الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابُ اللّعان
يَسْبقُهُ قَذْفٌ. وَصَرِيحُهُ الزِّنَا، كَقَوْلِهِ لِرَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ:(زَنَيْتَ أَوْ زَنَيْتِ)، أَوْ (يَا زَانِي أَو يَا زَانِيَةُ). وَالرَّمْيُ بِإِيلَاجِ حَشَفَةٍ فِي فَرْجٍ مَعَ وَصْفِهِ بِتَحْرِيمٍ أَوْ دُبُرٍ صَرِيحَانِ
===
(كتاب اللعان)
هو لغة: المباعدة، ومنه: لعنه الله؛ أي: أبعده الله وطرده، سمي بذلك: لبعد الزوجين من الرحمة، أو لبعد كل منهما عن الآخر فلا يجتمعان أبدًا.
وفي الشرع: كلمات معلومة جعلت حجة للمضطر إلى قذف مَنْ لطخ فراشه والحق العار به، سمي لعانًا؛ لقول الرجل:(عليه لعنة الله إن كان من الكاذبين)، وإطلاقُه في جانب المرأة: من مجاز التغليب، والمغلب على اللعان حكم اليمين لا الشهادةِ على الأصحِّ.
والأصل فيه قبل الإجماع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآيات (1)، والأحاديث فيه كثيرة.
(يسبقه قذف) أو نفي الولد؛ لأنه حجة ضرورة لدفع الحد أو نفي الولد، ولا ضرورة قبل ذلك.
(وصريحه) أي: القذفِ (الزنا؛ كقوله لرجل أو امرأة: "زنيتَ أو زنيتِ"، أو "يا زاني أو يا زانية") لتكرر ذلك وشهرته، ولا يضر اللحن بالتذكير والتأنيث.
هذا إذا قاله لمن يمكن وطؤه في معرض التعيير، فلو قال لابنةِ سنةٍ مثلًا (زنيتِ) .. فليس بقذف؛ كما قاله الماوردي (2)؛ لأن القذف ما احتمل الصدق أو الكذب، وهذا مقطوع بكذبه.
(والرميُ بإيلاج حشفة في فرج مع وصفه بتحريم) مطلق (أو دبر .. صريحان) لأنه صريح لا يقبل التأويل، وإنما اشترط الوصف بالتحريم في القبل دون الدبر؛ لأن
(1) فائدة: نزلت هذه الآيات في سنة تسع في عويمر العجلاني أو في هلال بن أمية، قولان، ولم يكن بالمدينة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لعان إلا في أيام عمر بن عبد العزيز. اهـ هامش (أ) و (هـ).
(2)
الحاوي الكبير (14/ 33).
وَ (زَنَأتَ فِي الْجَبَلِ) كِنَايَةٌ، وَكَذَا (زَنَأتَ) فَقَطْ فِي الأَصَحِّ. وَ (زَنَيْتِ فِي الْجَبَلِ) صَرِيحٌ فِي الأَصَحِّ. وَقَوْلُهُ:(يَا فَاجِرُ)، (يَا فَاسِقُ)، وَلَهَا:(يَا خَبيثَةُ)، وَ (أَنْتِ تُحِبِّينَ الْخَلْوَةَ)، وَلِقُرَشِيٍّ:(يَا نَبَطِيُّ)، وَلِزَوْجَتِهِ:(لَمْ أَجِدْكِ عَذْرَاَءَ) كِنَايَةٌ، فَإِنْ أَنْكَرَ إِرَادَةَ قَذْفٍ .. صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. وَقَوْلُهُ:(يَا بْنَ الْحَلَالِ)، وَ (أَمَّا أَنَا .. فَلَسْتُ بِزَانٍ)، وَنَحْوُهُ .. تَعْرِيضٌ لَيْسَ بِقَذْفٍ وَإِنْ نَوَاهُ. وَقَوْلُهُ:(زَنَيْتُ بِكِ) إِقْرَار بِزِنًا وَقَذْفٌ
===
الإيلاج في الدبر لا يكون إلا حرامًا، بخلاف القبل.
(و"زنأت) بالهمزة (في الجبل": كناية) لأن الزَّنْء في الجبل: الصعود فيه، وقيل: إنه صريح في العامي الذي لا يعرف اللغة.
(وكذا "زنأت") بالهمزة (فقط في الأصح) لأن ظاهره الصعود، والثاني: إنه صريح، والثالث: إن أحسن العربية .. فكناية، وإلا .. فصريح.
(و"زنيت في الجبل": صريح في الأصح) للظهور فيه؛ كما لو قال: (في الدار)، والثاني: إنه كناية؛ لأن (الياء) قد تقام مقام الهمزة، والثالث: إنه صريح في عالم باللغة دون غيره.
(وقوله: "يا فاجر" "يا فاسق"، ولها) -أي: للمرأة- (: "يا خبيثة" و"أنت تحبين الخلوة"، ولقرشي: "يا نبطي") وعكسه، (ولزوجته:"لم أجدك عذراء" .. كنايةٌ) لاحتمالها القذفَ وغيره.
والمراد في الثالثة: أنه كناية في قذف أُمّ المخاطب، ولو عبر بالعربي بدل القرشي .. لكان أعم.
(فإن أنكر إرادة قذف .. صدق بيمينه) لأنه أعرف بمراده، ويُعزَّر؛ للأذى.
(وقوله: "يا بن الحلال"، و"أما أنا فلست بزان"، ونحوه .. تعريض ليس بقذف وإن نواه) لأن النية إنما تؤثر إذا احتمل اللفظ المنوي، وههنا ليس في اللفظ إشعار به، وإنما يفهم بقرائن الأحوال، فلا يؤثر فيه؛ كمن حلف لا يشرب له ماء من عطش، ونوى ألا يتقلد له منّةً؛ فإنه إن شربه من غير عطش .. لم يحنث، وقيل: إنه كناية، وقطع به العراقيون.
(وقوله: "زنيت بك": إقرار بزنًا وقذفٌ) للمقول له، أما كونه إقرارًا ..
وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: (يَا زَانِيَةُ)، فَقَالَتْ:(زَنَيْتُ بِكَ) أَوْ (أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي) .. فَقَاذِفٌ وَكَانِيَةٌ، فَلَوْ قَالَتْ:(زَنَيْتُ وَأَنْتَ أَزْنَى مِنِّي) .. فَمُقِرَّة وَقَاذِفَةٌ. وَقَوْلُهُ: (زَنَى فَرْجُكِ) أَوْ (ذَكَرُكَ) قَذْف. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّ قَوْلَهُ: (يَدُكَ أَوْ عَيْنُكَ)، وَلِوَلَدِهِ:(لَسْتَ مِنِّي) أَوْ (لَسْتَ ابْنِي) كِنَايَةٌ،
===
فلقوله: (زنيت)، وأما كونه قذفًا .. فلقوله:(بك).
(ولو قال لزوجته: "يا زانية"، فقالت: "زنيت بك" أو "أنت أزنى مني" .. فقاذف وكانية) أما كونه قاذفًا .. فلصراحة اللفظ، وأما كونها كانيةً .. فلأن قولها الأول: يحتمل نفي الزنا؛ أي: (لم أفعل كما لم تفعل)، وهذا مستعمل عرفًا؛ كقولك لمن قال:(تغديتَ؟ تغديتُ معك)، وقولَها الثانيَ: يحتمل إرادة (ما وطئني غيرك، فإن كنت زانية .. فأنت أزنى مني؛ لأنني ممكِّنة وأنت فاعل)، (فلو قالت:"زنيت وأنت أزنى مني" .. فمقرة) بالزنا (وقاذفة) له؛ للفظ الصريح الذي لا يحتمل غيره.
(وقوله: "زنى فرجك" أو "ذكرك")، أو (قبلك) أو (دبرك)( .. قذف) لأنه آلة ذلك العمل.
ولو قال لخنثى: (زنى فرجك) أو (ذكرك) .. قال في "البيان": الذي يقتضيه المذهب: أنه كإضافته إلى اليد، حتى يكون كناية على الأصحِّ، فلو جمع بين الفرج والذكر .. كان صريحًا، نقله عنه الرافعي في (باب حد القذف) والمصنف هنا (1).
(والمذهب: أن قوله: "يدُك أو عينُك"، ولولده: "لستَ مني" أو "لستَ ابني" .. كناية).
أما في الأولى .. فلأن المفهوم من زنا هذه الأعضاء اللمس والنظر على ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: "الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ"(2)، فلا ينصرف إلى الزنا الحقيقي إلا بإرادته، ولهذا لو نسب ذلك إلى نفسه .. لم يكن إقرارًا قطعًا،
(1) الشرح الكبير (11/ 168)، روضة الطالبين (8/ 317).
(2)
أخرجه ابن حبان (4419) بلفظه، وأصله عند البخاري (6243)، ومسلم (2657/ 21) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وَلِوَلَدِ غَيْرِهِ: (لَسْتَ ابْنَ فُلَانٍ) صَرِيحٌ، إِلَّا لِمَنْفِيٍّ بِلِعَانٍ. وَيُحَدُّ قَاذِفُ مُحْصَنٍ، ويُعَزَّرُ غَيْرُهُ. وَالْمُحْصَنُ: مُكَلَّفٌ، حُرٌّ، مُسْلِمٌ، عَفِيفٌ عَنْ وَطْءٍ يُحَدُّ بِهِ
===
وقيل: إنه صريح؛ قياسًا على الفرج؛ لأنه أضاف الزنا إلى عضو من الجملة، وأما في الثانية .. فلأن الأب يحتاج في تأديب الولد إلى مثل هذا الكلام؛ زجرًا له، فيحمل على التأديب.
(ولولد غيره: "لست ابن فلان" .. صريحٌ) في قذف أمه؛ لأنه لا يحتاج إلى تأديب ولد غيره، والطريق الثاني: حكاية قولين في ولده وولد غيره؛ أحدهما: أنه صريح فيهما؛ لأنه السابق إلى الفهم؛ لأنه لا يحتمل غير القذف.
(إلا لمنفي بلعان) أي: إذا قال لمن نفى نسبه في حال انتفائه: (لست ابن فلان) -يعني: الملاعن- .. فليس بصريح في قذف أمه؛ لجواز إرادة لست ابنه شرعًا، أو لست تشبهه خَلْقًا وخُلُقًا، فإن قال:(قصدت القذف) .. رتب عليه موجبه؛ من حد أو تعزير، أو (لم أرد قذفًا) .. حلف وعزر؛ للأذى، ولو قال له ذلك بعد استلحاق النافي له .. كان صريحًا في القذف على المذهب، اللهم؛ إلا أن يدعي احتمالًا ممكنًا؛ كقوله:(لم يكن ابنه حين نفاه)، فإنه يصدق بيمينه؛ كما رجحه في "زيادة الروضة"، ونقله عن الماوردي (1).
(ويحد قاذف محصن) لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية، (ويعزر غيره) أي: قاذفُ غير المحصن؛ كالعبد والصبي والزاني؛ للإيذاء.
(والمحصن: مكلف، حر، مسلم، عفيف عن وطء يحد به) بالاتفاق؛ لأن الله تعالى شرط فيه الإحصان، وهو الكمال، وأضداد ما شرطناه نقص.
وفي الخبر: "مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ .. فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ"(2)، وإنما جعل الكافر محصنًا في حد الزنا؛ لأن حده إهانة له، والحد بقذفه إكرامٌ.
(1) روضة الطالبين (8/ 320).
(2)
أخرجه الدارقطني (3/ 147)، والبيهقي (8/ 216)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(29349)، وانظر "التلخيص الحبير"(6/ 2736).
وَتَبْطُلُ الْعِفَّةُ بِوَطْءِ مَحْرَمٍ مَمْلُوكَةٍ عَلَى الْمَذْهَبِ، لَا زَوْجَتِهِ فِي عِدَّةِ شُبْهَةٍ وَأَمَةِ وَلَدِهِ وَمَنْكُوحَتِهِ بِلَا وَليٍّ فِي الأَصَحِّ. وَلَوْ زَنَى مَقْذُوفٌ .. سَقَطَ الْحَدُّ، أَوِ ارْتَدَّ .. فَلَا. وَمَنْ زَنَى مَرَّةً ثُمَّ صَلُحَ .. لَمْ يَعُدْ مُحْصَنًا. وَحَدُّ الْقَذْفِ يُورَثُ وَيَسْقُطُ بِعَفْوٍ،
===
(وتبطل العفة بوطء محرم مملوكة) له (على المذهب) إذا علم التحريم؛ لدلالته على قلة مبالاته، بل غِشْيان المحارم أشد من مباشرة الأجنبيات.
وأشار بتعبيره بـ (المذهب): إلى أنا إذا أوجبنا الحد بذلك .. بطلت عفته، وإن لم نوجبه -وهو الأصح- .. بطلت أيضًا على الأصحِّ؛ لما قلناه.
(لا زوجته في عدة شبهة) لأن التحريم عارض يزول، (وأمة ولده ومنكوحته بلا ولي في الأصح) لقوة الشبهة فيهما، ومن ثَمّ لحق النسب فيهما، والثاني: أنها تبطل؛ لحرمته.
(ولو زنى مقذوف) قبل أن يحد له ( .. سقط الحد) عن قاذفه، (أو ارتد .. فلا).
والفرق: أن الزنا يكتم ما أمكن، فإذا ظهر .. أشعر بسبق مثله؛ لأن الله تعالى كريم لا يهتك الستر أول مرة على ما قاله عمر رضي الله عنه (1)، والردةَ عقيدة، والعقائد لا تخفى غالبًا، فإظهارها لا يدل على سبق الإخفاء.
(ومن زنى مرة ثم صلح .. لم يعد محصنًا) أبدًا؛ لأن العرض إذا انثلم .. لم تنسد ثلمته، واستشكله الإمام؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له (2).
(وحد القذف) وتعزيره (يورث) كسائر الحقوق، (ويسقط بعفو) عن جميعه؛ كغيره، فلو عفا عن بعضه .. لم يسقط منه شيء؛ كما ذكره الرافعي في (الشفعة)(3)، ويسقط التعزير أيضًا بالعفو؛ كما قاله في "الروضة"، واستشُكل بتصحيحه في (باب التعزير) جوازَ استيفاء الإمام له مع العفو (4).
(1) أخرجه البيهقي (8/ 276).
(2)
نهاية المطلب (15/ 106).
(3)
الشرح الكبير (5/ 531).
(4)
روضة الطالبين (8/ 325، 10/ 176).