الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الفيل
سورة الفيل مكّيّة، وهي ستّة وسبعون حرفا، وثلاث وعشرون كلمة، وخمس آيات. قال صلى الله عليه وسلم:[من قرأ سورة الفيل عافاه الله أيّام حياته في الدّنيا من القذف والمسخ]
(1)
.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ} (1)؛وذلك أنّ فئة من قريش خرجوا تجّارا إلى أرض النجاشيّ، فساروا حتى دنوا من ساحل البحر، ثم نزلوا بحضرة بيت، وكان ذلك البيت مصلّى للنجاشيّ وقومه من النّصارى، فأجّجوا نارا استعملوها لبعض ما احتاجوا إليه، ثم رحلوا ولم يطفئوا تلك النار، وكان ذلك في يوم عاصف، فهاجت الريح فاحترق البيت الذي كان مصلّى للنجاشيّ، وكانوا يعظّمون ذلك البيت كتعظيم العرب الكعبة، فقصدوا بذلك السبب مكّة عازمين على تحريق بيت الله تعالى، ويستبيحوا أهل مكّة.
فبعث النجاشيّ أبرهة، فخرج أبرهة في سائر الحبشة، وخرج معه بالفيل، فسمعت بذلك العرب، فأعظموه ورأوا جهاده حقّا عليهم حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة، فخرج إليه ملك من ملوك حمير يقال له ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من العرب إلى حرب أبرهة وجهاده، فأجابه من أجابه فقاتله، فهزم ذو نفر وأصحابه، وأخذ ذو نفر أسيرا، فلما أراد أبرهة أن يقتله قال له ذو نفر: لا تقتلني فإنّي عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي، فتركه من القتل وحبسه معه في وثاق، وكان أبرهة رجلا حليما.
(1)
وهو شطر من حديث ضعيف. أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان: ج 10 ص 288.
ثم مضى أبرهة على وجهه للذي يريد، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعميّ فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ نفيل أسيرا وأتي به إلى أبرهة، فلما همّ بقتله قال له: لا تقتلني فإنّي دليلك في أرض العرب، فخلّى سبيله، وخرج معه يدلّه. حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه مسعود الثقفيّ في رجال من ثقيف، فقالوا له: أيّها الملك؛ إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون، ليس لنا عندك خلاف، وليس بيننا هذا الذي تريد هدمه-يعنون اللاّت-إنما تريد البيت الذي بمكّة، ونحن نبعث معك من يدلّك عليه، فتجاوز عنهم، واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظّمونه نحو تعظيمهم الكعبة.
قال ابن اسحاق: فبعثوا معه أبا رغال يدلّه على الطريق إلى مكّة، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال، فهنالك رجمت العرب قبره، فهو القبر الذي يرجم بالمغمس، فلما نزل أبرهة بالمغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له: الأسود بن مقصود، على خيل له حتى انتهى إلى مكّة، فساق إليه أموال أهل يمامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطّلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيّدها، فهمّت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم أن يقاتلوه، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك.
وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكّة وقال له: سل عن سيّد هذا البلد وشريفهم، وقل له: إنّي لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربي فأتني به. فلمّا دخل حناطة مكّة سأل عن سيّد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطّلب بن هاشم، فجاءه فقال له ما أمره أبرهة، فقال له عبد المطّلب: ما لنا به من طاقة ولا نريد حربه، ولكن هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم، فإن لم يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن لم يحل بينه وبينه، فو الله ما عندنا دفع عنه.
فقال له حناطة: انطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه عبد المطلب حتى أتى المعسكر، فسأل عن ذي نفر وكان له صديقا حتى دخل عليه وهو في مجلسه، فقال: يا ذا نفر، هل عندك من غنى فيما نزل بنا، فقال: وما غنى رجل أسير
بيد ملك ينتظر أن يقتله غدوّا أو عشيّا، ما عندي من غنى في شيء إلاّ أنّ أنيسا سائس الفيل صديق لي، فسأرسل إليه وأوصيه بك، وأعظّم عليه حقّك، وأسأله أن يستأذن لك الملك، ويكلّمه بما يدنيك إليه، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك. فقال:
افعل.
فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إنّ عبد المطلب سيد قريش وصاحب عير مكّة، يطعم الناس بالسهل، والوحش في رءوس الجبال، وقد أخذ له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه واشفع له عنده بما استطعت. فكلّم أنيس أبرهة فقال: أيّها الملك هذا سيّد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو رجل يطعم الناس بالسهل، والوحش في رءوس الجبال، فأذن له حتى يدخل عليك فيكلّمك في حاجته.
فأذن له أبرهة، وكان عبد المطلب من أوسم الناس وأجملهم، فلما رآه أبرهة أجلّه وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه وأجلسه معه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه:
قل له اذكر حاجتك، فقال له: حاجتي أن يردّ عليّ الملك مائتي بعير أخذها. فلمّا قال له ذلك، قال له أبرهة: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلّمتني في مائتي بعير أخذتها لك، وتترك شيئا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه فلم تكلّمني فيه.
قال له عبد المطلب: إنّي أنا ربّ الإبل، وإنّ للبيت ربّا سيمنعكه. قال: ما كان ليمتنع منّي، قال: أنت وذاك. فردّ أبرهة على عبد المطّلب إبله، فأخذها ورجع إلى قومه، فأمرهم بالخروج من مكّة والتحرّز في شعف الجبال والشّعاب خوفا من معرّة الجيش إذا دخل.
ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطّلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لاهمّ
(1)
…
إنّ العبد يم
نع رحله فامنع حلالك
(2)
لا يغلبنّ صليبهم
…
ومحالهم غدوا محالك
(3)
عمدوا حماك بجهلهم جهلا
…
وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكعب
…
تنا فأمر ما بدا لك
ثم أرسل عبد المطلب حلقة الباب، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرّزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكّة إذا دخلها، فلما أصبح أبرهة تهيّأ لدخول مكّة، وهيّأ فيله وعبّأ جيشه، وكان اسم الفيل محمودا، وأبرهة مجمع لهدم البيت.
فلما وجّهوا الفيل إلى مكّة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه فقال: ابرك محمودا أو ارجع راشدا من حيث أتيت، فإنّك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل وخرج نفيل يشتدّ حتى صعد الجبل، فضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوه في رأسه بالطّبرزين وهو الكلاّب ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه
(4)
فبزغوه
(5)
بها ليقوم فأبى، فوجّهوه راجعا فقام يهرول، ووجّهوه نحو الشّام فغطّ مثل ذلك، ووجّهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجّهوه نحو مكّة فبرك، فجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف، مع كلّ طائر منهم ثلاثة أحجار يحملها، حجرا في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمّص، لا تصيب أحدا منهم إلاّ هلك، وليس كلّهم أصابت.
(1)
(لاهمّ):أصلها اللهم. والعرب تحذف الألف واللام منها وتكتفي بما بقي، كما تقول: لاه أبو؛ أي لله أبوك. وكما قالوا: أجنك تفعل كذا وكذا؛ أي من أجل أنك تفعل كذا وكذا.
(2)
الحلال بالكسر جمع حلّة؛ وهي جماعة البيوت. والمراد هنا القول الحلول في المكان.
(3)
المحال: القوة والشدة. وغدوا: غدا، وهو اليوم الذي يأتي بعد يومك، ولم يستعمل تاما إلا في الشعر.
(4)
مراقه: أسفل بطنه. والمحاجن: جمع محجن وهي عصا معوجّة.
(5)
بزغوه: أدموه، ومنه المبزغ، وهو المشرط للحجّام ونحوه.
وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي جاءوا منها، ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلّهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفرّ والإله الطّالب
…
والأشرم المغلوب ليس الغالب
وكان أبرهة أشرم من ضربة ضربه إياها إرياط بحربة على جبهته، فشرمت حاجبه وعينه وأنفه وشفتيه، فكان يسمى الأشرم من حينئذ.
قال ابن اسحاق: فجعل عسكر أبرهة يتساقطون من الحجارة بكلّ طريق، ويهلكون على كلّ منهل، وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم تسقط أنامله أنملة أنملة، كلّما سقطت أنملة منها تبعتها مدّة تمثّ
(1)
قيحا ودما
(2)
،حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه
(3)
.
فلمّا بعث الله محمّدا صلى الله عليه وسلم كان مما يعدّ الله على قريش من النّعم عليهم وفضله ما ردّ عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم، فقال تعالى {(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ
…
)} إلى آخرها.
قوله تعالى: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} (2)؛معناه: ألم يجعل مكرهم في بطلان حيث لم ينتفعوا به.
قوله تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ؛} من البحر؛ {طَيْراً أَبابِيلَ} (3)؛ أي كثيرة يتبع بعضها بعضا، وقيل: أقاطيع كالإبل المؤبّلة، والأبابيل: جماعة في تفرقة، زمرة لا واحد لها عند أبي عبيدة والفرّاء، ويقال: واحدها أبول كما يقال عجول وعجاجيل، ويجوز أن يكون واحدها إبيل، كما يقال: إكليل وأكاليل.
قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} (4)؛أي بحجارة من طين مطبوخ خالصة، كما يطبخ الآجر. وقيل: السجّيل الشديد، كأنه قال: من شديد
(1)
تمث: ترشح.
(2)
في المخطوط: (مدة ثم قيح ودم).والصحيح كما أثبتناه.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (29405) وفيه بعض اختلاف في اللفظ والشعر.
عذابه، وعن أبي صالح قال: «رأيت في بيت أمّ هانئ بنت أبي طالب نحوا من قفيز من تلك الحجارة سود مخطّطة بخطوط حمر على قدر بعر الغنم، كأنّها جزع ظفاري
(1)
»
(2)
.
قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} (5)؛أي جعلهم كورق الزّرع الذي وقع فيه الدّود فخرقه، وكان ابن عبّاس يقول في صفة الطّير الأبابيل:
«لها خراطيم كخراطيم الطّير، وأكفّ ككفّ الكلاب، وكان إذا وقع الحجر على رأس الإنسان منهم خرج من دبره»
(3)
.
واختلفوا في تاريخ عام الفيل، فقال الكلبيّ:«كان قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث وعشرين سنة» .وروي: أنّه كان في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا أكثر العلماء، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:«رأيت قائد الفيل وسائسه بمكّة أعميين مقعدين يستطعمان»
(4)
.
آخر تفسير سورة (الفيل) والحمد لله رب العالمين
(1)
جزع الوادي: قطعه عرضا، وبابه قطع. والجزع منعطف الوادي. والجزع خرز معروف في سواده بياض كالعروق. ونسبته إلى ظفاري هي مدينة في أقصى اليمن. ينظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري: ج 8 ص 586.
(2)
في الدر المنثور: ج 8 ص 631 - 632؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وأخرجه ابن المنذر عن أبي الكنود وأخرجه أبو نعيم عن أم كرز الخزاعية) وذكره بمعناه عنهم وألفاظ قريبة.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (29384).
(4)
في الدر المنثور: ج 8 ص 633؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن إسحاق في السيرة والواقدي وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن عائشة وذكره).