الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة محمّد صلى الله عليه وسلم
سورة محمّد مدنيّة، وهي ألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفا، وخمسمائة وتسع وثلاثون كلمة، وثمان وثلاثون آية.
قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: [من قرأ سورة محمّد كان حقّا على الله تعالى أن يسقيه من أنهار الجنّة]
(1)
.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ} (1)؛معناه:
الذين كفروا بتوحيد الله وصدّوا الناس عن الإسلام، يعني كفار مكّة أضلّ أعمالهم؛ أي أبطلها وأذهبها فلا أجر لهم فيها وكأنّها لم تكن، وأراد بأعمالهم إطعامهم الطعام وصلتهم الأرحام.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ؛} أي صدّقوا بالقرآن الذي نزل على محمّد، {وَهُوَ الْحَقُّ؛} أي الصدق، {مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ؛} أي غفرها لهم فلا يحاسبون عليها، {وَأَصْلَحَ بالَهُمْ} (2)؛أي حالهم، قال المبرّد:(البال: الحال).وقال ابن عبّاس: (عصمهم أيّام حياتهم حتّى لم يمنعوا)
(2)
.
(1)
ذكره الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 322.وأخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبي بن كعب.
(2)
ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 1194 بلفظ: (حتّى لا يعصوا).
وقيل: معناه: وأظهرهم على أعدائهم وقوّاهم من ضعفهم، قال ابن عبّاس رضي الله عنه:(الّذين كفروا صدّوا عن سبيل الله أهل مكّة، والّذين آمنوا وعملوا الصّالحات للأنصار)
(1)
.
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ؛} أي ذلك الإضلال والإصلاح باتّباع الذين كفروا الشّرك، {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ،} واتّباع المؤمنين التوحيد والقرآن، فالشّرك هو الباطل، والتوحيد هو الحقّ والقرآن.
قوله تعالى: {كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنّاسِ أَمْثالَهُمْ} (3)؛معنى أنّ من كان كافرا أضلّ الله عمله، ومن كان مؤمنا كفّر الله سيّئاته وأصلح باله.
وقوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ؛} أي إذا لقيتموهم في القتال فاضربوا رقابهم؛ أي اقتلوهم، والمعنى: فاضربوا الرقاب ضربا، وهذا مصدر أقيم مقام الأمر، كما في قوله {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
(2)
،وقيل: انتصب قوله (فضرب) على الإغراء.
قوله تعالى: {حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ؛} أي حتى إذا أكثرتم القتل فيهم وغلبتموهم وبالغتم في قتلهم فاستوثقوهم بالأسر، ولا يكون الأسر إلاّ بعد المبالغة في القتل، كما قال الله {ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}
(3)
،والمعنى حتى إذا قهرتموهم وغلبتموهم وصاروا أسارى في أيديكم فشدّوا وثاقهم كيلا يهربوا، يقال: أوثقه أي إيثاقا ووثاقا إذا شدّ أسره لئلاّ يفلت.
قوله تعالى: {فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها؛} معناه:
فإما أن تمنّوا عليهم بعد أن تأسروهم وتطلقوهم بغير فداء، وإما تطلقوهم يفدون
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (24245).وفي الدر المنثور: ج 7 ص 457؛ قال السيوطي: (أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه).وأخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب التفسير: الحديث (3755)،قال:(وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه).
(2)
البقرة 92/.
(3)
الأنفال 67/.
بأسراكم عندهم أو بمال، والمعنى: فإمّا بعد أن تأسروهم إما مننتم عليهم منّا فأطلقتموهم بغير عوض، وإما أن تفدوا فداء.
وعن ابن عبّاس قال: (هذه الآية منسوخة بقوله {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
(1)
).وإليه ذهب أبو حنيفة وقال: (لا يجوز المنّ على الأسير ولا الفداء بالمال ولا بغير المال من الأسارى، ولا يباع السّبي من أهل الحرب)
(2)
.
ولم يختلف أهل التفسير في أنّ التوبة نزلت بعد سورة محمّد صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف بين العلماء في جواز قتل الأسير وجواز قسمة الأسارى بين المسلمين إذا لم يكن الأسارى من العرب، وإنما اختلفوا في جواز المنّ عليهم في مفاداتهم بالمال أو النفس.
قال الشافعيّ: (يجوز المنّ عليهم لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم منّ على أبي عزّة الشّاعر يوم بدر على أن لا يقاتل، فرجع إلى مكّة ثمّ عاد بعد ذلك للقتال فأسر، فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقتله)
(3)
.فأجاب أصحابنا عن هذا إنّما منّ عليه كما منّ العرب، وكان لا يجوز استرقاقه، وقال أبو يوسف ومحمّد:(تجوز مفاداة الأسير)(4).
قوله تعالى: {(حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها)} أي حتى يضع أهل الحرب أسلحتهم، والأوزار في اللغة: الأثقال، وقيل: المراد بالأوزار هنا الآثام، وقال ابن عبّاس:(معنى قوله {(حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها)} أي حتّى لا يبقى أحد من
(1)
ليس هذا الرأي على إعمامه، فهو خاصّ بالعرب، قال التهنوي:(فإنا لا نجيز استرقاق مشركي العرب، وهم المرادون بقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فهم الذين ضرب الله لهم الأجل، أجلهم أربعة أشهر بقوله: (براءة) ثم أمر بقتلهم بعد انسلاخ أربعة أشهر، ولم يرخّص في المنّ عليهم ولا المفاداة بهم، ولا في استرقاقهم).ينظر: إعلاء السنن: مج 7 ج 12 ص 110 - 111.
(2)
ينظر: كتاب الأم للشافعي: كتاب اختلاف الحديث: ج 8 ص 494:باب قتل الأسرى والمفاداة بهم والمن عليهم.
(3)
في إعلاء السنن: مج 7 ج 12 ص 114؛قال التهانوي: (وقال أبو يوسف: تجوز المفاداة بالأسرى قبل القسمة لا بعدها. وعند محمد تجوز بكل حال).
المشركين).وقال مجاهد: (حتّى لا يكون دين إلاّ الإسلام)
(1)
.
وقيل: حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا فلا يبقى دين غير الإسلام، ولا يعبد وثن. وقال الفرّاء:(معناه: حتّى لا يبقى إلاّ مسلم أو مسالم)
(2)
.
وقيل: معناه: حتى تضع أهل الحرب آلتها وعدّتها، وآلتهم أسلحتهم فيمسكوا عن الحرب، وحرب القوم المحاربون كالرّكب والشّرب، ويقال أيضا للكراع: أوزار، قال الشاعر وهو الأعشى:
وأعددت للحرب أوزارها
…
رماحا طوالا وخيلا ذكورا
ومعنى الآية: أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يظهر الإسلام على الأديان كلّها، ويدخل فيه أهل مكّة طوعا وكرها، ويكون الدّين كلّه لله، فلا يحتاج إلى قتال ولا إلى جهاد، وذلك عند نزول عيسى عليه السلام من السّماء فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، يلقى الذئب الشاة فلا يتعرّض، ولا تكون عداوة بين اثنين.
قوله تعالى: {ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ؛} أي ذلك الذي أمرتم به من الجهاد
(3)
،ولو يشاء الله لانتقم منهم؛ أي من الكفّار من غير أن يأمركم بقتالهم، المعنى: ولو يشاء الله لانتصر من الكفّار بإهلاكهم، ويعذّبهم بما شاء، {وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ؛} ولكن يأمركم بالحرب ليبلو بعضكم بعضا، قال ابن عبّاس:(يريد من قتل من المؤمنين صار إلى الثّواب، ومن قتل من المشركين صار إلى العذاب)،يعني: ولكن ليتعبّدكم بالقتال تعويضا للثواب.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ} (4)؛قرأ العامّة «(والّذين قاتلوا في سبيل الله)» وقرأ أبو عمرو «(قتلوا)» بضمّ القاف وكسر التاء مخفّفا، وقرأ الحسن بضمّ القاف وكسر التاء مشدّدا، وقرأ عاصم والجحدريّ:«(قتلوا)»
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (24262).
(2)
قاله الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 57.
(3)
في المخطوط: (الجهات) والصحيح: (الجهاد)؛لأن سياق النص يقتضيه.
بفتح القاف والتاء، والوجه قراءة العامّة لأنّها تشمل من قاتل قتل أو لم يقتل، وقراءة أبي عمرو تخصّ المقتولين، ولأنّه تعالى قال {(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ)} قال ابن عباس:
(سيهديهم إلى أرشد الأمور، ويعصمهم أيّام حياتهم في الدّنيا)،وهذا لا يحسن في وصف المقتولين.
ومعنى الآية: والذين قتلوا في سبيل الله يوم بدر فلن يبطل الله ثواب أعمالهم كما أبطل ثواب أعمال الكفّار؛ و {سَيَهْدِيهِمْ؛} إلى ثوابه وجنّته، {وَيُصْلِحُ بالَهُمْ} (5)؛في النّعيم.
قوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ} (6)؛أي بيّنها لهم حتى عرفوها من غير استدلال، وذلك أنّهم إذا دخلوا الجنة تعرّفوا إلى منازلهم. وقيل:
معناه: طيّبها لهم من العرف وهي الرائحة الطيّبة، وطعام معرّف؛ أي مطيّب.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ؛} أي إن تنصروا دين الله ونبيّه صلى الله عليه وسلم ينصركم بالتوفيق والكفاية والإظهار على الأعداء، {وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ} (7)؛عند القتال بتقوية قلوبكم،
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ؛} أي فمكروها لهم وسوءا، والتّعس في اللغة: الانحطاط والعثور، يقال: تعس يتعس إذا انكبّ وعثر، قال ابن عبّاس:(يريد: في الدّنيا العثرة، وفي الآخرة التّردّي في النّار).
وانتصب قوله (فتعسا لهم) على الدّعاء؛ أي أتعسهم الله تعسا، قال الفرّاء:
(هو نصب على المصدر)،وأصل التّعس في الدواب والناس، وهو أن يقال للعاثر:
تعسا؛ إذا لم يريدوا قيامه، وضدّه لعّا إذا أرادوا قيامه
(1)
.
قوله تعالى: {وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ} (8)؛أي أبطلها وأحبطها لأنّها كانت في طاعة الشيطان.
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ؛} أي ذلك التّعس والإضلال بأنّهم كرهوا ما أنزل الله على نبيّه صلى الله عليه وسلم وبيّن من الفرائض من الصّلاة والزكاة، {فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ} (9)؛لأنّها لم تكن في إيمان.
(1)
ل ع ا: يقال للعاثر: (لعّا) لك، وهو دعاء له بأن ينتعش. ونقله أيضا البغوي في معالم التنزيل: ص 1169.
قوله تعالى: {*أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ؛} يعني أهل مكّة، {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؛} من الأمم المكذّبة، {دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ؛} منازلهم وأهلكهم بالعذاب، والتدمير: الهلاك، ثم يوعد مشركي مكّة فقال:
{وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها} (10)؛أن لم يؤمنوا؛ أي أمثال عقوبتهم وأشباه عقوبات من كان قبلهم.
وقوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا؛} أي ذلك النّصر للمؤمنين والهلاك للكافرين بأنّ الله وليّ الذين آمنوا يلي أمرهم ويتولّى نصرهم، {وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ} (11)؛أي ليس لهم وليّ يعينهم ولا ناصر ينجيهم من العذاب.
قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ؛} ظاهر المعنى، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ؛} في الدّنيا، {وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ؛} تأكل وتشرب ولا تدري ما في غد، كذلك الكفار لا يلتفتون إلى الآخرة، {وَالنّارُ مَثْوىً لَهُمْ} (12)؛أي منزلهم ومقامهم ومصيرهم.
وأراد بالتمتّع التعيّش في الدنيا في الجهل، وشبّه أكل الكافر بأكل الأنعام لأنّهم يأكلون للشّبع لا يهمّهم ما في غد، والمؤمن همّته مصروفة إلى أمر دينه يأكل للقيام بعبادة الله لا للشّبع، ويكون قصده من التّمتّع إعفاف نفسه وزوجته، وابتغاء ما كتب من الولد.
وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ما ملأ ابن آدم وعاء شرّا من بطنه، فإن كان لا بدّ: فثلثا للطّعام وثلثا للشّراب وثلثا للنّفس]
(1)
.وقال الحسن: (وهو أنّكم إذا أشبعتم عصيتم شئتم أو أبيتم).
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 20 ص 224:الحديث (644 و 645) وإسناده صحيح. وأخرجه ابن حبان في الإحسان: كتاب الرقائق: الحديث (674)،وكتاب الأطعمة: الحديث (5236) وإسناده صحيح.
قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ؛} هذا تحذير لأهل مكّة بقوله: كم أهلكنا من أهل قرية من كان أكثر عددا وأبسط ملكا ويدا من أهل قريتك؛ يعني مكّة التي أخرجتك أهلها، {فَلا ناصِرَ لَهُمْ} (13)؛فلم يكن لهم ناصر ينجيهم من عذاب الله، فحذّر قومك يا محمّد مثل حالتهم.
قوله تعالى: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ؛} معناه: حال من كان على نصره من ربه ويقين كحال من زيّن له قبح عمله فيعبدوا الأوثان، {وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ} (14)؛في عبادتها.
قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ؛} أي صفة الجنّة التي وعد المتّقون الشرك والكبائر، {فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ؛} أي متغيّر طعمه وريحه، يقال: آسن الماء يأسن أسونا وأسنا إذا تغيّر، وهو الذي لا يشتهيه من نتنه فهو آسن وأسن، مثل حاذر وحذر. وقيل: إن الآسن ما يعرض أن يتغيّر، والأسن بالقصر: ما تغيّر في الحال، وقرأ ابن كثير «(أسن)» بالقصر
(1)
.
قوله تعالى: {وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ؛} أي لم يحمض كما تحمض وتتغيّر ألبان الدّنيا؛ لأنه لم يخرج من ضروع الأنعام، {وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ؛} بخلاف خمر الدّنيا؛ فإنّها لا تخلو من المرارة، وعن ما يحدث فيها من أنواع المرض ومن العقوبة في الدّنيا والآخرة.
قوله تعالى: {وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى؛} أي مصفّى من الأقذار، من العكر والكدر، بخلاف عسل الدّنيا الذي يكون من بطون النّحل، فإنه لا يخلو من الشّعر وغيره. قال مقاتل:(أنهار الجنّة المذكورة تتفجّر من الكوثر إلى الجنّة)
(2)
.
ويقال: إنّها تتفجر من تحت شجرة طوبى.
(1)
أسن: بزنة حذر، وهو اسم فاعل من أسن بالكسر يأسن، فهو أسن، كحذر يحذر فهو حذر. ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 16 ص 236.واللباب في علوم الكتاب: ج 17 ص 442.
(2)
قاله مقاتل في التفسير: ج 3 ص 237.
قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ؛} أي ولهم في الجنّة من جميع أنواع الثّمرات والفواكه مما علموه وما لم يعلموه، ومما سمعوه وما لم يسمعوه، ظاهرها مثل باطنها، لا يخالطها قشر ولا رذال
(1)
ولا نوى.
قوله تعالى: {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ؛} أي ولهم مع ذلك النعيم المقيم مغفرة من ربهم لذنوبهم، فلا يذكر شيء من معارضيهم في الجنّة؛ لأنّ الله تعالى قد سترها عليهم فهي بمنزلة ما لم يعمل، {كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ} (15)؛أي من كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار {(وَسُقُوا ماءً حَمِيماً)} شديد الحرّ تستعر عليه جهنّم منذ خلقت {(فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ)} في الجوف من شدّة الحرّ، والأمعاء: جميع ما في البطن من الحوايا، واحدها معاء، كما قال تعالى في آية أخرى:{يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ}
(2)
.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إذا شربه صاحبه قطّع أمعاءه حتّى يخرج من دبره]
(3)
.وعن محمّد بن عبد الله الكاتب قال: قدمت من مكّة، فلمّا صرت إلى طيزناباذ ذكرت بيت أبي نؤاس
(4)
:
بطيزناباذ كرم ما مررت به
…
إلاّ تعجّبت ممّن شرب الماء
فهتف به هاتف أسمعه ولا أراه:
في الجحيم حميم ما تجرّعه خل
…
ق إلاّ ما بقي له بطن أمعاء
(1)
في لسان العرب: ج 5 ص 199؛قال ابن منظور: (ورذالة كلّ شيء أردؤه).
(2)
الحج 20/.
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 265.والطبري في جامع البيان: الحديث (24283). والطبراني في المعجم الكبير: الحديث (7460).والترمذي في الجامع: أبواب صفة جهنم: الحديث (2583)،وقال:(هذا حديث غريب).
(4)
قال أبو نؤاس:
فتكتني ظيزنابا ذو قد كنت تقيّا
إذ تركت الماء فيها وشربت الخسرويّا
أرض كرم تجلب الدّ هر شرابا سابريّا
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً؛} وذلك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خطب يوم الجمعة وعاب المنافقين في خطبته، فلمّا خرجوا من المسجد قالوا لعبد الله بن مسعود: ماذا قال محمّد على المنبر السّاعة؟ فقد سمعنا قوله ولم نفهمه، كأنّهم كانوا يسمعون سماع تهاون واستخفاف
(1)
.
والآنف: السّاعة؛ من قولك: استأنفت الشّيء إذا ابتدأته، والمعنى: ومن هؤلاء الكفّار من يستمع إليك: المنافقون يستمعون قولك فلا يعونه ولا يفهمونه تهاونا منهم بذلك وتثاقلا، فإذا خرجوا قالوا للّذين أوتوا العلم من الصحابة: ماذا قال محمّد الآن، وذلك أنّهم سألوا ابن مسعود وابن عبّاس عمّا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم استهزاء وتهاونا، وهذا كالرجل يستمع إلى غير سماع استخفافا، ثم يقول بعد ذلك لأصحابه: أليس الذي كان يقول فلان.
قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ؛} أي ختم عليها بالكفر فلا يعقلون الإيمان، والطبع هو الختم على القلب بسمة تعلمها الملائكة بأنّه جاحد لا يفلح أبدا، {وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ} (16)؛في الكفر والنّفاق.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ} (17)؛ أي والذين اهتدوا بالإيمان بك والاستماع الى خطبتك زادهم الله بصيرة في دينهم، وألهمهم ترك المعاصي واجتناب المحارم. ويجوز أن يكون زادهم إعراض المنافقين هدى، وأعطاهم الله ثواب تقواهم في الآخرة.
قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً؛} أي ما ينتظر هؤلاء الكفار والمنافقون إلاّ أن تأتيهم الساعة فجأة على غرّة منهم، {فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها؛} أي علاماتها، ومن أشراطها خروج نبيّنا صلى الله عليه وسلم، فإنّها تأتيهم بغتة في آخر
(1)
قاله مقاتل في التفسير: ج 3 ص 237.ونقل القرطبي أيضا عن مقاتل والكلبي كما في الجامع لأحكام القرآن: ج 16 ص 238.
الزمان
(1)
،قال صلى الله عليه وسلم:[بعثت أنا والسّاعة كهاتين]
(2)
،ومن أشراطها أيضا بيع الحكم وقطيعة الرّحم.
قوله تعالى: {فَأَنّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ} (18)؛أي من أين لهم التوبة؟ ومن أين لهم أن يتذكّروا أو يتوبوا إذا جاءتهم الساعة حين لا ينفعهم ذلك.
قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ؛} الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والمراد به غيره. والمعنى: إذا جاءتهم الساعة فاعلم أنّه لا قاضي حينئذ إلاّ الله، ولا مخرج يومئذ إلاّ إليه، والنبيّ صلى الله عليه وسلم قد كان علم ذلك، ولكن هذا خطاب يدخل فيه الناس.
والمعنى: من علم أن لا إله إلاّ الله فليقم على العلم ويثبت عليه. قوله تعالى:
{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ؛} أي استعصم من مواقعة ذنب يوجب الاستغفار.
ويقال: معناه: استغفر لصغائرك؛ فإنه لا صغيرة مع الإصرار، {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ،} واستغفر لذنوب المؤمنين والمؤمنات، وهذا إكرام من الله لهذه الأمة حين أمر نبيّهم أن يستغفر لهم وهو الشفيع المجاب فيهم.
وقوله تعالى: {وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ} (19)؛أي متصرّفاتكم في الدّنيا من أوّل ما ينقلبون من ظهر إلى بطن إلى أن تخرجوا من دنياكم إلى قبوركم، ويعلم أين مثواكم في الآخرة، قال عكرمة:(معناه: والله يعلم متقلّبكم من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمّهات، ومثواكم مقامكم في الأرض)
(3)
.وقال مقاتل: (والله يعلم منتشركم بالنّهار ومأواكم باللّيل)
(4)
.والمعنى: إنّه عالم بجميع أحوالكم، لا يخفى عليه شيء منها.
(1)
في المخطوط: (فإن بغتة آخر الزمان).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 222 و 278.والبخاري في الصحيح: كتاب الرقاق: الحديث (6504).ومسلم في الصحيح: كتاب الفتن: باب قرب الساعة: الحديث (2951/ 134).
(3)
ذكره أيضا البغوي في معالم التنزيل: ص 1198.
(4)
قاله مقاتل في التفسير: ج 3 ص 238.
قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ؛} قال ابن عبّاس:
(إنّ المؤمنين سألوا ربّهم أن ينزل سورة فيها ثواب القتال في سبيل الله).وقيل: إنّ المؤمنين كانوا يشتاقون إلى تواتر نزول القرآن، وكانوا يستوحشون إذا أبطأ الوحي، وهو قولهم {(لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ)} أي هلاّ نزّلت سورة، يقول الله تعالى:{فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ؛} أي بالأحكام التي لا يجري عليها النسخ، يعني لا ينسخ منها شيء، قال قتادة:(كلّ سورة يذكر فيها الجهاد فهي محكمة وهي أشدّ السّور على المنافقين)
(1)
.
والمعنى: أنّ المؤمنين قالوا: هلاّ أنزلت سورة تأمرنا بالجهاد، قال الله تعالى:
(فإذا أنزلت سورة محكمة){وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ؛} أي إيجاب القتال، {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ؛} وهم المنافقون، {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ؛} عند ذكر القتال كنظر الذي هو في غشيان من الموت، كراهة منهم للقتال مخافة أن يقتلوا في الحرب. قال الزجّاج: معناه: رأيت المنافقين يشخصون نحوك بأبصارهم، وينظرون إليك نظرا شديدا، شزرا بتحديق شديد كراهة منهم للجهاد نظر المغشيّ عليه من الموت.
قوله تعالى: {فَأَوْلى لَهُمْ} (20)؛كلمة وعيد لهم، ومعناه: وليهم المكروه والعقاب أولى لهم، وهذا كما قال تعالى {أَوْلى لَكَ فَأَوْلى}
(2)
،قال الأصمعيّ:(معنى قوله: أولى لك فأولى؛ أي وليك وقاربك ما تكره)
(3)
.
وقوله تعالى: {طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ؛} ابتداء وخبره محذوف، تقديره:
طاعة وقول معروف أمثل وأحسن، والمعنى على هذا: أنّ الله تعالى قال: لو أطاعوا وقالوا قولا معروفا كان أمثل وأحسن. ويجوز أن يكون هذا متّصلا بما قبله على معنى: فأولى لهم طاعة لله ولرسوله وقول معروف بالإجابة والطاعة.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (24295).
(2)
القيامة 34/.
(3)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 16 ص 244؛ قال القرطبي: قال الأصمعي: (معناه قاربه ما يهلكه، أي نزل به
…
).
قوله تعالى: {فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ؛} فإذا وجد الأمر ولزم فرض القتال، نكلوا وكذبوا فيما وعدوك من أنفسهم، {فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ} (21)؛أي لو صدّقوا الله في إيمانهم وجهادهم لكان خيرا لهم من المعصية والكراهة والمخالفة.
وقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ؛} أي فلعلّكم إن انصرفتم من محمّد صلى الله عليه وسلم وعن ما يأمركم به أن تعودوا إلى مثل ما كنتم عليه من الكفر والفساد في الأرض من وأد البنات، ومن قتل بعضكم بعضا كفعل الجاهليّة، وقيل: معناه: لعلّكم إن تولّيتم أمر هذه الأمة بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تفسدوا في الأرض بالقتال، {وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ} (22)؛بالبغي، فيقتل قريش بني هاشم، وبنو هاشم قريشا.
وذهب كثير من الناس إلى أنّ هؤلاء بنو أميّة، والمعنى: فلعلّكم إن أعرضتم عن الإيمان والقرآن، وفارقتم أحكامه أن تفسدوا في الأرض فتعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهليّة من الفساد وقتل بعضكم بعضا، وتقطّعوا أرحامكم بسفك الدماء بعد ما جمعكم الله بالاسلام والألفة، فتعودوا إلى ما كنتم عليه في جاهليّتكم من القتل والبغي وقطيعة الرّحم. وقال المسيّب بن شريك
(1)
: (معناه: فهل عسيتم إن تولّيتم أمر النّاس أن تفسدوا في الأرض بالظّلم، نزلت في أميّة بن خلف وفي بني هاشم)
(2)
.
قرأ يعقوب وأبو حاتم: «(وتقطعوا)» مخفّفا من القطع اعتبارا بقوله {وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}
(3)
،وقول الحسن «(وتقطّعوا)» بفتح الحروف المشدّدة اعتبارا بقوله {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ}
(4)
،وقرأ الكافّة «(وتقطّعوا)» بضمّ التاء وتشديد الطاء وكسرها من القطع على التكثير لأجل الأرحام.
(1)
المسيّب بن شريك، أبو سعيد التميمي الشقري، كوفي الأصل، الغالب على ترك حديثه، توفي سنة (186) من الهجرة. ترجم له الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: الرقم (7123).
(2)
ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 1198.والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 16 ص 245.
(3)
البقرة 27/.
(4)
المؤمنون 53/.
ثم ذمّ الله تعالى من يريد ذلك فقال تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ} (23)؛فلا يسمعون الحقّ ولا يهتدون للرّشد، يعني المنافقين الذين يفسدون في الأرض، ويقطّعون أرحامهم، ونسبهم الله تعالى إلى الصّمم والعمى لإعراضهم عن أمر الله تعالى، وأمّا في مشاهدتهم فإنّهم لا يكونون صمّا ولا عميانا، ومثله قوله تعالى:{وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ}
(1)
.
قوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؛} فتعرفوا ما يوعدون للمتمسّك بالقرآن، {أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} (24)؛يعني الطّبع على القلب، وهذا استعارة لإغلاق القلب عن معرفة الإسلام والقرآن، وكأنّ على قلوبهم أقفالا تمنعهم من الاستدلال.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى؛} قال قتادة: (هم كفّار أهل الكتاب، كفروا بمحمّد صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه ويجدون صفته في كتابهم، ونعته مكتوبا عندهم)
(2)
.فمعناه: إنّ الذين رجعوا كفّارا من بعد ما ظهر لهم أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته في كتابهم، {الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ؛} أي زيّن لهم القبيح، {وَأَمْلى لَهُمْ} (25)؛الله تعالى؛ أي أمهلهم موسّعا عليهم ليتمادوا في طغيانهم، ولم يعجّل عليهم بالعقوبة.
ويحسن الوقوف على قول: (سوّل لهم) لأنه فعل الشيطان، والإملاء فعل الله تعالى، وعلى قول الحسن: لا يحسن الوقوف؛ لأنّه يقال في تفسيره: {(وَأَمْلى لَهُمْ)} :مدّ لهم الشّيطان في العمل.
وقرأ أبو عمرو «(وأملي لهم)» على ما لم يسمّ فاعله، وهو حسن للفصل بين فعل الشّيطان وفعل الله تعالى، ونعلم يقينا أنّه لا يؤخّر أحد مدّة أحد ولا يوسّع فيها إلاّ الله تعالى. وقرأ مجاهد «(وأملي)» بضمّ الهمزة وإسكان الياء على معنى: وأنا أملي لهم.
(1)
الأحقاف 26/.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (24308 و 24309).
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ؛} معناه: ذلك الإملاء لليهود بأنّهم قالوا للمشركين: سنطيعكم في بعض الأمور؛ أي في التّعاون على عداوة محمّد صلى الله عليه وسلم، قالوا ذلك فيما بينهم، فأخبر الله تعالى عنهم وأعلم أنه يعلم ذلك فقال:{وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ} (26)؛وقرأ بكسر الألف على المصدر؛ أي إسرارهم بكسر الألف، والمعنى: والله يعلم أسرار اليهود والمنافقين.
قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ؛} أي كيف يكون حالهم إذا قبضت أرواحهم الملائكة، {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ} (27)،وظهورهم بمقامع الحديد عند قبض الأرواح.
ثم ذكر سبب ذلك الضّرب: {ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ} (28)؛بما كتموا من التوراة، وكفروا بمحمّد صلى الله عليه وسلم، وكرهوا ما فيه رضوان الله وهو الطاعة والإيمان {(فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ)} ،معنى ما كان من برّ وصلة وخير عملوه في غير الإيمان بكفرهم.
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ؛} أظنّ المنافقون؛ {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ} (29)؛يعني أن لن يتلوا شيئا يظهر فيه حقدهم للمسلمين وضغنهم عليهم، فأمر الله تعالى بالقتال والنّفقة، فبخل المنافقون بالمال فظهر نفاقهم، والضّغن: هو الحقد الذي يضمره الإنسان بقلبه ولا يظهره لغيره.
قوله تعالى: {وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ؛} أي لعرّفناكهم وأعلمناكهم، {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ؛} أي بالعلامة القبيحة التي نظهرها عليهم، قال الزجّاج:
(معناه: لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة؛ وهي السّيماء؛ فلعرفتهم بتلك العلامة)
(1)
.
وقوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ؛} أعلم الله النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يطلعه على نفاقهم في فحوى كلامهم، فكان لا يتكلّم بعد نزول الآية منافق عند النبيّ صلى الله عليه وسلم إلاّ عرف بكلامه وبما يعتذرون إليه به من المعاذير الكاذبة.
(1)
قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 5 ص 13.
قال المفسّرون معنى قوله (في لحن القول) أي في فحوى القول، ومعناه:
ومقصده، ويقال: فلان لحن بحجّته ولاحن في كلامه، وفي الحديث:[لعلّ بعضكم ألحن بحجّته]
(1)
أي أذهب بها في الجهات لقوّته على تصريف الكلام، وإذا قيل:
لحن في كلامه أو ألحن؛ فمعناه: ذهب بالكلام إلى خلاف جهة الصّواب.
ولحن القارئ إذا ترك الإعراب الصّواب وعدل عنه. وقوله تعالى: {وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ} (30)؛أي يعلم ظواهرها وبواطنها.
قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ؛} لنعاملكم معاملة المختبر فيما نأمركم به من الجهاد حتى نميّز المجاهدين منكم من غيرهم، والصابرين في القتال من الذين لا يصبرون.
وإنما كنّى بالعلم عن التمييز؛ لأنه يتوصّل بالعلم إلى التمييز، فكان الله تعالى عالما بكلّ منهم قبل أن خلقهم، ولكن أراد بالعلم في هذه الآية العلم الذي يجب به الجزاء، وهو علم الشهادة لا علم الغيب.
وقوله تعالى: {وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ} (31)؛أي نختبر بما نأمركم به وننهاكم عنه أخباركم وأحوالكم حتى يظهر للناس، وكان الفضيل بن عياض إذا أتى على هذه الآية بكى وقال:(إنّك إن بلوت أخبارنا وفضحتنا وهتكت أستارنا)
(2)
.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ؛} يعني بني قريظة والنّضير، {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى؛} في التوراة، {لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً؛} بتركهم الهدى، إنما يضرّون أنفسهم، {وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ} (32)؛فلا يريدون لها في الآخرة ثوابا.
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 23 ص 281:الحديث (803) عن أم سلمة، والحديث (902) بإسناد صحيح. وأخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الحيل: باب (10):الحديث (6967).وله أسانيد عند الطبراني وغيره.
(2)
ذكره أيضا القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 16 ص 254.
قوله تعالى: {*يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ} (33)؛أي أطيعوا الله في الفرائض وأطيعوا الرسول في السّنن، {(وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ)} بالشّرك والربا، فإن الشرك يبطل العمل، قال الله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}
(1)
،والرّياء يحبط العمل بالمعصية، وقيل: بالعجب. وقال عطاء: (بالشّكّ والنّفاق)،قال الحسن:(بالمعاصي والكبائر).
ويستدلّ بظاهر هذه الآية: على أنّ من شرع في قربة نحو الصلاة والصوم والحجّ، لم يجز له الخروج منها قبل إتمامها؛ لما فيه من إبطال عملها.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} (34)؛وإنما ذكر الموت على الكفر؛ لأن الكفار قبل الموت يفرض أن يؤمن فيغفر له، وإذا مات على كفره حبط عمله حبوطا لا يلحقه التدارك والتّلافي.
قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ؛} أي لا تعطفوا عن قتال الكفّار وتدعوهم إلى الصّلح {(وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ)} بما وعدكم الله من النصر في الدّنيا والثواب والكرامة في الأخرى. قال الزجّاج: (منع الله المسلمين أن يدعوا الكفّار إلى الصّلح وأمرهم بحربهم حتّى يسلموا)(2){(وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ)} أي الغالبون.
قوله تعالى: {وَاللهُ مَعَكُمْ؛} أي بالعون والنّصرة على عدوّكم بثوابي حفظكم، {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ} (35)؛أي لن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم، وفي الآية دلالة على أنّه لا يجوز للإمام أن يدعوا الكفار إلى الصّلح، ولا أن يجيبهم إلى الصّلح في حال ما تكون الغلبة للمسلمين، فإنّ الواو في قوله:{(وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ)} واو الحال، كما يقال: لا تسلّم على فلان وأنت راكب؛ أي في حال ما كنت راكبا.
(1)
قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 5 ص 14.
قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ؛} أي الدّنيا بما فيها من زينتها باطل وغرور، تفنى وتزول عن قريب، واللّعب: العمل الذي لا تتعلّق به فائدة، واللهو: هو الفرح الذي لا يبقى.
قوله تعالى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ؛} أي تؤمنوا بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وتتّقوا الفواحش والكبائر، يؤتكم ثواب أعمالكم كافيا وافيا، {وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ} (36)؛كلّها في الإنفاق في سبيله، بل يأمركم بالإيمان والطاعة ليثيبكم الجنّة، ونظيره قوله تعالى:{ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ}
(1)
.
وقيل: معناه: ولا يسألكم محمّد صلى الله عليه وسلم أموالكم، وقيل: معناه: ولا يسألكم الله ورسوله أموالكم كلّها، إنما يسألكم ربع العشر، فطيبوا نفسا،
قوله تعالى: {إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ} (37)؛معناه: إن يجهدكم في المسألة، ويلحّ عليكم ويسألكم جميع أموالكم، فبخلوا بها ويمنعوا الواجب.
وقوله {(وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ)} التي تحدث في القلوب بسبب البخل، قال قتادة:(قد علم الله أنّ في مسألة المال خروج الأضغان)
(2)
.وقوله (أضغانكم) أي بغضكم وعداوتكم لله ولرسوله، ولكن فرض عليكم يسيرا وهو ربع العشر. والإحفاء في المسألة: هو الإلحاح والتشديد. وقيل: معنى الآية: ولا يسألكم أموالكم لنفسه، بل يسألكم ليؤتكم أجوركم.
قوله تعالى: {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ؛} يعني ما فرض عليهم في أموالهم من الزكاة، {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ؛} بذلك، {وَمَنْ يَبْخَلْ؛} بذلك، {فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ؛} عاقبة بخله تعود عليه في العقاب، فيصير بخله على نفسه، {وَاللهُ الْغَنِيُّ؛} عن ما عندكم من الأموال وعن أعمالكم، {وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ،} وأنتم محتاجون إلى الله وإلى ما عنده من
(1)
الذاريات 57/.
(2)
ذكره أيضا البغوي في معالم التنزيل: ص 1200.والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 16 ص 257.
الجزاء والرّحمة والمغفرة، ثم يأمركم بالإنفاق لحاجته ولا لجرّ منفعة ولا لدفع مضرّة، وإنما أمركم بذلك لمصالحكم.
قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ؛} أي وإن تعرضوا عن طاعة الله يستبدل قوما لا يعصون ويفعلون ما يؤمرون، وقيل: معناه: وإن تعرضوا عن الإسلام وعمّا افترض عليكم من حقّ يستبدل قوما غيركم أطوع لله منكم، {ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} (38)؛بل يكون أمثل منكم وأطوع. قال الكلبيّ:
(هم كندة والنّخع)،وقال الحسن:(هم العجم)،قال عكرمة:(هم فارس والرّوم)
(1)
.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه سئل عن هذه الآية؛ فقيل: يا رسول الله من هؤلاء الّذين إن تولّينا استبدلوا ثمّ لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله في صدر سلمان الفارسيّ-وقيل: على فخذه-وقال: [هذا وأصحابه].وقال: [والّذي نفسي بيده، لو كان الإيمان معلّقا بالثّريّا لتناوله رجال من أبناء فارس]
(2)
.قال الكلبيّ في قوله:
{(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ)} قال: (لم يتولّوا ولم يستبدل بهم)
(3)
.
آخر تفسير سورة (محمد) والحمد لله رب العالمين.
(1)
ذكر البغوي هذه الأقوال الثلاثة للكلبي والحسن وعكرمة في معالم التنزيل: ص 1200.
(2)
أخرجه بألفاظه الطبري في جامع البيان: الحديث (24337) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وابن أبي حاتم في التفسير الكبير: الحديث (18592 و 18593).والطبراني في المعجم الأوسط: ج 9 ص 387:الحديث (8833).وابن حبان في الإحسان: كتاب إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة: الحديث (7123) وإسناده صحيح.
(3)
لم يتولّ العرب عن حمل مسئولية الاسلام، ولا المسلمون عن أداء الأمانة في إنفاذ الشريعة وحتى غياب الخلافة في بدايات القرن الرابع عشر من الهجرة، حيث تمكن الكفار من هدم الخلافة وتعطيل الشريعة بالقوة وليس بالإقناع، ولم يرجع المسلمون عن إيمانهم.
ومن وجه آخر فإن هذا الحديث تشريف لسيدنا سلمان الفارسي وليس تخصيصا للقوم، قال مجاهد:(من شاء).ودلالة الآية تفيد تأثيم التخلّي عن تحمّل مسئولية رعاية الدعوة وسياسة الأمّة. والله أعلم.