الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيَعُودُ الْمَرِيضَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتَّةُ حُقُوقٍ: إذَا دَعَاهُ أَنْ يُجِيبَهُ وَإِذَا مَرِضَ أَنْ يَعُودَهُ وَإِذَا مَاتَ أَنْ يَحْضُرَهُ وَإِذَا لَقِيَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ وَإِذَا اسْتَنْصَحَهُ أَنْ يَنْصَحَهُ وَإِذَا عَطَسَ أَنْ يُشَمِّتَهُ» وَحَقُّ الْمُسْلِمِ لَا يَسْقُطُ بِالْقَضَاءِ لَكِنْ لَا يُطِيلُ مُكْثَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَرِيضِ خُصُومَةٌ مَعَ أَحَدٍ لَا يَعُودُهُ.
قَالَ رحمه الله (وَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا جُلُوسًا وَإِقْبَالًا) أَيْ يُسَوِّي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي الْجُلُوسِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا اُبْتُلِيَ أَحَدُكُمْ بِالْقَضَاءِ فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ وَالْإِشَارَةِ وَالنَّظَرِ» وَلِأَنَّهُ إذَا قَدَّمَ أَحَدَهُمَا يَجْتَرِئُ عَلَى خَصْمِهِ وَتَنْكَسِرُ هِمَّةُ صَاحِبِهِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى تَرْكِ حَقِّهِ وَيَنْبَغِي لِلْخَصْمَيْنِ إذَا حَضَرَا بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي أَنْ يَجْثُوَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا يَتَرَبَّعَانِ، وَلَا يُقْعِيَانِ، وَلَا يَحْتَبِيَانِ، وَإِنْ فَعَلَا ذَلِكَ مُنِعَا تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْحُكْمِ كَمَا يَجْلِسُ الْمُتَعَلِّمُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُعَلِّمِ تَعْظِيمًا لَهُ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقَاضِي قَدْرُ ذِرَاعَيْنِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ كَلَامَهُمَا مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ بِإِصْغَاءٍ أَوْ رَفْعِ صَوْتٍ، وَلَا يَقْعُدُ أَحَدُهُمَا مِنْ جَانِبِ الْيَمِينِ وَالْآخَرُ مِنْ الْيَسَارِ؛ لِأَنَّ جَانِبَ الْيَمِينِ أَفْضَلُ فَيَكُونُ تَقْدِيمًا لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَوِّيَ فِيهِ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ وَبَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالرَّعِيَّةِ وَبَيْنَ الدَّنِيِّ وَالشَّرِيفِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ عَلَى الْمَلِكِ الَّذِي وَلَّاهُ الْقَضَاءَ، وَكَذَا فَعَلَ شُرَيْحٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِعَلِيٍّ مَعَ خَصْمِهِ، وَاحِدٌ مِنْ الرَّعِيَّةِ وَعَلِيٌّ خَلِيفَةٌ فَإِذَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْفِعْلِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيمَا يَجِدُهُ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْمَيْلِ إلَى أَحَدِهِمَا بَعْدَ أَنْ حَكَمَ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْقَسْمِ بَيْنَ نِسَائِهِ.
قَالَ رحمه الله (وَلْيَتَّقِ عَنْ مَسَارَّةِ أَحَدِهِمَا وَإِشَارَتِهِ وَتَلْقِينِ حُجَّتِهِ وَضِيَافَتِهِ) أَيْ يَجْتَنِبُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تُهْمَةً وَمَكْسَرَةً لِقَلْبِ الْآخَرِ، وَلَوْ أَضَافَهُمَا جُمْلَةً، فَلَا بَأْسَ لِوُجُودِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا قَالَ رحمه الله (وَالْمِزَاحِ) أَيْ يَجْتَنِبُ الْمِزَاحَ مُطْلَقًا مَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا أَوْ مَعَ غَيْرِهِمَا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَلَا يُكْثِرُ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِالْمَهَابَةِ فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمَا بِغَيْرِ مَا تَقَدَّمَا إلَيْهِ لِأَجْلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ حِشْمَةَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَإِذَا حَضَرَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ بَدَأَهُمَا بِالْكَلَامِ فَقَالَ مَا لَكُمَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا حَتَّى يَبْدَآهُ بِالْمَنْطِقِ وَهُوَ أَحْسَنُ كَيْ لَا يَكُونَ مُهَيِّجًا لِلْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُ قَعَدَ لِقَطْعِهَا وَإِذَا تَكَلَّمَ الْمُدَّعِي أَسْكَتَ الْآخَرَ وَاسْتَمَعَ حَتَّى يَفْهَمَ مَا يَقُولُ فَإِذَا فَرَغَ الدَّعْوَى أَمَرَهُ بِالسُّكُوتِ وَاسْتَنْطَقَ الْآخَرَ إذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ وَقِيلَ مِنْ غَيْرِ طَلَبِهِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا تَكَلَّمَا جُمْلَةً لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفَهْمِ هَذَا إذَا كَانَتْ دَعْوَاهُ صَحِيحَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً قَالَ لَهُ قُمْ فَصَحِّحْ دَعْوَاك لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بَعْدَ تَصْحِيحِ الدَّعْوَى فَإِذَا صَحَّتْ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَأَلَهُ الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ طَلَبَ الْمُدَّعِي يَمِينَهُ وَيُرَتِّبُ النَّاسَ فِي الْفَصْلِ عَلَى تَرْتِيبِ مَجِيئِهِمْ فَيَبْدَأُ بِالسَّابِقِ فَالسَّابِقِ وَيَجْعَلُ فِي ذَلِكَ أَمِينًا يُخْبِرُهُ، وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فِي زَحْمَةٍ بَلْ يَجْعَلُ الرِّجَالَ نَاحِيَةً وَالنِّسَاءَ نَاحِيَةً إلَّا إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دَعْوًى فَيَجْلِسَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقْتَ الدَّعْوَى.
قَالَ رحمه الله (وَتَلْقِينِ الشَّاهِدِ) أَيْ يَجْتَنِبُ تَلْقِينَ الشَّاهِدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَيُوهِمُ الْمَيْلَ إلَيْهِ فَيَكُونُ فِيهِ كَسْرُ قَلْبِ الْآخَرِ فَصَارَ كَتَلْقِينِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُحْصَرُ وَقَدْ يَقُولُ أَعْلَمُ مَكَانَ قَوْلِهِ أَشْهَدُ لِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ فَكَانَ فِي تَلْقِينِهِ إحْيَاءَ الْحَقِّ، وَلَا تُهْمَةَ فِي مِثْلِهِ فَكَانَ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ كَإِشْخَاصِ الْغَرِيمِ وَتَكْفِيلِهِ وَحَيْلُولَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ وَهَذَا نَوْعُ رُخْصَةٍ عِنْدَهُ رَجَعَ إلَيْهِ بَعْدَ مَا تَوَلَّى الْقَضَاءَ وَالْعَزِيمَةَ فِيمَا قَالَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ تُهْمَةٍ.
(فَصْلٌ فِي الْحَبْسِ)
وَلَمَّا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِسَبَبِ دَعَارَتِهِ، وَالْحَبْسُ يَصْلُحُ لِلْعُقُوبَةِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ وَجَعَلَهُ مِنْ جُمْلَتِهِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَبْسُ، وَأَمَّا السُّنَّةُ؛ فَلِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ وَحَبَسَ رَجُلًا آخَرَ مِنْ جُهَيْنَةَ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ» ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ؛ فَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَزَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لَمْ يَكُنْ سِجْنٌ وَكَانَ يُحْبَسُ فِي الْمَسْجِدِ وَالدِّهْلِيزِ وَبِالرُّبُطِ وَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ وَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا جُلُوسًا وَإِقْبَالًا) قَوْلُهُ وَإِقْبَالًا سَاقِطٌ فِي خَطِّ الشَّارِحِ، وَلَكِنْ ثَابِتٌ فِي نُسَخِ الْمَتْنِ، وَهُوَ مُلْحَقٌ لَا بُدَّ مِنْهُ (قَوْلُهُ الدَّنِيِّ) يَعْنِي الذِّمِّيَّ كَذَا فِي شَرْحِ الْعَيْنِيِّ (قَوْلُهُ وَإِشَارَتُهُ) أَيْ بِيَدِهِ أَوْ عَيْنِهِ أَوْ حَاجِبِهِ اهـ (قَوْلُهُ وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ) أَيْ كَمَا إذَا تَرَكَ الشَّاهِدُ لَفْظَ الشَّهَادَةِ مَثَلًا أَمَّا فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ، فَلَا كَمَا إذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَشُهِدَ الشَّاهِدُ بِأَلْفٍ فَلَقَّنَهُ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ فَتَلَقَّنَ الشَّاهِدُ ذَلِكَ وَوُفِّقَ. اهـ. .
[فَصْلٌ فِي الْحَبْسِ]
(فَصْلٌ فِي الْحَبْسِ)(قَوْلُهُ وَحَبَسَ رَجُلًا آخَرَ مِنْ جُهَيْنَةَ أَعْتَقَ شِقْصًا إلَخْ) لَعَلَّهُ يُشِيرُ إلَى مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُجْزَلٍ وَلَيْسَ بِصَحَابِيٍّ بَلْ تَابِعِيٌّ وَاسْمُهُ لَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ أَنَّ «عَبْدًا كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَحَبَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَاعَ غَنِيمَةً لَهُ» فَهُوَ مُرْسَلٌ وَيُمْكِنُ فِي وَجْهِ حَبْسِهِ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَزِمَهُ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ فَلَمْ يُعْطِهِ فَحَبَسَهُ حَتَّى بَاعَ غَنِيمَةً لَهُ وَدَفَعَ قِيمَةَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ اهـ.
عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَنَى السِّجْنَ وَكَانَ هُوَ أَوَّلَ مَنْ بَنَاهُ فِي الْإِسْلَامِ وَسَمَّى السِّجْنَ نَافِعًا وَلَمْ يَكُنْ حَصِينًا فَانْفَلَتَ النَّاسُ مِنْهُ وَبَنَى سِجْنًا آخَرَ وَسَمَّاهُ مُخَيَّسًا وَقَالَ فِيهِ شِعْرًا
أَلَا تَرَانِي كَيِّسًا مُكَيَّسَا
…
بَنَيْت بَعْدَ نَافِعٍ مُخَيَّسَا
قَالَ رحمه الله (وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ لِلْمُدَّعِي أَمَرَهُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ، فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ فِي الثَّمَنِ وَالْقَرْضِ وَالْمَهْرِ الْمُعَجَّلِ وَمَا الْتَزَمَهُ بِالْكَفَالَةِ) مَعْنَاهُ يَحْبِسُهُ فِي كُلِّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ أَوْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ إذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي حَبْسَهُ بَعْدَ إبَائِهِ مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِبَاءِ ظَهَرَ مَطْلُهُ وَبِالْمَالِ الَّذِي حَصَلَ فِي يَدِهِ أَوْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ بِاخْتِيَارِهِ ظَهَرَتْ قُدْرَتُهُ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِحُصُولِ الْمَالِ لَهُ وَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ بِالتَّقَلُّبِ فِيهِ، وَكَذَا لَا يَلْتَزِمُ الْإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ مَالًا يَقْدِرُ عَلَيْهِ عَادَةً فَإِذَا ظَهَرَ مَطْلُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَهُوَ ظُلْمٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ، ثُمَّ شَرَطَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله الْإِبَاءَ بَعْدَ أَمْرِهِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْهِدَايَةِ فَقَالَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ يَحْبِسُهُ كَمَا ثَبَتَ لِظُهُورِ الْمَطْلِ بِإِنْكَارِهِ، وَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يُعَجِّلْ بِحَبْسِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ كَوْنَهُ مُمَاطِلًا فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ؛ فَلَعَلَّهُ طَمِعَ فِي الْإِمْهَالِ فَلَمْ يَسْتَصْحِبْ الْمَالَ فَإِذَا امْتَنَعَ بَعْدَ ذَلِكَ حَبَسَهُ لِظُهُورِ مَطْلِهِ، وَمِثْلُهُ حُكِيَ عَنْ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ وَالْمَحْكِيُّ عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ عَكْسُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ يَعْتَذِرُ فَيَقُولُ مَا عَلِمْتُ أَنَّ لَهُ عَلَيَّ دَيْنًا إلَّا السَّاعَةَ فَإِذَا عَلِمْتُ قَضَيْت، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ وَالْأَحْسَنُ مَا ذَكَرَهُ هُنَا فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْإِيفَاءِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُوَفِّيَ فَلَمْ يُعَجِّلْ بِحَبْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ حَالُهُ بِالْأَمْرِ وَالْمُطَالَبَةِ بِذَلِكَ وَالصَّوَابُ لَا يَحْبِسُهُ فِيمَا إذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ حَتَّى يَسْأَلَهُ، فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّ لَهُ مَالًا أَمَرَهُ بِالدَّفْعِ، فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ لِظُهُورِ مَطْلِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْمَالَ وَالْمُدَّعِي يَقُولُ لَهُ مَالٌ فَالْقَاضِي يَقُولُ لِلْمُدَّعِي أَلَكَ بَيِّنَةٌ أَنَّ لَهُ مَالًا؟
فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ مَالًا أَمَرَهُ بِالدَّفْعِ، فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْبَيِّنَةِ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَنَّ لَهُ مَالًا وَهُوَ يُنْكِرُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعِي فِيمَا ذُكِرَ فِي الْمُخْتَصَرِ مِنْ الدُّيُونِ وَهُوَ كُلُّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ أَوْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ فَيَحْبِسُهُ بِهِ لِمَا ذَكَرْنَا قَالَ رحمه الله (لَا فِي غَيْرِهِ إنْ ادَّعَى الْفَقْرَ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ غَرِيمُهُ غِنَاهُ فَيَحْبِسُهُ بِمَا رَأَى) أَيْ لَا يَحْبِسُهُ فِي غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدُّيُونِ، وَذَلِكَ مِثْلُ أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَدُيُونِ النَّفَقَاتِ وَضَمَانِ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِبَدَلِ مَالٍ، وَلَا مُلْتَزَمٍ بِعَقْدٍ إنْ ادَّعَى الْفَقْرَ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ الْمُدَّعِي الْمَالَ بِالْبَيِّنَةِ فَحِينَئِذٍ يَحْبِسُهُ بِقَدْرِ مَا يَرَى؛ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ إذْ الْأَصْلُ أَنَّ الْآدَمِيَّ يُولَدُ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ وَالْمُدَّعِيَ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا فَكَانَ الْقَوْلُ لِصَاحِبِهِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يُكَذِّبْهُ الظَّاهِرُ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ لَهُ مَالًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِيهِ حَصَلَ فِي يَدِهِ، وَلَا يَلْتَزِمُ الْإِنْسَانُ عَادَةً مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَظَهَرَ غِنَاهُ بِذَلِكَ وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ الْمُعَجَّلِ الَّذِي يُحْبَسُ فِيهِ مَا تُعُورِفَ تَعْجِيلُهُ وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ لَا يُحْبَسُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ جَرَى فِيهِ التَّسَامُحُ بِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، وَإِنْ كَانَ حَالًّا، فَلَا يَدُلُّ دُخُولُهُ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَاخْتَارَ الْخَصَّافُ أَنَّ الْقَوْلَ لِلْمَدِينِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْعُسْرَةُ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي عَارِضًا، فَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَصْحَابِنَا وَاخْتَارَ أَبُو عُبَد اللَّهِ الثَّلْجِيُّ أَنَّ كُلَّ دَيْنٍ أَصْلُهُ مَالٌ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ مُخَيَّسًا) ذَكَرَهُ فِي الْمُغْرِبِ فِي بَابِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مَعَ الْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ اهـ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَخَيَّسَهُ تَخْيِيسًا أَيْ ذَلَّلَهُ وَمِنْهُ الْمُخَيَّسُ، وَهُوَ اسْمُ سِجْنٍ كَانَ بِالْعِرَاقِ أَيْ مَوْضِعُ التَّذْلِيلِ وَكُلُّ سِجْنٍ مُخَيِّسٌ وَمُخَيَّسٌ أَيْضًا اهـ (قَوْلُهُ وَقَالَ فِيهِ شِعْرًا) أَيْ عَلِيٌّ رضي الله عنه اهـ (قَوْلُهُ فِي الشِّعْرِ أَلَا تَرَانِي إلَخْ) أَنْشَدَهُ فِي الصِّحَاحِ
أَمَا تَرَانِي فِي مَوْضِعَيْنِ فِي (خيس) وَ (كيس)
وَلَمْ يَعْزُهُ لِأَحَدٍ. اهـ. (قَوْلُهُ فِي الشِّعْرِ أَيْضًا مُكَيَّسًا) قَالَ فِي الْمُغْرِبِ فِي الْكَافِ مَعَ الْيَاءِ الْكَيْسُ الظُّرْفُ وَحُسْنُ التَّأَتِّي فِي الْأُمُورِ وَرَجُلٌ كَيِّسٌ مِنْ قَوْمٍ أَكْيَاسٍ وَالْمُكَيَّسُ الْمَنْسُوبُ إلَى الْكِيَاسَةِ اهـ وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ وَالرَّجُلُ كَيِّسٌ مُكَيَّسٌ أَيْ ظَرِيفٌ (قَوْلُهُ فِي الشِّعْرِ أَيْضًا
بَنَيْت بَعْدَ نَافِعٍ مُخَيَّسًا)
بَعْدَ هَذَا كَلَامٌ لَيْسَ فِي خَطِّ الشَّارِحِ، وَهُوَ
بَابًا حَصِينًا وَأَمِينًا كَيِّسًا
اهـ قَوْلُهُ وَأَمِينًا أَيْ وَنَصَبْت أَمِينًا يَعْنِي السَّجَّانَ اهـ.
(قَوْلُهُ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ،) أَيْ لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالدَّيْنِ وَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى أَحْوَجَهُ إلَى شَكْوَاهُ. اهـ. (قَوْلُهُ حَتَّى يَسْأَلَهُ) أَيْ يَسْأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَلَكَ مَالٌ؟ اهـ.
(قَوْلُهُ وَدُيُونِ النَّفَقَاتِ) أَيْ لَا يُحْبَسُ فِي دُيُونِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ إنْ ادَّعَى الْفَقْرَ وَالْمُرَادُ النَّفَقَةُ الْمَقْضِيُّ بِهَا أَوْ الَّتِي تَرَاضَيَا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَصِيرُ دَيْنًا إلَّا بِذَلِكَ وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إنْ ادَّعَى الْفَقْرَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَدَّعِ الْفَقْرَ يُحْبَسُ كَمَا لَوْ أَثْبَتَ غَرِيمُهُ غِنَاهُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَتْنِ أَمَّا النَّفَقَةُ الْمَاضِيَةُ مِنْ غَيْرِ فَرْضٍ وَتَقْدِيرٍ فَلَا حَبْسَ فِيهَا مُطْلَقًا نَعَمْ يُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ الْحَاضِرَةِ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا كَمَا سَيَجِيءُ مَتْنًا وَشَرْحًا فَإِنْ قُلْتُ: قَوْلُ الشَّارِحِ فِيمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَإِنْ لَمْ تَسْقُطْ بِأَنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِهَا أَوْ اصْطَلَحَ الزَّوْجَانِ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِبَدَلٍ عَنْ مَالٍ وَلَا لَزِمَتْهُ بِعَقْدٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَا يُحْبَسُ فِي النَّفَقَةِ الَّتِي قُضِيَ بِهَا أَوْ تَرَاضَيَا عَلَيْهَا قُلْتُ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا ادَّعَى الْفَقْرَ تَوْفِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ هُنَا إذْ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ وَفُهِمَ عَلَى إطْلَاقِهِ مِنْ عَدَمِ الْحَبْسِ لَنَاقَضَ قَوْلَهُ لَا فِي غَيْرِهِ إنْ ادَّعَى الْفَقْرَ، وَقَدْ قَالَ فِي الظَّهِيرِيَّةِ وَإِذَا فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ وَلَمْ يُعْطِهَا وَقَدَّمَتْهُ إلَى الْقَاضِي مِرَارًا وَلَمْ يَنْجَعْ نُصْحُ الْقَاضِي فِيهِ؛ حَبَسَهُ اهـ فَهَذَا كَمَا تَرَى صَرِيحٌ فِي الْحَبْسِ فِي الْمَقْضِيِّ بِهَا لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَدَّعِ الْفَقْرَ أَوْ ادَّعَاهُ وَعَلِمَ الْقَاضِي يَسَارَهُ وَقَالَ الْإِمَامُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْكِفَايَةِ امْتَنَعَ عَنْ النَّفَقَةِ بَعْدَ الْفَرْضِ لَمْ يَحْبِسْهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ يُخْبِرُهُ بِالْحَبْسِ إنْ لَمْ يَدْفَعْ اهـ كَذَا بِخَطِّ الشَّيْخِ الشِّلْبِيِّ (قَوْلُهُ الثَّلْجِيُّ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ صَاحِبُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ. اهـ. .
فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ مَالٌ وَعُرِفَتْ قُدْرَتُهُ بِذَلِكَ وَالْمُنْكِرُ يَدَّعِي خِلَافَ ذَلِكَ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَكُلُّ دَيْنٍ لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ مَالًا كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ شَيْءٌ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يُعْرَفْ غِنَاهُ فَكَانَ مُتَمَسَّكًا بِالْأَصْلِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَا كَانَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا فِي نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ وَنَحْوِهِ وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كُلُّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بِمُعَاقَدَتِهِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُدَّعِي إذْ لَا يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ادَّعَتْ أَنَّ الزَّوْجَ مُوسِرٌ وَطَلَبَتْ نَفَقَةَ الْمُوسِرَاتِ وَادَّعَى هُوَ الْفَقْرَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ تَخْرُجَانِ عَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا، وَلَا تُخَالِفَانِ شَيْئًا مِنْهَا فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِمَا قَوْلَ الْمُنْكِرِ بِاتِّفَاقِ الْأَقَاوِيلِ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَلْخِيّ يَحْكُمُ الزِّيُّ فَإِذَا كَانَتْ هَيْئَتُهُ هَيْئَةَ الْفُقَرَاءِ يَعْنِي الْمَدِينَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَإِنْ كَانَتْ هَيْئَتُهُ هَيْئَةَ الْأَغْنِيَاءِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعِي إلَّا إذَا كَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْأَشْرَافِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّفُونَ فِي اللُّبْسِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى غِنَاهُمْ وَقَوْلُهُ يَحْبِسُهُ بِمَا رَأَى أَيْ يَحْبِسُهُ قَدْرَ مَا يَرَى يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعِي أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الْمُدَّعِيَ أَثْبَتَ الْمَالَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ بِإِقْرَارِهِ وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِحَبْسِهِ مُدَّةً مُقَدَّرَةً وَإِنَّمَا هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي يَحْبِسُهُ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَأَظْهَرَهُ وَلَمْ يَصْبِر عَلَى مُقَاسَاتِهِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّخْصِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْمَالِ، فَلَا مَعْنَى لِتَقْدِيرِهِ وَمَا جَاءَ فِيهِ مِنْ التَّقْدِيرِ بِشَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ اتِّفَاقِيٌّ وَلَيْسَ بِتَقْدِيرٍ حَتْمًا.
قَالَ رحمه الله (ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ) أَيْ الْقَاضِي يَسْأَلُ عَنْ الْمَحْبُوسِ بَعْدَ مَا حَبَسَهُ قَدْرَ مَا يَرَاهُ فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى إعْسَارِهِ أَخْرَجَهُ مِنْ الْحَبْسِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَالْعَدْلُ الْوَاحِدُ يَكْفِي فِي هَذَا وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ وَكَيْفِيَّتُهُ أَنْ يَقُولَ الشَّاهِدُ إنَّ حَالَ الْمُعْسِرِينَ فِي نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ وَحَالُهُ ضَيِّقَةٌ وَقَدْ اخْتَبَرْنَا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله هَذَا السُّؤَالُ مِنْ الْقَاضِي عَنْ حَالِ الْمَدْيُونِ بَعْدَ مَا حَبَسَهُ احْتِيَاطٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْإِعْسَارِ شَهَادَةٌ بِالنَّفْيِ وَالشَّهَادَةُ بِالنَّفْيِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فَكَانَ لِلْقَاضِي أَنْ لَا يَسْأَلَ وَيَعْمَلَ بِرَأْيِهِ، وَلَكِنْ لَوْ سَأَلَ مَعَ هَذَا كَانَ أَحْوَطَ قَالَ رحمه الله (فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ خَلَّاهُ) لِأَنَّ عُسْرَتَهُ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ وَاسْتَحَقَّ النَّظْرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] فَحَبْسُهُ بَعْدَهُ يَكُونُ ظُلْمًا قَالَ رحمه الله (وَلَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ) أَيْ لَا يَمْنَعُهُمْ عَنْ مُلَازَمَتِهِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ يَمْنَعُهُمْ لِأَنَّهُ مُنْتَظَرٌ بِإِنْظَارِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الْمَيْسَرَةِ، فَلَوْ كَانَ مُنْتَظَرًا بِإِنْظَارِهِمْ بِأَنْ ضَرَبُوا لَهُ الْأَجَلَ لَا يَكُونُ لَهُمْ حَقُّ الْمُلَازَمَةِ قَبْلَ الْأَجَلِ فَكَذَا بِإِنْظَارِهِ تَعَالَى بَلْ أَوْلَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ مُنْتَظَرٌ إلَى زَمَانِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِيفَاءِ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَيُلَازِمُونَهُ كَيْ لَا يُخْفِيَهُ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكْسِبُ فَوْقَ حَاجَتِهِ الدَّارَّةَ فَيَأْخُذُونَ مِنْهُ فَضْلَ كَسْبِهِ بِخِلَافِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الْغَرِيمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ لِأَنَّهُ مُؤَخَّرٌ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ نَفْسُ الدَّيْنِ حَالٌّ وَذِمَّتُهُ مَشْغُولَةٌ، وَلَكِنْ لَا يُطَالَبَ لِعُسْرَتِهِ، وَزَوَالُ الْعُسْرَةِ مُتَوَقَّعٌ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ فَيُلَازِمُونَهُ قَالَ رحمه الله (وَرَدُّ الْبَيِّنَةِ عَلَى إفْلَاسِهِ قَبْلَ حَبْسِهِ) لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى النَّفْيِ فَلَمْ تُقْبَلْ مَا لَمْ تَتَأَيَّدْ بِمُؤَيِّدٍ وَهُوَ الْحَبْسُ وَبَعْدَهُ تُقْبَلُ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهَا تُقْبَلُ وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ وَنُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى وَكَافَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى الْأَوَّلِ قَالَ رحمه الله (وَبَيِّنَةُ الْيَسَارِ أَحَقُّ) يَعْنِي إذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْيَسَارِ وَأَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْإِعْسَارِ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْيَسَارِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْيَسَارَ عَارِضٌ وَالْبَيِّنَةُ لِلْإِثْبَاتِ.
قَالَ رحمه الله (وَأَبَّدَ حَبْسَ الْمُوسِرِ) لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الظُّلْمِ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ إيفَاءِ الْحَقِّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ خَلَّدَهُ فِي الْحَبْسِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَجُلٌ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِدَيْنٍ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ، ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أَبَّدَ حَبْسَهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا خَلَّى سَبِيلَهُ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ جَاحِدًا فَأَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي وَظَهَرَ لِلْقَاضِي جُحُودُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ وَمُمَاطَلَتِهِ أَوْ ظَهَرَ لَهُ مُمَاطَلَتُهُ بَعْدَ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .