المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة التّحريم سورة التّحريم مدنيّة، وهي ألف وستّون حرفا، ومائتان وأربعون - تفسير الحداد المطبوع خطأ باسم التفسير الكبير للطبراني - جـ ٦

[أبو بكر الحداد]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الأحقاف

- ‌سورة محمّد صلى الله عليه وسلم

- ‌سورة الفتح

- ‌سورة الحجرات

- ‌سورة ق

- ‌سورة الذّاريات

- ‌سورة الطّور

- ‌سورة النّجم

- ‌سورة القمر

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الصّفّ

- ‌سورة الجمعة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة التّغابن

- ‌سورة الطّلاق

- ‌سورة التّحريم

- ‌سورة الملك

- ‌سورة ن (القلم)

- ‌سورة الحاقّة

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجنّ

- ‌سورة المزّمّل

- ‌سورة المدّثّر

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الدّهر

- ‌سورة والمرسلات

- ‌سورة النّبأ

- ‌سورة النّازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التّكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطفّفين

- ‌سورة انشقّت (الانشقاق)

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الطّارق

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌سورة البلد

- ‌سورة الشّمس

- ‌سورة اللّيل

- ‌سورة الضّحى

- ‌سورة ألم نشرح

- ‌سورة والتّين

- ‌سورة العلق

- ‌سورة (القدر)

- ‌سورة لم يكن

- ‌سورة الزّلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التّكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة (الكافرون)

- ‌سورة النّصر

- ‌سورة تبّت (المسد)

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة النّاس

الفصل: ‌ ‌سورة التّحريم سورة التّحريم مدنيّة، وهي ألف وستّون حرفا، ومائتان وأربعون

‌سورة التّحريم

سورة التّحريم مدنيّة، وهي ألف وستّون حرفا، ومائتان وأربعون كلمة، واثنتا عشرة آية. قال صلى الله عليه وسلم:[من قرأها أعطاه الله توبة نصوحا]

(1)

.

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ؛} وذلك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قسّم الأيّام بين نسائه وكان له تسع نسوة، وكان لكلّ امرأة منهنّ يوم وليلة، ثمّ إنّ حفصة زارت أباها في يوم كان ذلك اليوم لعائشة، فدخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم بيت حفصة فوجد فيه جاريته ماريّة فأخلا بها، فلمّا رجعت حفصة إلى منزلها، وقفت حفصة على ذلك الباب فلم تدخل حتّى خرجت ماريّة، ثمّ دخلت فقالت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: إنّي قد رأيت من كان معك في البيت، فلمّا رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم الغيرة والكآبة في وجهها قال:[اكتمي عليّ، ولا تخبري عائشة بذلك] ثمّ قال: [هي عليّ حرام] يعني ماريّة، فأخبرت حفصة عائشة وكانتا متصافيتين، فنزل جبريل عليه السلام فأخبر النّبيّ بذلك، فدعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم حفصة وقال لها:[ما الّذي حملك على ذلك؟] قالت: ومن الّذي أخبرك؟ قال: [أخبرني العليم الخبير].

فغضب النّبيّ صلى الله عليه وسلم على حفصة فطلّقها تطليقة واعتزل نساءه كلّهنّ، فمكث سبعا وعشرين ليلة ينتظر ما ينزل فيهنّ، فأنزل الله هذه الآيات. ومعناها: يا أيّها النبيّ لم تحرّم ما أحلّ الله لك، {تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ،} طالبا رضى أزواجك،

(1)

تقدم وسيأتي، وهو حديث موضوع باطل. أخرجه الثعلبي أيضا في الكشف والبيان: ج 9 ص 343.

ص: 300

{وَاللهُ غَفُورٌ؛} لما كان منك من التحريم، {رَحِيمٌ} (1)؛بك حيث رخّص لك الخروج منه بالكفّارة، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم رقبة وعاد إلى ماريّة

(1)

.

وروي: أنّ حفصة رضي الله عنها استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبيها في يومها، فأذن لها وهو جالس في بيتها، فمضت، فأرسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى جاريته ماريّة القبطيّة فأدخلها في حضنه، وكان ذلك في يوم حفصة، فلمّا رجعت حفصة وجدت باب بيتها مغلقا، فجلست على الباب حتّى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقا وحفصة تبكي، فقال لها:[ما يبكيك؟] قالت: إنّما أذنت لي بالزّيارة من أجل هذا؛ أدخلت أمتك بيتي ووقعت عليها في يومي وعلى فراشي؟ ما رأيت لي حرمة وحقّا، ما قطّ صنعت هذا بامرأة من نسائك؟ فقال صلى الله عليه وسلم:[هي جاريتي فلا أحلّها الله، اسكتي هي عليّ حرام، ألتمس بذلك رضاك، ولا تخبري بذلك امرأة منهنّ، وهذه أمانة عندك]

(2)

.

ثمّ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت حفصة على الجدار الّذي كان بينها وبين عائشة، فقالت لها: ألا أبشّرك يا عائشة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرّم جاريته ماريّة، وقد أراحنا الله منها. وكانت عائشة وحفصة متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك، فغضب على حفصة وقال:[ما حملك على ذلك]،ثمّ طلّقها تطليقة.

وذهب بعض المفسّرين أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل على زينب بنت جحش شرب عندها شراب عسل تصلحه له، وكان يطول مكثه عندها، فاجتمعت عائشة وحفصة على أن يقولا له: إنّا نجد معك رائحة المغافير-وهو صمغ متغيّر الرّائحة يقع على الطّرف يأكله النّحل-فلمّا صار إلى كلّ واحدة منهما قالت له: إنّي أشمّ معك رائحة المغافير، فحرّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم على نفسه شرب العسل، فأنزل الله تعالى هذه

(1)

ذكره أهل التفسير بروايات عديدة وألفاظ كثيرة، عزاها السيوطي في الدر المنثور: ج 8 ص 214 - 216 إلى ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وعبد بن حميد.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (26656) عن ابن زيد.

ص: 301

الآيات

(1)

.والقول الأول أظهر، ولا يمتنع أنّ الأمرين قد كانا، وأنّ هذا نزل فيهما.

قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ؛} أي وجبت لكم كفّارة أيمانكم، {وَاللهُ مَوْلاكُمْ؛} أي متول أموركم وهو أولى أن يؤثروا مرضاته، {وَهُوَ الْعَلِيمُ؛} بما فيه صلاح خلقه، {الْحَكِيمُ} (2)؛في تدبير أمره.

وإنّما سميت الكفّارة تحلّة؛ لأنّها تجب عند انحلال اليمين، قال مقاتل:(معناه: قد بيّن الله لكم كفّارة أيمانكم في سورة المائدة، وأمر نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يكفّر عن يمينه، ويراجع جاريته ماريّة)

(2)

.

قوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً؛} يعني إسراره إلى حفصة، فلمّا أخبرت عائشة به أطلع الله نبيّه عليه السلام على ذلك. قوله تعالى:{فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ؛} وذلك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان عند ما رأى الكآبة في وجهها والغيرة أسرّ إليها شيئين: تحريم الجارية، وقال:

[أخبرك يا حفصة أنّ أباك وأبا بكر سيملكان أمّتي بعدي] فلمّا أظهره الله عليه أخبر حفصة بما قالت لعائشة من تحريم الجارية، وأعرض عن ذكر خلافة أبي بكر وعمر

(3)

.

وقرأ الحسن البصري والكسائي وقتادة (عرف بعضه) بالتخفيف أي غضب على حفصة من ذلك وجاراها فطلّقها، من قول القائل لمن أساء إليه: لأعرفنّ لك ما فعلت؛ أي لأجازينّك عليه، فجازاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن طلّقها، فلما علم عمر رضي الله عنه بذلك قال: لو كان في آل الخطّاب خير لما طلّقك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

في الدر المنثور: ج 8 ص 213؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن سعد وعبد بن حميد والبخاري وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها وذكره.

(2)

قاله مقاتل في التفسير: ج 3 ص 276.

(3)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 12 ص 92:الحديث (12640).والدارقطني في السنن: ج 4 ص 153 - 154:الوصايا: الحديث: (15).وفي مجمع الزوائد: كتاب الخلافة: باب الخلفاء الأربعة: ج 5 ص 178؛قال الهيثمي: (رواه الطبراني وفيه إسماعيل بن عمرو البجلي وهو ضعيف وقد وثقه ابن حبان، والضحاك لم يسمع من ابن عباس، وبقية رجاله ثقات).

ص: 302

ونزل جبريل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول له: راجعها فإنّها صوّامة قوّامة، وهي إحدى نسائك في الجنّة، فراجعها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال مقاتل:(لم يطلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة، وإنّما همّ به، فأتاه جبريل وقال له: لا تطلّقها فإنّها صوّامة قوّامة وهي من نسائك في الجنّة، فلم يطلّقها)

(1)

،وكان سفيان الثوريّ يقول:(ما استقصى كريم قطّ، وما زال التّغافل من فعل الكرام، عرّف رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بعض ما فعلت، وأعرض عن بعض).

قوله تعالى: {فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ؛} أي لمّا أخبر حفصة بما أظهره الله عليه، {قالَتْ؛} له:{مَنْ أَنْبَأَكَ هذا؛} أي من أخبرك أنّي أفشيت سرّك؟ {قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} (3).

قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ؛} معناه: إن تتوبا إلى الله من إظهار الغيرة وإيذاء النبيّ صلى الله عليه وسلم والتعاون عليه، {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما؛} أي مالت إلى الإثم وعدلت عن الحقّ، وهو أنّهما أحبّتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم، {وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ} أي تعاونا عليه بالإيذاء وإظهار الغيرة عليه من الجارية، {فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ؛} يتولّى حفظه ونصره ودفع الأذيّة عنه، {وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ؛} أبو بكر وعمر يتولّيانه وينصرانه على من عاداه، {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ} (4)؛ أعوانه وأنصاره.

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: (حدّثني عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: لمّا اعتزل النّبيّ صلى الله عليه وسلم نساءه، دخلت عليه وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله ما شقّ عليك من أمر النّساء؟ فإن كنت طلّقتهنّ فإنّ الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلّما تكلّمت وأحمد الله بكلام، إلاّ رجوت أن يكون الله يصدّق قولي الّذي أقول، فنزلت هذه الآية {(وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ)}.

(2)

.

(1)

قاله مقاتل في التفسير: ج 3 ص 377.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (26677).ومسلم في الصحيح: كتاب الطلاق: باب في الإيلاء: الحديث (1479/ 30).

ص: 303

وعن ابن عبّاس قال: (سألت عمر رضي الله عنه فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان اللّتان تظاهرا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: عائشة وحفصة)

(1)

.

ثمّ أخذ عمر رضي الله عنه يسوق الحديث قال: (كنّا معشر قريش قوما نغلب نساءنا، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، قال: فغضبت على امرأتي فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: وما ينكر أن أراجعك؟ فو الله إنّ أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهنّ اليوم إلى اللّيل. قال: فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت:

نعم، قلت: وتهجره إحداكنّ اليوم إلى اللّيل؟ قالت: نعم، قلت: أفتأمن إحداكنّ أن يغضب الله لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟! لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسليني ما بدا لك، ولا يغرّك إن كانت جارتك هي أوسم وأحبّ إلى رسول الله منك) يعني عائشة رضي الله عنها

(2)

.

قرأ أهل الكوفة «(تظاهرا عليه)» بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد.

وقوله تعالى: {عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ؛} هذا إيعاد وتخويف لحفصة وعائشة وسائر أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بخير منهنّ إن أحوجنه إلى مفارقتهن، و (عسى) من الله واجبة، {مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ؛} نعت للأزواج اللاتي كان يبدّله لو طلّق نساءه، ومعنى (مسلمات) أي خاضعات لله بالطاعة، مسلمات لأمر الله وقضائه، أي مصدّقات مؤمنات بتوحيد الله بالألسن والقلوب، {قانِتاتٍ؛} أي طائعات لله والنبيّ صلى الله عليه وسلم، {تائِباتٍ؛} أي راجعات إلى ما يحبّه الله، {عابِداتٍ؛} لله متذلّلات لله ولرسوله، {سائِحاتٍ؛} أي صائمات، {ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً} (5)؛ظاهر المراد.

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً؛} أي يا أيّها الذين آمنوا ادفعوا عن أنفسكم وأهليكم نارا، {وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ،}

(1)

أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب التفسير: الحديث (4915).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (26675).

ص: 304

حطبها الناس والحجارة، يعني حجارة الكبريت، والمعنى: اعملوا بطاعة الله وانتهوا عن معصيته، وعلّموا أولادكم وأهليكم الاجتناب عما تجب لهم به النار. وعن عمر رضي الله عنه: أنّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلنا؟ قال:

[تنهوهم عمّا نهاهم الله عنه، وتأمروهم بما أمركم الله به]

(1)

.

قوله تعالى: {عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ؛} أي على النار ملائكة غلاظ الأخلاق شداد أقوياء الأخذ والعقوبة، يدفع الواحد منهم في الدفعة الواحدة سبعين ألفا في جهنّم، لم يخلق الله فيهم شيئا من الرحمة، {لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ؛} من تعذيب أهلها، {وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} (6)؛من ذلك، جعل الله سرورهم في تعذيب المعذبين كما جعل سرور المؤمنين في الجنّة. وجاء في الخبر:[أنّ الملك منهم يكسر عظام المعذب، فيقول له: ألا ترحمني؟ فيقول له: كيف أرحمك وأرحم الرّاحمين لم يرحمك].

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ؛} أي لا تعتذروا اليوم فيما قدّمتم لأنفسكم، إنه لا تقبل منكم الأعذار، {إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (7)؛في الدّنيا، ولا تظلمون بزيادة على ما تستحقّون من العذاب.

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً؛} قال ابن عبّاس: (التّوبة النّصوح: هي النّدم بالقلب، والاستغفار باللّسان، والإقلاع بالبدن، والإضمار على أن لا يعود)

(2)

.وعن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله ما التّوبة النّصوح؟ قال: [أن يتوب التّائب ثمّ لا يرجع في ذلك، كما لا يعود اللّبن في الضّرع]

(3)

.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (26693) عن علي موقوفا، و (26694) عن ابن عباس، و (26695) عن مجاهد، و (26696) عن قتادة.

(2)

في الجامع لأحكام القرآن: ج 18 ص 198 نقله القرطبي عن الكلبي.

(3)

في الدر المنثور: ج 8 ص 227؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال معاذ بن جبل) وذكره.

ص: 305

قال ابن مسعود: (التّوبة النّصوح أن تكفّر كلّ سيّئة)

(1)

،وقال أبو ذرّ:

(النّصوح: الصّادقة) أي يتوبوا توبة صادقة، يقال: نصحته أي صدّقته. وقيل: النّصوح المستقيمة المتقنة التي لا يلحقها النقص والإبطال. وقال الفضيل: (التّوبة النّصوح: أن يكون الذنب نصب عينيه، ولا يزال كأنّه ينظر إليه)

(2)

،وقال أبو بكر الورّاق:(هو أن تضيق الأرض عليك بما رحبت، وتضيق عليك نفسك كتوبة الثّلاثة الّذين خلّفوا)

(3)

.

وقال الدقّاق: (هي ردّ المظالم، واستحلال الخصوم، وإدمان الطّاعات)

(4)

.

وقال ذو النّون: (علامتها ثلاثة أشياء: قلّة الكلام، وقلّة الطّعام، وقلّة المنام)، وقال بعضهم: هي أن يكون لصاحبها دمع مسفوح وقلب من المعاصي جموح، فإذا كان كذلك فهي توبة نصوح.

وقال فتح الموصليّ

(5)

: (علامتها ثلاثة: مخالفة الهوى، وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظّمأ).وقال شقيق البلخيّ

(6)

: (هي أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة، ولا يقلع من النّدامة).وقال الجنيد: (هي أن ينسى ما سوى الله، ولا يذكر إلاّ الله)

(7)

.

قوله تعالى: {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ؛} هذا وعد من الله لأنّ (عسى) من الله واجبة، والصّلوات الخمس كفّارات لما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر. قوله تعالى:{وَيُدْخِلَكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ؛}

(1)

أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب التفسير: الحديث (3884) وقال: حديث صحيح.

(2)

ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 18 ص 198.

(3)

ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 18 ص 198.

(4)

ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 18 ص 198.

(5)

فتح بن سعيد الموصلي، (وكان فتح رجلا من العرب شريفا زاهدا).ترجم له أبو نعيم في حلية الأولياء: ج 8 ص 294.

(6)

شقيق بن إبراهيم البلخي، أحد الزهاد من المشرق، ترجم له أبو نعيم في حلية الأولياء: ج 8 ص 58.

(7)

نقل هذه الأقوال أيضا القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 18 ص 198 - 199.

ص: 306

أي يكرم الله تعالى المؤمنين بهذه الكرامة في يوم لا يسوء الله النبيّ ولا يخجله ولا يسوء {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ؛} والمعنى: لا يدخلهم الله النار.

وقوله: {نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؛} ليدلهم في الجنّة، {وَبِأَيْمانِهِمْ؛} يعني نور كتابهم الذي يعطونه بها، {يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا؛} أي يقولون ذلك بعد ما ذهب نور المنافقين، والمعنى: أتمم لنا نورنا على الصّراط إلى أن ندخل الجنة، {وَاغْفِرْ لَنا؛} ما سلف من ذنوبنا، {إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (8)؛من إتمام النور والمغفرة، فيجيب الله دعاءهم ويفعل ذلك لهم، فيكون الصّراط على المؤمنين كما بين صنعاء والمدينة، يمشي عليه بعضهم مثل البرق، وبعضهم مثل الريح، وبعضهم كعدو الفرس، وبعضهم يمشي وبعضهم يزحف، ويكون على الكافرين كحدّ السيف مذهبه.

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنافِقِينَ؛} أي جاهد الكفار بالسّيف، والمنافقين باللّسان بالزّجر والوعظ حتى يسلموا، وسمّاهما جهادا لاشتراكها في بذل الجهد، {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ؛} أي على الفريقين بالفعل والقول، {وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (9)،وبيّن أنّ مصيرهم في الآخرة إلى النار.

وقال الحسن: (كانوا أكثر من كان يصيب الحدود في ذلك الزّمان المنافقون، فأمر الله أن يغلظ عليهم في إقامة الحدّ)

(1)

.وعن ابن مسعود قال: (إذا لم تقدروا أن تنكروا على الفاجر-ف-بوجوه مكفهرّة).

قوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما؛} أي فخالفتاهما في الدّين، قال ابن عباس: (ما بغت امرأة نبيّ قطّ، فأمّا خيانة امرأة نوح، فإنّها قالت لقومه: إنّه مجنون فلا تصدّقوه، وأمّا خيانة امرأة لوط فإنّها كانت تدلّ قومه على أضيافه، كان إذا نزل بلوط ضيف باللّيل أوقدت النّار، وإذا نزل بالنّهار أدخنت ليعلم قومه أنّه قد

(1)

ذكره القرطبي أيضا في الجامع لأحكام القرآن: ج 18 ص 201.

ص: 307

نزل به ضيف)

(1)

.وقال الكلبيّ: (أسرّتا النّفاق، وأظهرتا الإيمان) ولأنّ الخيانة في الفراش لا يجوز أن تكون مرادة في هذه الآية؛ لأنّها عيب يرجع إلى الزوج فينفر الناس عنه.

قوله تعالى: {فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً؛} أي لم يدفعا عنهما عذاب الله، أعلم الله تعالى أنّ أحدا لا يجزي عن أحد شيئا، وأنّ الإنسان لا ينجو إلاّ بعمله، وقطع الله بهذه الآية طمع من ركب المعصية، ورجا أن ينفعه صلاح غيره، وأخبر الله تعالى أن معصية غيره لا تضرّه إذا كان مطيعا وهو قوله تعالى:{وَقِيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ} (10).

قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ؛} وهي آسية بنت مزاحم، كانت قد آمنت بموسى عليه السلام، فلمّا علم فرعون بإسلامها وتد لها أربعة أوتاد في يديها ورجليها، ومدّها للعذاب وشدّها على الأرض بالأوتاد، وألقى على صدرها صخرة عظيمة وألقاها في الشمس.

فكانت الملائكة تظلّها بأجنحتها وأبصرت الجنّة وهي كذلك فقالت: (رب ابن لي عندك بيتا في الجنّة)،فاستجاب الله دعاءها وألحقها بالشّهداء، ولم تجد ألما من عذاب فرعون لأنّها قالت:{وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} (11)؛أي الكافرين أهل دين فرعون. وليس في هذه الآية أنّ فرعون قتلها، وقد اختلف في ذلك، والأقرب أنه أجاب الله دعاءها فنجّاها من فرعون وقومه.

وفي قوله تعالى في الآية الأولى {(وَقِيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ)} تخويف لحفصة وعائشة، كأنه قال لعائشة وحفصة لا تكونا بمنزلة امرأة نوح ولوط في المعصية، وكونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم.

(1)

أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب التفسير: الحديث (3886)،وقال: صحيح الإسناد. والطبري في جامع البيان: الحديث (26709 - 26711).

ص: 308

قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها؛} عطف مريم على امرأة فرعون، وإحصان الفرج إعفافه وحفظه عن الحرام. قوله تعالى:{فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا؛} أي في جيب درعها، وذلك أنّ جبريل عليه السلام مدّ جيب درعها بإصبعه، ثم نفخ في جيبها فحملت، وبالكناية عن غير مذكور.

وقوله تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها؛} والشرائع التي شرعها الله في كتبه المنزّلة، وقرأ عيسى الجحدري والحسن «(بكلمة ربها)» على التوحيد يعنون عيسى عليه السلام. قوله تعالى:{وَكُتُبِهِ؛} أي وصدّقت بكتب الله تعالى وهو التوراة والإنجيل والفرقان وصحف ابراهيم وموسى وداود، وقرأ أبو عمرو ويعقوب «(وكتبه)» بالجمع، وتفسيره ما ذكرناه، وقرأ الباقون «(وكتابه)» على الواحد، والمراد به الإنجيل.

قوله تعالى: {وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ} (12)؛أي من المطيعين لله، وقال عطاء:(من المصلّين، كانت تصلّي بين المغرب والعشاء) تقديره: وكانت من القوم القانتين، ولم يقل من القانتات؛ لأنّ متعبّدها كان في المسجد مع العبّاد.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [كمل من الرّجال كثير، ولم يكمل من النّساء إلاّ مريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون، وإنّ فضل عائشة على سائر النّساء كفضل الثّريد على سائر الطّعام]

(1)

.وقال صلى الله عليه وسلم: [سيّدات نساء أهل الجنّة أربع: مريم وآسية وخديجة وفاطمة]

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الأطعمة: باب الثريد: الحديث (5418).ومسلم في الصحيح: كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل خديجة: الحديث (2431/ 70).

(2)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 11 ص 328:الحديث (12179).وفي مجمع الزوائد: ج 9 ص 223؛قال الهيثمي: (فيه محمد بن الحسن بن زبالة، وهو متروك، وليس في إسناده ذاك) وأخرجه أيضا في الرقم (11928).وفي مجمع الزوائد: ج 9 ص 223 قال الهيثمي: (رجاله رجال الصحيح، ولفظه: [أفضل نساء أهل الجنّة]).والحاكم في المستدرك: كتاب التفسير: الحديث (3889)،وقال: صحيح الإسناد.

ص: 309

وعن معاذ بن جبل قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة وهي تجود بنفسها فقال: [أتكرهين ما نزل بك يا خديجة وقد جعل الله في الكره خيرا كثيرا، فإذا قدمت على ضرّاتك فأقرءيهنّ منّي السّلام] قالت: يا رسول الله ومن هنّ؟ قال: [مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وكليمة بنت عمران أخت موسى]،فقالت: بالرّفاه والبنين)

(1)

.

آخر تفسير سورة (التحريم) والحمد لله رب العالمين

(1)

ذكره الثعلبي في الكشف والبيان: ج 9 ص 352،والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 18 ص 204.وفي مجمع الزوائد: باب ما جاء من الفضل لمريم: ج 9 ص 218؛قال الهيثمي: (رواه الطبراني منقطع الإسناد، وفيه محمد بن الحسن بن زبالة، وهو ضعيف).

ص: 310