواحد القهار وجعل التقوى هي الميزان والفخار الذي ينشده الناس، وليس العادات والتقاليد الجاهلية التي توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد.
فحريٌّ بكل مسلم جاد في إسلامه أن يقدر لهذه الكلمة قدرها حتى يكون ممن عبد الله على بصيرة وعلم ويقين.
(1) كشف الشبهات ص 40.